“يحب الأتراك الزهور كثيرًا، دائمًا ما يحملون الزهور بين أيديهم أو على عمائمهم، لدرجة تصل إلى أن تنفق سيدة كل أموالها من أجل شراء وردة لتزيين شعرها، كالنساء في جنوة الإيطالية، لهذا السبب تجد العديد من محلات بيع الزهور مفتوحة طيلة فصل الصيف، فإن روعة وجمال الزهور الصفراء والزرقاء والحمراء في حديقة السلطان إبراهيم باشا على ضفاف البوسفور أمرًا عجيبٌ”، هذا ما قاله الحقوقي والدبلوماسي الفرنسي فيسنيه كاني عن تعلق الأتراك بهذه النباتات العطرة، خلال إقامته في إسطنبول عام 1573.
ويظهر هذا الشغف بشكلٍ واضح في علاقة الأتراك مع زهرة التوليب تحديدًا، ففي كل عام من شهر أبريل/نيسان، تتزين حدائق وشوارع تركيا بألوانها التسع بعدما اكتسبت شهرتها في القسطنطينية منذ أواخر القرن السابع عشر وحتى أوائل القرن الثامن عشر، وسُميت على اسمها السنوات ما بين 1718 و1730 بـ“حقبة التوليب” في عهد السلطان أحمد الثالث، إشارةً لفترة السلام والازدهار التي عاشتها البلاد آنذاك. فما الموطن الأصلي لهذه الزهرة؟ وما سبب اهتمام الأتراك بها؟ وكيف يستفيدون منها اقتصاديًا؟
أسباب اهتمام الدولة العثمانية بزهرة التوليب
لم يعرف الرومان أو البيزنطيين هذه الزهرة، فلم يتم العثور على أي زخارف فنية أو آثار تحمل أشكالها سوى على الحلي والمواد الخشبية والجلود التي وجدت في قبور تعود لشعب اليوغور في آسيا الوسطى خلال القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، بالإضافة إلى الزخارف النباتية التي تنتمي إلى عصر السلاجقة في القرن الثاني عشر، ونظرًا لهذه الأدلة التاريخية، فمن المؤكد أن زهرة التوليب جاءت إلى الأناضول مع الأتراك وازدهرت في القسطنطينية.
ولا سيما بعد فتح إسطنبول وما شهدته من إصلاحات وتغييرات، كان من بينها تدشين الحدائق العامة التي اهتم السلطان محمد الفاتح في زراعتها وتنسيقها بشكل كبير، كما هو الحال بالنسبة لسلطان سليمان القاونوني الذي جرى في عهده تطوير هذه الزهرة واستنساخها، ويُقال أن ما لفت أنظار الإمبراطورية العثمانية لهذه الزهرة، ليس جمالها فقط، وإنما لتشابه أحرفها العربية باسم الجلالة، فهي تعني بالتركية “لاليه”، فضلًا عن أن قراءتها بالمقلوب تعني “هلال” وهو شعار الدولة العثمانية.
وهكذا وجدت هذه الزهرة مكانتها العالية في الثقافة العثمانية، ما شجع السلطان سليم على إدخال أنواع جديدة من زهرة التوليب التابعة لعائلة الزنبقيات، فطلب 300 ألف نوعًا من البصيلات والشتلات المميزة والنادرة من مدينة فيودوسيا الأوكرانية، فزدادت قصور السلاطين جمالًا وازداد معها فضول الزوار الذين أتوا إلى إسطنبول وتأثروا بجمال زهور التوليب.
تعلق الأتراك بهذه الزهرة يرتبط بالفترة التي نشأت فيها، وذلك عقب توقيع معاهدة السلام مع الإمبراطورية النمساوية في عهد السلطان أحمد الثالث الذي أمر بإنشاء مجلس أعلى للزهور
أكد ذلك كتاب “سفريات” لرحالة العثماني، أوليا جلبي، حين وصف متعة التنزه والنظر إلى زهور التوليب في حدائق المنازل حول مضيق البوسفور، بالجانب إلى مذكرات طبيب فرنسي اسمه بيلون، زار إسطنبول في عام 1549 وذكر أن الكثير من الناس أتوا إلى إسطنبول بالسفن للحصول على زهور التوليب التي تفنن الأتراك في التعبير عن جمالها في أشعارهم خلال القرن الخامس عشر، واستخدموا أشكالها في صناعة الزخارف والأقمشة والسجاد، خاصةً في مسجد السليمانية التي تظهر فيه ألوان وأنواع هذه الزهرة بوضوح.
