في خضم الحملة العسكرية على طرابلس التي يسيطر عليها الكر والفر منذ أيام، حلَّ الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر (أو المشير حسب المنصب الذي عيّن نفسه به) ضيفًا على أحد أهم داعميه، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (المشير سابقاً) ورئيس استخباراته عباس كامل في قصر الاتحادية بالقاهرة، في اليوم الذي كانت الأمم المتحدة قد حدّدته لبدء “الملتقى الوطني الجامع” في ليبيا (14 من أبريل/نيسان).
الرسالة واضحة، لكن ما أهداف الزيارة؟ هل الحصول على الدعم العسكري والسياسي أم مزيد من الوقت لحسم المعركة أم تعديل في تكتيك أم إستراتيجية المعركة؟ تبقى الأهداف غير واضحة، لكن الزيارة لافتة في توقيتها ورسائلها.
ما وراء لقاء الجنرالين
يأتي استقبال السيسي لحفتر بعد 10 أيام من شنّه هجومًا مباغتًا على العاصمة طرابلس الذي بدا أن الهدف منه دخولها بسرعة، لكن مخططات حفتر لم تُكلل بالنجاح، ووُجهت برفض دولي كبير، فبدا اللجوء إلى داعميه أول الخيارات، في زيارة خارجية هي الأولى له منذ إطلاق عملية “طوفان الكرامة”، في الـ4 من أبريل/نيسان الحاليّ لتحرير العاصمة طرابلس ممن أسماهم “الإرهابيين والمتطرفين”.
اللقاء الذي استغرق عدة ساعات في قصر الاتحادية تبعه بيان رسمي صادر عن مؤسسة الرئاسة المصرية، قيل فيه إن اللقاء تطرق لبحث آخر تطورات الأوضاع في ليبيا، وماذا في ليبيا غير هجوم اللواء المتقاعد على عاصمته. ووفق البيان شدّ الرئيس السيسي على يد حفتر في حملته على طرابلس لمكافحة ما وصفه “الإرهاب والميليشيات”.
الأرجح أن حفتر جاء يطلب دعمًا عسكريًا لقواته التي تُمنى بخسائر في الهجوم المتراجع اسميًا من “الفتح المبين” إلى “طوفان الكرامة”
لكن ترجمة “جهود مكافحة الإرهاب” على الساحة الليبية التي تعني ضمنًا استمرار دعم إدارة السيسي لحفتر، أتبعها البيان الرئاسي المصري دون إحساس بالتناقض الجسيم، بإعلان “حرص مصر على وحدة واستقرار وأمن ليبيا ودعم دولة مدنية مستقرة فيها”.
فإذا كانت حملة حفتر لـ”مكافحة الإرهاب” هي ما تشهده ليبيا من حرب ضد الحكومة الشرعية المعترف بها من الأمم المتحدة والمنظومة الدولية، فهذا يعني أن إدارة السيسي تدعم هجومًا غير قانوني على حكومة شرعية، وهو أمر تنطبق عليه صفة الإرهاب التي يدعي الطرفان مكافحته.
أما “تحقيق الأمن والاستقرار للمواطن الليبي” الذي يدلي به البيان الرئاسي المصري فيجري تنفيذه عمليًا بقصف المدنيين في العاصمة طرابلس ودفع عشرات الآلاف منهم للنزوح، أما “الحرص على وحدة واستقرار وأمن ليبيا” فهو، على أرض الواقع الليبي، عملية تعيد خلط الأوراق وتربك ردود الفعل الدولية التي ترفض معظمها الحل العسكري.
إن زيارة حفتر إلى القاهرة تأتي، بحسب مصدر رسمي تحدث لموقع “إندبندنت عربية“، لإطلاع القاهرة عن قرب على تطورات ومستجدات الأوضاع الميدانية والسياسية في الأزمة الليبية، لكنها لم تخل من رسائل مفادها أن القاهرة تمضي قدمًا وتدعم ما يسميه الطرفان “عملية لمكافحة الجماعات الإرهابية والمتطرفة”.
