سكان المدن هم ركاب في سفينة بعرض البحر، لكل منهم مكان يجلس عليه مع عائلته، يجب أن يحافظ عليها كيّ يسلم الجميع، لأنه إن تصرف بشكل خاطئ وأحدث فيها خرقًا فإن الماء سيدخل وسيغرق كل السفينة، وهو ما حصل في نينوى عام 2014، فعندما دب الفساد في جميع المؤسسات الأمنية والخدمية تَنشط الإرهاب وعاث فيها قتلاً وتهجيرًا وأرهق أهلها وأوقف أغلب مظاهر الحياة فيها، حتى غرق المركب في 2014 وراح ضحيته 40 ألف شخص.
كان الضباط الفاسدون الذين يقودون القوات الأمنية في نينوى يقدمون المعلومات الأمنية الخطيرة لعناصر تنظيم القاعدة مقابل أمنهم الشخصي ويعطون معلومات مغلوطة لمراجعهم في الدولة العراقية مقابل أمنهم المالي ورتبتهم، غير مبالين بأمن الآخرين، فلما غرق المركب، منهم من هرب ومنهم من لم يجد قشة يتعلق بها.
كل الطوائف والأديان والقوميات دفعت دية الغرق في نينوى، مال أو عيال، حتى عصابات القاعدة وداعش دفعوا الثمن من أنفسهم وأهلهم وأملاكهم وما زالوا مشردين ومهزومين وأهلهم في الخيام ومطلوبين للعدالة
كذلك كان السياسيون يطحن أحدهم الآخر ويشحن الشارع ضده، وكان أبرزهم يعادي حكومة بغداد المركزية ويعادي القوات الأمنية ليظهر بمظهر البطل المغوار الذي لا يقهر، وكان المركب يميل نحو الغرق حتى إذا دخله الماء هرب وترك أهله يواجهون مصيرهم.
كان الجميع ساكتين، أحزاب، قادة أمنيين، علماء، مثقفين، صحفيين، أساتذة، تجار، شيوخ عشائر، أناس بسطاء، وهم يرون الماء يدخل في المركب، إما خوفًا وضعفًا وإما من مبدأ اللامبالاة وإما استفادة من الوضع المتدهور، حتى غرق، وقد أوجب مركب نينوى الكبير الذي يتسع لأكثر من 4 ملايين نسمة على كل أهاليها دفع ذلك العدد الكبير من الضحايا من أبنائهم وأقربائهم وأصدقائهم.
كل الطوائف والأديان والقوميات دفعت دية الغرق في نينوى، مال أو عيال، حتى عصابات القاعدة وداعش دفعوا الثمن من أنفسهم وأهلهم وأملاكهم وما زالوا مشردين ومهزومين وأهلهم في الخيام ومطلوبين للعدالة، غرق العبارة ومن قبلها سقوط الموصل، ذكرنا بقصة أصحاب المركب الذين يريد كل واحد منهم أن يخرق من حصته، فإذا أخذ الناس على يده نجا ونجوا جميعًا، وإن تركوه بمبدأ (عدم الاكتراث) غرق وغرقوا جميعًا.
للأسف بعد كل ذلك لم نتعظ، ما زال بيننا من يخرق المركب من جهته وقد وضع قارب النجاة بجواره تحسبًا لدخول الماء، اليوم بعض أصحاب المولدات الأهالية التي تزود المناطق بالكهرباء يخرقون المركب من جهتهم بعدم الالتزام بتسعيرة خلية الأزمة، وبعض سائقي السيارات يخرقون المركب بتجاوزهم على الطريق والسير بشكل معاكس وضرب الإشارة، وبعض مديري الدوائر يخرقون المركب بتقصيرهم في تقديم الخدمة للناس وتجاه موظفيهم.
الأهم من ذلك أن يعي المواطن أن حصته من هذا المركب مهمة له وللملايين الأربعة الآخرين الذين يركبون معه، وأي خرق مهما كان صغيرًا سيسمح للماء بالتسرب وسيكون من الصعب إصلاحه في هذا الوقت
وأعضاء المجلس “المنتخبين” يخرقون المركب للتغطية على فسادهم الذي غطاه تراب المعارك وخيام النازحين، والعاكوب المحافظ المقال لنينوى المطلوب للعدالة مع عدد من كبار موظفي محافظته خرقوا المركب بهدر عشرات المليارات التي تحتاجها المدينة في أحلك ظروفها، والموظف المرتشي يخرق المركب ليملاً جيبه بالمال الحرام ضاربًا معاناة الناس عرض الحائط المتصدع من الحروب.
والمكاتب الاقتصادية التابعة للحشد الشعبي وفاصائله المختلفة تخرق المركب طولاً وعرضًا يدفعها الجشع والطمع مع الحقد، المشكلة أننا لن نتعظ مهما دفعنا من أثمان باهضة، نحتاج لنظرة على الأمم من حولنا لنرى كيف أبلت بعد أن غرقت مراكبها في أحداث وكوارث مرت عليها.
يحاول قائد عمليات نينوى ورئيس صندوق الإعمار وقائد الشرطة المشكلين لخلية الأزمة، مع عدد كبير من مثقفي وشباب ومتطوعي نينوى أن يأخذوا على يد الناس ويصلحوا ما تدمر من مركب نينوى وعاصمتها الموصل، فهي تحتاج الكثير بعد أن تدمرت جسورها وبنيتها التحتية ومصانعها ومطارها، الأهم من ذلك أن يعي المواطن أن حصته من هذا المركب مهمة له وللملايين الأربعة الآخرين الذين يركبون معه، وأي خرق مهما كان صغيرًا سيسمح للماء بالتسرب وسيكون من الصعب إصلاحه في هذا الوقت.