شهدت الدول العربية في السنوات الأخيرة ثورات الربيع العربي، التي كانت نقطة تحول كبيرة في تاريخ الشرق الأوسط وإدارته، منها ممن شهد تطوراً طفيفاً في السياسة أو الاقتصاد، ومنها ممن يعاني من ديكتاتورية وفساد كبير حتى الآن. ومؤخراً بدأنا نرى شكلاً جديداً وواضحاً لهيمنة باتت أهدافها ومساعيها واضحة حتى للعامة من الناس.
لم يعد خفياً على أحد هيمنة العسكر على الحياة اليومية والمجتمع ككل في عدة أوطان عربية، بل وتحول الأمر إلى إحكام قبضة العسكر وسيطرته على كل جوانب القطاعات الصحية، والتعليمية، والاقتصادية، وعلى وسائل الإعلام الرسمية أحياناً.
عُرف مصطلح “الهيمنة العسكرية” بأنه عملية تحويل فئات المجتمع إلى وحدات عسكرية يطغى عليها أسلوب الصراع، إذ يستولي العسكريون على السلطة في كل الشؤون برتبهم ووظائفهم بدون قوانين تؤهلهم لنيل هذه المكانة، أو وجود مواد في الدستور تسمح لهم بالعمل في أماكن ليس لهم خبرة بها، وبالأخص إن كانت وظائف حساسة كالتدريس والطبابة.
مع استلام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الحكم شهدت مصر إزدياداً ملحوظاً في عسكرة القطاعات والمديريات المدنية
تقوم العسكرة بشكل رئيسي على تمجيد الجيش والقوة العسكرية، متدخلةً في إدارة وزارات البلد وسياسته، والحل مكان السياسيين والمدراء والعاملين في القطاع الخاص والعام على حد سواء.
ويأتي النموذج المصري المثال الحيّ لهذه الهيمنة، إذ مع استلام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الحكم وهو قائد للقوات المسلحة المصرية سابقاً، شهدت مصر إزدياداً ملحوظاً في عسكرة القطاعات والمديريات حتى بات واضحاً استمرار عقود طويلة من عسكرة الجيش للبلاد.
عسكرة المناصب الإدارية (وزارة الصحة)
بدأت هيمنة العسكر على قطاع الصحة في مصر بشكل مركز أثناء أزمة ألبان الأطفال عام 2016، إذ وفقاً لقناة الـ CNN الأمريكية، قام الجيش المصري باستيراد ما يقارب 30 مليون عبوة حليب مدعياً رغبته في بيعها بأسعار أقل من السوق، مما خلق انتقادات واسعة لتدخل الجيش في الحياة العامة للمواطنين المصريين، فقد أثار هذا الحدث جدل واسع في الشارع المصري ويعتبر بداية التغلغل المباشر للجيش في هذا القطاع.
أيضاً هناك السيطرة على وزارة الصحة من خلال تعيين القيادات العسكرية المتقاعدة كمساعدين لوزير الشئون المالية والإدارية بالتحديد، أيّ السيطرة على الموازنة وكل موارد وزارة الصحة والتحكم في المشروعات والمناقصات والإنفاق، وعسكرة الطابع الإداري للوزارة بتصدير مفاهيم الضبط والربط.
يؤثر وجود العسكر في المؤسسات المدنية سلباً على وضع الموظفين من العامة، إذ يقلل نسبة حصولهم على ترقية أو تقدمهم في السلم الوظيفي
تم تعيين الكثير من الضباط واللواء المتقاعدين العسكريين في وزارة الصحة منذ عام 2013 حتى الآن، ومن أهم الشخصيات التي تم تعيينها اللواء محمد فتح الله وهو طبيب التخدير بالقوات المسلحة ليتولى منصب مدير مستشفى شرم الشيخ الدولي، بتاريخ 29 يونيو 2013، إبان احتجاز الرئيس السابق محمد حسني مبارك بالمستشفى على ذمة القضايا التي وجهت له بعد ثورة يناير، وكأن محمد فتح الله جاء في تلك الفترة لتلك المهمة فقط، فلم يبق بمنصبه سوى أربعة أشهر فقط حتى، 25 نوفمبر 2013، ثم تمت ترقيته إلى رئيس قطاع مكتب وزير الصحة.
