عندما يصف الناس العصر الذهبيّ للتلفزيون، سيكون مسلسل “صراع العروش Game of Thrones” واحدًا من العروض المقدّسة التي يتمّ اعتبارها من أجمل ما عُرض على الشاشة. حتى أنّ المسلسل تحوّل إلى ما يُشبه العبادة أو الطائفة، وهما كلمتان يتمّ استخدامهما في علم النفس لوصف هوس الأشخاص بأنماط فنّية معيّنة، سواء كانت أعمالًا أم فرقًا أم أشخاصًا، بحيث تخلق حالةً من التضامن أو الانتماء الجَماعيّ بين مشاهدي المسلسل لعددٍ من الرموز والشخصيات والأحداث والآراء والعواطف وغيرها الكثير.
وبعد ما يقارب العقد من الزمن، عُرضت فيه مواسم المسلسل الثمانية على الشاشات حافظ خلالها العرض على قوّته وقدرته على جذب المشاهدين وتشويقهم دون أنْ يقع فريسةً لمشكلة الاحتمالات المملّة والأحداث المتوقعة، فالمشاهد قطعًا قد تعلّم منذ الموسم الأول أنْ يكسر كافّة التوقّعات ويضعَ أمامه كافة الأسئلة والإجابات. ما يجعلنا نتعمّق أكثر وأكثر بالأسباب التي أدت لنجاحه بعيدًا عن قدرته السردية والتصويرية وقوة السيناريو فيه ومهارة شخصيّاته. ولنكونَ أكثر دقّة بالسؤال: ما الذي أدى إلى كلّ هذا الهوس بالمسلسل على مدى 9 سنواتٍ متتالية؟
قديمًا، صنّف الإغريق الفنون إلى ستة أنواع: العمارة والموسيقى والرسم و النحت والشعر والرقص. وعلى الرغم من احتلال المسرح مكانةً مرموقة في ذلك الوقت، إلا أنه لم يندرج تحت القائمة أبدًا، ولعلّ السبب يرجع إلى أنه كان توليفةً من كلٍّ من الشعر والرقص والموسيقى. وفي نهاية القرن التاسع عشر، أطلق المنظّر السينمائي الإيطالي ريتشيوتو كانودو اسم “الفن السابع” على السينما، مشبّهًا إيّاها بالمسرح ومعتبرًا أنها قادرة على جمع وضمّ الفنون الستة التي صنّفها اليونانيون القدماء.
من خلال نظرنا إلى الطريقة التي تعامل بها اليونانيّون القدماء مع المسرح، قد نستطيع بدايةً تفسير جانبًا من الجوانب التي تجعل جموع المشاهدين تتعلّق بمسلسل لعبة العروش وغيره من المسلسلات. فقد اقترح أرسطو يومًا مفهوم “التطهير” كمفهومٍ فلسفيّ ينتج عن التأثير الانفعالي الذي يستثيره العمل الفنّي أو الأدبي عند كلٍّ من الممارِس والمتلقّي. فالمسرح عنده هو وسيلة لخلق هزات داخلية عند الفرد تحرّره من المشاعر الضارّة وتحقّق له المُتعة سواء من خلال الخيال والتراجيديا أو المتعة التي تتولد عن عملية التطهير نفسها.
لبّى المسلسل عددًا من الاحتياجات الإنسانية العميقة مثل فهم كلٍّ من العالمين الداخليّ والخارجي ومعرفة الذات الإنسانية
يُشير المقال المنشور على موقع “ذا كونفرسيشن” إلى خمسة أسباب سيكولوجية يمكنها تفسير حالة الارتباط والهوس بالمسلسل. وبكلماتٍ أكثر دقةً، يرى المقال أنّ المسلسل، على مدى مواسمه جميعها، نجح في تلبية عددٍ من الاحتياجات الإنسانية العميقة والجوهرية، والتي يمكن تلخيصها كالآتي: فهم العالم الخارجي وفهم العالم الداخلي واستكشاف العالم الخارجي ونسيان العالم الداخلي ومعرفة الذات ومعاناتها وآلامها.
ليست مبالغة إنْ قلنا أنّ العالم في “صراع العروش” أو “جيم أوف ثرونز” يشبه إلى حدٍ كبير العالم الذي نعيش فيه، حيث صراعاته تشبه صراعاتنا، ونزاعاته السياسية والطبقية والجنسية والاجتماعيّة ليست ببعيدة عن نزاعاتنا
فمن جهة، يأخذنا المسلسل إلى عوالم بعيدة وخيالية على الرغم من أنّها مستوحاة من بعض الأحداث الحقيقية التي حدثت بين عاميْ 1455 و1485 في بريطانيا آنذاك. يبحث المشاهد في تلك العوالم والأحداث عن منظورٍ آخر يفهم فيه العالم ويملأ فيه الفجوات من خلاله من خلال مقارنة ما يحدث الآن مع ما حدث في الماضي وما كان من الممكن أنْ يحدث. يُخبرنا المسلسل عن الصراعات والسلالات والثورات والانقلابات، تمامًا كما يُخبرنا عن طبقات المجتمع المختلفة من حكّام ورجال دين ومستشارين وسياسيّين والطبقات الوسطى والدُنيا والضعيفة.