فبالإضافة إلى الجمال والرمزية الدينية، فإن تعلق الأتراك بهذه الزهرة يرتبط بالفترة التي نشأت فيها والتي تميزت بالفن والذوق العالي، وذلك عقب توقيع معاهدة السلام مع الإمبراطورية النمساوية في عهد السلطان أحمد الثالث الذي أمر بإنشاء مجلس أعلى للزهور وشاع في عصره رسم زهرة التوليب في اللوحات الفنية والمجوهرات والحوائط والملابس، وذلك بعد سنوات طويلة من الحروب والركود.
تم استقدام بصيلات زهرة التوليب من القسطنطينية إلى أوروبا وتحديدًا إلى حديقة النباتات الطبية في فيينا التي كان يديرها عالم النباتات الفلمنكي، شارل دي لوكوز
وبحسب، تصريح عضو جمعية علوم زهرة التوليب في إسطنبول، إسماعيل حقي غولال، فلقد أشار إلى سبب تسمية زهرة التوليب بهذا الاسم، فقال بأن أحد العثمانيين كانوا يضعون التوليب على عمائمهم، وعند سؤال الأوروبيين عن هذه الزهرة، اعتقد الرجل العثماني أن الأوروبي يسأله عن عمامته، فقال له “تولبنت” أي العمامة بالتركية، ومنذ ذاك الحين، شاعت باسم “توليبان” بين الهولنديين ثم ترجمها البريطانيون إلى “توليب”.
وفيما يخص انتقالها إلى أوروبا، تشير المصادر التاريخية إلى أنه تم استقدام بصيلات زهرة التوليب من القسطنطينية إلى أوروبا وتحديدًا إلى حديقة النباتات الطبية في فيينا التي كان يديرها عالم النباتات الفلمنكي، شارل دي لوكوز، وزرع بصيلاتها في هولندا في عام 1593 في حديقته الخاصة إلى أن توفى وتم عرضها وتسويقها، وسرعان ما لاقت إقبالًا شعبيًا وملكيًا واسعًا، حتى أصبحت هذه الزهرة رمزًا للمكانة الاجتماعية والثروة. وفي رواية أخرى، يُقال أن سفير إمبراطورية النمسا والمجر في إسطنبول، أوغيير غيسلاين، هو من قام بنقل بذور التوليب إلى فيينا ومن ثم هولندا.
وتدريجيًا أخذت تنتشر بشكل كبير في أسواق هولندا التجارية، ولا سيما أن هولندا نجحت في إنتاج وتطوير أنواع جديدة من التوليب، ما جعلها تسيطر نسبيًا على زراعة وتجارة هذه الزهرة منذ أواسط القرن التاسع عشر، في المقابل لم تتوقف تركيا عن بذل المجهود اللازم لتوسيع نشاطها التجاري ومنافسة هولندا في هذا السوق.
زهرة التوليب ما بين هيمنة هولندا وإصرار تركيا
مع وجود أكثر من 100 صنف من زهرة التوليب، تعد هولندا صاحبة الرقم القياسي العالمي من ناحية الصادرات، إذ تصدر أكثر من مليار زهرة وبصيلة سنويًا مقابل 1.5 مليار يورو، في المقابل، تأمل تركيا أن تذكر العالم بأنها الموطن الأصلي لهذه الزهرة التي ارتبطوا بها تاريخيًا ودينيًا وجماليًا، ويحاولوا زيادة إنتاجهم السنوي للهيمنة على هذا السوق.
فوفقًا للبيان الذي أدلى به المدير الإقليمي لمركز الإحصاءات التركي، إسماعيل تشابوغلو، فإن مدينة قونية مسؤولة عن زراعة وإنتاج 98.9% من زهور التوليب وقد أنتجت حوالي 44 مليون زهرة وبصيلة في عام 2017، وصدرت حوالي 60 مليون زهرة إلى إيطاليا وبلغاريا ورومانيا وأذربيجان وباكستان وتركمنستان وقطر وإيران.
الجدير بالذكر في هذه الزاوية، أن النساء تشارك بصورة كبيرة في كل مرحلة من مراحل الإنتاج، فهي تعمل في الزراعة والقطف والتعبئة والتغليف. بمعنى آخر، تعتمد هذه الزراعة بشكل أساسي على النساء التركيات في إنجازها، موفرةً مئات الفرص من العمل في أكثر من 400 فدان في المدينة.