يؤثر وجود العسكر في المؤسسات المدنية سلباً على وضع الموظفين من العامة، إذ يقلل نسبة حصولهم على ترقية أو تقدمهم في السلم الوظيفي ويشعرهم بأنهم موظفون من المرتبة الثانية وليس لهم الحق في الإدارة أو قدرة على تحمل المسؤولية.
ومما زاد احتقان العاملين سوءاً فرق الأجور وارتفاع رواتب القيادات العسكرية لما يتقاضونه من مبالغ ضخمة تصل إلى 15 ألف جنيه في الشهر، بينما لا يتعدى راتب الموظف العادي 1500 جنيه.
يصعب رصد الكثير من التغييرات في هذا القطاع لعدم وجود إعلان كامل عنه ولكن وجوده على أرض الواقع ظاهرة واضحة وجلية حتى وإن كان تحت مسميات مختلفة
كما أن الإدارة المباشرة لهذه الجهات تفرض شكلاً واحداً من طريقة تسيير العمل وهي إلقاء الأوامر بدون مناقشة، وتركيزهم على الجوانب التنظيمية فقط، هذا ما أدى بالعاملين في القطاع الصحي إلى شعور بأنهم يعملون داخل ثكنة عسكرية، ومجبرين على أداء مهامهم من دون رغبة حقيقية نابعة من إحساسهم بالواجب، مما عزز شعورهم بالاغتراب المهني.
في ظل هذا التقدم الواسع للجيش في القطاع الصحي، وقع الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي الذي كان رئيساً للقوات المسلحة حينها عام 2013 بالتصديق على إنشاء أول “كلية طب عسكري” تابعة للجيش المصري وإن التقدم للكلية سيكون من خلال مكتب تنسيق الكليات العسكرية، وهي أيضاً واحدة من محاولات هيمنة العسكر على قطاعيّ الصحة والتعليم معاً، بينما ما يزال سبب بنائها غريباً ومجهولاً.
يصعب رصد الكثير من التغييرات في هذا القطاع لعدم وجود إعلان كامل عنه ولكن وجوده على أرض الواقع ظاهرة واضحة وجلية حتى وإن كان تحت مسميات مختلفة مثل مدير إدارة المقر، أو مدير الأمن والاتصالات في المستشفى.
عسكرة قطاع التعليم وهيمنة الجنرالات
لم تقتصر هيمنة الجيش المصري على قطاع الصحة فقط بل امتدت لتصل إلى قطاع التعليم أيضاً، صانعة خللاً في النظام التعليمي والتدريس، فبينما كل ما تحتاجه مصر هو تنشئة جيل جديد مثقف وواعي تأتي الهيمنة العسكرية لتنسف كل هذه الأحلام بتدخيل الجنرالات العسكرية باسم مؤسسة الجيش، المعفاة استثماراته من الضرائب. ففي مجال الاستثمار في قطاع التعليم عبر المدارس الخاصة ضمن مساع تزايدت خلال السنوات الأخيرة لتوسيع النشاط التجاري والاستثماري فقاموا ببناء مدرسة “بدر الدولية الأمريكية” بتكلفة وصلت إلى 90 مليون جنيه مما أثار جدلاً واسعاً بحقها.
فرض الطريقة المتبعة في الانضمام إلى صفوف الجيش والكليات العسكرية للتقدم إلى دخول الجامعة
وفي بحث مطول عن “عسكرة قطاع التعليم في مصر بعد انقلاب 2013” للصحفي والباحث المصري صلاح بديوي، يقول فيه “إن هيمنة جنرالات الجيش على قطاع التعليم وتدخلاته المستمرة سيؤدي إلى ضعف في البنية التحتية لهذا القطاع، وبينما تشهد مصر زيادة في مصروفات التعليم بنسبة تصل إلى 50% سنوياً خاصة فى المدارس والجامعات الأجنبية تتحول العملية التعليمية إلى تجارة مربحة، تحقق أرباحاً طائلة تكاد تصل إلى مليارات الدولارات، حيث يتم إلزام أولياء الأمور بدفع الرسوم الدراسية بالدولار الأمريكي أو العملات الأجنبية بدلاً من الجنيه المصري.