النائب الأول لرئيس المفوضية الأوروبية فرانس تيمرمانز يتحدّث عن التشابه بين المسلسل والمجتمعات الحديثة اليوم
ومن جهةٍ ثانية، يؤدّي المسلسل الدور الذي رسمه أرسطو للمسرح. فهو يسمح لنا باختبار عوالمنا الداخلية من خلال الانفعالات والمشاعر التي لا تحكمها الأسئلة الأخلاقيّة وأسئلة الخير والشرّ وحسب، بل من خلال دوافع اللذة والألم الأكثر بدائيةً عندنا من خلال التوحّد مع آلام ولذّات الشخصيات وانفعالاتها وتطوّراتها ومآلاتها.
يرى المقال نفسه أنّ المسلسل نجح أيضًا في تلبية حاجة المشاهد للهرب من الحياة اليومية والواقعية في العصر الحديث. و”لعبة العروش” ما هو إلا جزء من ظاهرة أصبح فيها التلفزيون ملاذًا جيّدًا يمكن اللجوء إليه بعيدًا عن الحياة المزدحمة. يُشير عالم الأنثروبولوجيا والأديب الكنديّ غرانت ماك كراكين إلى أنه بالرغم من أساليب حياتنا المحمومة التي تعتمد على التكنولوجيا الرقمية والتفاعلات على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنّنا نميل أكثر إلى مشاهدة القصص والروايات المسرودة والتي ننظر إليها على اعتبار أنها عالمٌ آخر، حتى لو كان خياليًا، غير الذي نعيش فيه.
وبتعبيرٍ آخر، ليست مبالغة إنْ قلنا أنّ العالم في “صراع العروش” أو “جيم أوف ثرونز” يشبه إلى حدٍ كبير العالم الذي نعيش فيه، حيث صراعاته تشبه صراعاتنا، ونزاعاته السياسية والطبقية والجنسية والاجتماعيّة ليست ببعيدة عن نزاعاتنا، والنزعات المبنية على الدم والعِرق تشابه نزاعاتنا.
قدّم المسلسل صورة المرأة القوية التي تتصدّر المشهد وتأخذ بزمام الأمور وتكسر الصور النمطية التي لطالما التصقت بها
كما ينقلنا المسلسل أيضًا إلى عالمٍ لم يكن فيه حال المرأة مختلفًا كثيرًا عن حالها اليوم، فهي تأتي ثانيًا دومًا، تزوّج بدون رضاها ولا تُعامل برقيٍّ واحترام كمخلوقٍ له كيانه وكينونته والجنس يخضع لاعتباراتٍ سياسية قبل كلّ شيء. لكن من زاوية أخرى، هناك المرأة القوية التي تتصدّر المشهد وتأخذ بزمام الأمور كأنْ تقود قبيلة أو جيشًا أو مملكةً بأسرها. ومنذ الحلقات الأولى للمسلسل، رأينا كيف أخذت العديد من النساء بالنمو والتغيّر ليخرجن عن الأدوار التقليدية التي رسمها المجتمع لهنّ، فأصبح البعض منهنّ محاربات وحاكمات وقائدات في عالمٍ لطالما حكمه وسيطر عليه الذكور لوحدهم، الأمر الذي يتشابه بصورةٍ أو بأخرى مع المشهد الواقعي في السنوات الأخيرة حيث بدأت الأنثى بالصعود إلى الصدارة وكسر الصور النمطية التي لطالما التصقت بها.
بالنهاية، يمكننا القول أنّ “صراع العروش” هو استعارة تلفزيونية يختفي فيها الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال عن العالم الذي نقف فيه، سواء على مستوى المجتمعات والسياسات أو على مستوى الأفراد. ومن هنا، نستطيع دومًا العودة إلى أرسطو لنفهم دور المسلسل وغيره من المسلسلات؛ فهناك ببساطة حاجة للفرد يجب أن تتحقق، حاجته لرؤية تجارب ذات مغزى وقصص تثري حياته وتزوده بالمعرفة والحكمة في السياسة وصراع القوى والأخلاق والاجتماعيات والأديان والإنسانية والعلاقات والجوانب الشخصية البحتة.