لكن هذه الدروس التي جاء بها بيان الرئاسة المصرية لا تجدها في بيوت الواعظين، فالرئيس المصري نفسه استولى على الحكم بانقلاب على أول رئيس مدني، والصراخ من انتهاكات حقوق الإنسان في عهده يصم آذان العالم، فهل هذا النموذج الذي يريده الليبيون؟
يبدو استقبال السيسي لحفتر محاولةً لمدّه بدعم معنوي في مواجهة هذا الضغط الدولي، والأرجح أن حفتر جاء يطلب دعمًا عسكريًا لقواته التي تُمنى بخسائر في الهجوم المتراجع اسميًا من “الفتح المبين” إلى “طوفان الكرامة”، بيد أن ذلك يمكن تقديمه دون صور بما يجعل اللقاء المصوَّر كأنه قصد في ذاته مثلما كان في السعودية.
كما أن توقيت الزيارة وطبيعة البيان الصادر عن الرئاسة المصرية يوضح بشكل جلي دعم القاهرة القوي للعملية العسكرية التي يشنّها حفتر في طرابلس، وبالتالي فإن مزيدًا من الدعم السياسي والأمني لقوات حفتر في الأيام المقبلة، قد يغير موازين القوة على الأرض.
حسابات الأرض لا توافق دائمًا حسابات المجالس
المشير حفتر، سبق وقال في فبراير/شباط 2018 خلال مقابلة مع مجلة “جون أفريك” الفرنسية، بشأن علاقته بالرئيس المصري: “مواقفنا تقترب في الواقع، ووضع بلاده عندما وصل إلى السلطة مشابه لموقف ليبيا اليوم” وتابع: “عدونا الكبير، الإخوان المسلمون، يهددون بلداننا وجيراننا الأفارقة والأوروبيين على حد سواء”.
بعدما فقدت قوات حفتر عنصر المفاجأة، تراجعت في محاور العزيزية ووادي الربيع وعين زارة
لكن للأرض حسابات لا توافق دائمًا حسابات المجالس، فخلال وجوده في مصر كانت طائرة حربية لقوات حفتر تسقط على أبواب العاصمة طرابلس، كما أعلن المتحدث باسم قوات حكومة الوفاق العقيد محمد قنونو الذي قال إن قواته أسقطت طائرة معادية كانت تستعد لشن غارات جوية في منطقة وادي الربيع، ويعد إسقاط المقاتلات إنجازًا عسكريًا ومعنويًا ومؤشرًا على أن القوات التي أسقطت الطائرة قادرة على إلحاق الضرر بالعدو.
في ظل هذه الظروف يوصي فائز السراج القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق قواته لحسن معاملة المعتقلين، ويعطي الأوامر بالإفراج عن صغار السن منهم، ويؤكد أن الحرب ليست بين شرق وغرب، بل سببها ما وصفها “مطامح فردية للتسلط”.
وبعدما فقدت قوات حفتر عنصر المفاجأة، تراجعت قواته في محاور العزيزية ووادي الربيع وعين زارة، في حين أعلنت قوات “عملية بركان الغضب” التابعة لحكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليًا أنها استعادت السيطرة على معسكر اللواء الرابع ومركز منطقة العزيزية جنوبي طرابلس، وأجبرت قوات حفتر على التراجع من عدة نقاط ومواقع في محاور وادي الربيع وعين زارة جنوبي طرابلس.
وبحسب حصيلة جديدة نشرتها منظمة الصحة العالمية، قُتل 121 شخصًا على الأقل في 10 أيام من المواجهات المسلحة على مشارف أحياء طرابلس الجنوبية، حيث تحافظ كل من قوات حكومة الوفاق الوطني وتلك التابعة لحفتر على مواقعها، وأسفرت المعارك العنيفة الدائرة منذ 4 أبريل/نيسان -إضافة إلى القتلى- عن 561 جريحًا، وسط تنامي قلق المنظمات الإنسانية من خطورة الوضع.