أيضاً ضمن خطة عسكرة التعليم وتدخل جنرالات الجيش باستمرار، قامت عدة جامعات بالتصويت على قرار يلغي دخول الطلاب على الجامعة بناءاً على المجموع الكلي للثانوية ليحل مكانه مقابلة تحدد قدرات الطالب ليتم اختياره بناءاً عليها، مما سيقلل من نسبة دخول الطلاب الأذكياء إلى الجامعات واستكمال تعليمهم وفرض الطريقة المتبعة في الانضمام إلى صفوف الجيش والكليات العسكرية.
وفي 30 أغسطس 2016 قال محمد عثمان، نائب رئيس جامعة القاهرة، إن الجامعة تعاقدت مع هيئة القوات المسلحة للإشراف على خدمات الطعام ومطابخ المدن الجامعية وأن الجامعة عقدت مفاضلة بين عدد من الهيئات للإشراف على مطابخ ومطاعم الجامعة وأن القوات المسلحة فازت بـ”المفاضلة”، نظرا لجودتها وتقديم أفضل المنتجات بأقل الأسعار.
الإمبراطورية الاقتصادية للجيش
اتسعت إمبراطورية الجيش وزاد نفوذه بشكل غير مسبوق منذ أن أشرف على إطاحة رئيسَين مصريَّين، هما حسني مبارك في العام 2011 ومحمد مرسي في العام 2013. فقد حصل على عشرات مليارات الدولار من دول الخليج، وهمش منافسيه السياسيين.
إن قلة خبرة العسكر في إدارة الأعمال أدى إلى قيامهم بمشاريع اقتصادية فاشلة
كما استأنف تجديد مؤسساته ومصانعه المتهالكة، واستحوذ على مناقصات كثيرة من مشاريع البنى التحتية الضخمة، أضف الى ذلك، أنه سحب نحو 19 مليار دولار من الاحتياطي النقدي أيام حكم المجلس العسكري. كما زاد الدين العام بنحو 200 مليار جنيه في العام الأول للإنقلاب. كل هذه الأموال والثروات لاتخضع لرقابة شعبية ولا يعرف أين أنفقت.
كشفت مصادر رسمية مصرية عن كواليس مشاورات بعثة صندوق النقد الدولي، التي تزور القاهرة، في مايو 2017 لمراجعة الإجراءات الخاصة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، الحصول على الشريحة الرابعة من قرض الصندوق، المقدرة بملياري دولار من أصل 12 مليار دولار بينما تم التعتيم على التفاصيل. فيما أبدى النائب العام للصندوق “ديفيد ليبتون”، تحفظاته بشأن سيطرة قطاعات بالدولة على الاقتصاد، بأشكال غير مباشرة، وبشكل يدفع القطاع الخاص للهروب، بسبب عدم تكافؤ فرص المنافسة.
إن قلة خبرة العسكر في إدارة الأعمال أدى إلى قيامهم بمشاريع اقتصادية فاشلة. فمثلاً تم إهدار نحو 4 مليار جنيه في تفريعة قناة السويس التي كان يمكن توظيفها في حل مشكلة الطاقة بينما بلغت تراجع إيرادات القناة التي يبلغ طولها 193 كلم، خلال 2016 نحو 5.005 مليارات دولار، بينما حققت 5.175 مليارات عام 2015. مما دفع السيسي للاعتراف بأن المشروع “كان لرفع الروح المعنوية للمصريين”.
ومن المشروعات الفاشلة أو عديمة الجدوى التى يمكن أن يتورط فيها العسكر بسبب ضحالة خبرتهم في الاقتصاد إعلانهم العزم على حفر قناة سويس ثالثة وبرنامج لغزو الفضاء. كما أنهم يؤيدون قطار الصين الذى يربط آسيا بأوروبا رغم أنه ينافس قناة السويس.
تهميش الكوادر والكفاءات المصرية يأخذ بالاقتصاد المصري إلى الحضيض ليس إلا، كما إنه يحد من الكفاءة القتالية للجيش وإشغاله بأمور ليست من مهامه
يرى الباحثون في الشأن المصري أن تزاحم إمبراطورية الضباط الاقتصادية للقطاع الخاص وطردها الاستثمارات الأجنبية، وهدر ثروات البلاد والأموال العامة وتشويه آليات السوق، وتهميش الكوادر والكفاءات المصرية يأخذ بالاقتصاد المصري إلى الحضيض ليس إلا، كما أنه يحد من الكفاءة القتالية للجيش واشغاله بأمور ليست من مهامه.
الإعلام: الورقة الرابحة دائماً
من بين أهم الارتكازات التي تعتمد عليها الأنظمة الدكتاتورية أو أيّ شكل من أشكال القوة، هي السيطرة على وسائل الإعلام الرسمية والمحلية، إذ يعتبر وجود قوة إعلامية تدعم وتنفي وتصرح باسم القوة المسيطرة، نقطة مهمة جداً تساعدها في إيصال ما تريد للجمهور، وبالطريقة التي تريدها. وهذا ما لم يغب عن الساحة المصرية، إذ لا نجد الآن إلا قلة قليلة من المنصات المهتمة بنقل الحقيقة دون تزوير أو انحياز.
في حوار لمدير المرصد العربي لحرية الإعلام “قطب العربي” مع شبكة الجزيرة الذي نشر على موقعها الإلكتروني عام 2017 يقول فيه: “إن السيطرة على الساحة الإعلامية سلوك غريزي لدى أيّ حكم عسكري. وأن مع انقلاب الثالث من يوليو 2013 الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي تمسك النظام العسكري بفرض هيمنة كاملة على المنظومة الإعلامية بهدف السيطرة على الشعب، وأغلق عدة قنوات وصحف ومواقع إخبارية، ومؤخراً تم حجب أكثر من 120 موقعاً إلكترونياً”.
مفسراً ذلك بأن “السلطة العسكرية لا تستطيع التعايش مع إعلام حر ينقل الرأي والرأي الآخر”.
ويؤكد أن “هيمنة الأجهزة الأمنية خصوصاً المخابرات العامة على المنظومة الإعلامية، لم تقتصر على تكميم أفواه المذيعين وفرض سياسات تحريريّة مقيدة، بل تعدت للهيمنة المادية عبر شراء وتأسيس قنوات جديدة كمجموعة “دي إم سي”.
إن تأثير هذه الهيمنة على الإعلام حولت القنوات والصحف إلى منصات خاصة بالنظام ولنقل ما يريد قوله مما أدى إلى انعدام ثقة المشاهد بالمصادر كافة، إذ حسب بحوث المشاهدة الدورية التي يجريها المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام، فإن الدراما وبرامج الكوميديا والطبخ والبرامج الدينية تتصدر نسب المشاهدة في التلفزيون المصري، في وقت أصبحت البرامج السياسية في ذيل اهتمامات المصريين، وأصبح الإعلام الاجتماعي المصدر الرئيسي للأخبار.
عتبر وجود قوة إعلامية تدعم وتنفي وتصرح باسم القوة المسيطرة، نقطة مهمة جداً تساعدها في إيصال ما تريد للجمهور، وبالطريقة التي تريدها.
تعد خطة عسكرة الكثير من القطاعات والمديريات في مصر عائقاً كبيراً في تطور الاقتصاد المصري ومن الواضح أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لا يأتمن أحداً على الأموال، وتنفيذ المشاريع سوى القوات المسلحة، وبالتالي يبدو أن آليات تحقيق مساعيه لا يمكن تجهيزها إلا في وزارة الدفاع والإنتاج الحربي، أيّ بين قيادات عسكرية يثق بها أكثر من أيّ أحدٍ أخر.
وسبق وأن توقع المراسل والصحافي “ديفيد هيرست” المتخصص في سياسة الشرق الأوسط في تحليل له نشر على موقع “هاف بوست” الأمريكي، أن تندلع ثورة جديدة على الرئيس السيسي، ونظامه الحالي. لأنه وبعد مرور 3 سنوات على ثورة 25 يناير، لم تحقق الثورة أيّ من أهدافها، إذ قال في تقريره “دولة الثورة في مصر بعد 3 سنوات” الذي نشر عام 2014، إنه “ليس مستبعداً أن تقوم ثورة جديدة تخلع السيسي وحكومته، ليظهر جيل من الشباب يشتهي الإصلاح الدستوري وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وفقاً للمعايير الدولية”.