في هذا البلد الغارق بالفوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011، تخشى المنظمات الإنسانية أن يكون المدنيون مجددًا الضحية الأولى لأعمال العنف، حيث أشار مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة إلى أن المعارك تسببت بنزوح 13500 شخص بينهم 900 تم إيواؤهم في مراكز استقبال.
يأتي هذا التحذير غداة غارة جوية نسبتها حكومة الوفاق الوطني لقوات الجيش الوطني الليبي، استهدفت مدرسة في عين زارة إلى الجنوب من العاصمة طرابلس، وهي منطقة تشهد مواجهات عنيفة منذ أيام عدة، واتهم الجيش الوطني الليبي من ناحيته قوات حكومة الوفاق الوطني بشن غارة جوية وباستهداف مدنيين في منطقة قصر بن غشير على بعد نحو 30 كيلومترًا إلى الجنوب من العاصمة طرابلس.
معركة طرابلس.. تكون أو لا تكون
إذ تكشف المعركة التي دخلت يومها العاشر عن قلق متعاظم على المدنيين، تشهد كذلك تسعيرًا للعوامل القبيلية والجهوية المتجذرة في ليبيا والمفترض أن تُفكك سياسيًا.
كان الأحد موعد حوار وطني برعاية أممية، لكن حفتر لا يريد حلاً في السياسة، ولم يكن يومًا يريد ذلك، فهو رجل مهووس بالسلطة، وداعموه لن يتوانوا في دفعه والدفع له، كما تقول مجلة “جون أفريك” الفرنسية المتخصصة في الشؤون الإفريقية، ويعزز قولها الوقائع على الأرض.
ويعرف الجميع أن حفتر يتلقى الدعم من مصر ودول خليجية، وآخر تأكيد لذلك ما ذكرته صحيفة “وال ستريت جورنال” الأمريكية، التي قالت إن السعودية وعدت بتقديم التمويل اللازم لحملة حفتر على طرابلس.
لكن هذا الدعم لم يكف حفتر الذي يبدو أن عدم إحرازه لنصر سريع في طرابلس بدأ يؤثر في صفوف قواته، فقد ذكرت مصادر أن وسطاء من مدينة ترهونة التقوا بأعضاء من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، واقترحوا انسحاب أبناء ترهونة من قوات حفتر مقابل عدم ملاحقتهم.
قرار ليبيا الخارجي يكون بيد مصر بمن معها أو هي معه، من محور ما يُسمى “دول الثورات المضادة” التي تزرع في البلاد جنرالات لا حول لهم ولا قوة إلا على شعوبهم
لكسب الأرض سريعًا، يزج بقصَّر في القتال، أمر رئيس حكومة الوفاق بإطلاق سراحهم، أمَّا شعاره السياسي بمواجهة التطرف والإرهاب وتوحيد ليبيا بقبضة عسكرية فيقرأها الجانب المقابل بأنه يسعى لأن يكون نسخة من القذافي دون مشاكساته الخارجية، فيُترك له ولأولاده، شؤون الاستبداد الداخلي، بعد أن صار لهم كتائب.
أمَّا قرار ليبيا الخارجي فيكون بيد مصر بمن معها أو هي معه، من محور ما يُسمى “دول الثورات المضادة” التي تزرع في البلاد جنرالات لا حول لهم ولا قوة إلا على شعوبهم، وسيبدو تسطيحيًا فصل توقيت انفجار الوضع في ليبيا بعيدًا عن الحراك الجزائري الرامي إلى تغيير يؤسس لدولة مدنية عصرية ديمقراطية.
وقيام النموذج في الجزائر أو السودان يهدد مباشرة الرئيس المصري ونظامه، وهو مقبل على تعديلات دستورية تُبقيه في الحكم مدى الحياة، فضلاً عمًّا يصر المراقبون عليه من اقتراب الكشف عن “صفقة” تُنهي القضية الفلسطينية، وما يُسمى بـ”نادي الاعتدال” المتقارب علنًا مع “إسرائيل” يحتاج للسيطرة على ما أمكنه من جغرافيا وموارد وأتباع، لهذا تكتسي معركة طرابلس أهمية الوجود نفسه لكل الأطراف.