(إن الفن يمكن أن يعد سياسة لو قدرت أهميته تقديرًا سديدًا، حينها تكون الحياة كلها هي مسرحه ومادته).. بهذه العبارة جسّد الفيلسوف أرسطو أهمية الفن بالنسبة للدول ودوره في تحديد سياساتها، فعلاقة الفن بالمجتمع علاقة تبادلية، إذ تؤثر الأحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المبدعين أو العاملين بالحقل الفني، كما تؤثر الفنون في مشاعر وأحاسيس أفراد المجتمع خصوصًا الموسيقى والغناء.
الفن الشعبي واحد من أبرز أنواع هذه الفنون، كونه ينبع من أعماق المجتمع، حواريه وأزقته، يعكس هموم البسطاء ويكشف المستور عن واقعهم، حلوه ومرّه، وهو مرآة الثقافة الشعبية الأولى ومصباحها الأكثر إضاءة، وظلها البيّن، فبه تستطيع أن ترسم خريطة لمنظومة العادات والتقاليد لمجتمع ما، وتحدد هويته الثقافية وشخصيته الفكرية.
وتعدّ مصر من أوائل الدول التي عرفت الأغنية الشعبية وإن لم يوجد تأريخًا محددًا لذلك، لكنها مرت بعدة مراحل على مدار تاريخها حتى وصلت إلى هذا المستوى المنحدر من الإسفاف والفوضى، الأمر الذي صعدت معه العديد من الأصوات التي تحذر من خطورة هذا النوع من الغناء، الذي كان بالأمس ضمير الأمة ونبراس وعيها، إلا أنه بات اليوم مناط اتهام وسبّة في جبين المجتمع الذي تربى على رقي اللحن وعذوبة الكلمات وسمو الهدف، فما الذي أوصل الأغنية الشعبية في مصر إلى ما وصلت إليه؟
تطور الأغنية الشعبية
يعود تاريخ الأغنية الشعبية في مصر إلى الدولة القديمة، حيث عصر الفراعنة، فقد كانوا أول من استخدم هذا النوع من الغناء في طقوس حياتهم اليومية، وهو ما تكشفه النقوش المرسومة على جدران المعابد والمقابر التي تحمل في بعضها أسماء العازفين والمطربين المشهورين بالغناء وقتها، حسبما أشارت الدكتورة فاطمة الزهراء الجبالي أستاذ الآثار المصرية بجامعة الفيوم.
كشفت الجبالي لـ”نون بوست” أن المصريين القدماء لجأوا لهذا النوع من الغناء للتسلية بداية الأمر، خاصة في أوقات العمل في المزارع، إلا أنه تطور بعد ذلك ليصبح طقسًا عامًا، في الأديرة والمعابد والحقول وفي الطرقات والشوارع والمناسبات الاجتماعية كالأعراس وغيرها.
كما أشارت إلى أن الفراعنة هم أول من عرف معنى الفرقة الموسيقية بمفهومها الشامل، حيث ظهرت العديد من الفرق حينها، وكانت تتكون من عازف للناي وآخر للقيثارة وثالث للآلات الإيقاعية والدف، هذا بجانب معرفتهم بالمايسترو أو قائد الفرقة، وكانت مهمته آنذاك لا تقتصر على قيادة الفرقة وفقط بل كان يشاركهم الغناء كذلك.
وقبل افتتاح الإذاعة المصرية في مايو 1934 كانت تنحصر الأغاني التراثية الشعبية في الموالد وحفلات السمر، حيث كان يأتي المداحون والمنشدون من كل حدب وصوب يتجمعون في الموالد الشهيرة التي تعود في معظمها للطرق الصوفية، ينشدون ما لديهم من أغانٍ كانت تأخذ شكل المديح والقصص والزجل.
كان يقتصر دور المنشد وقتها على الحكاية فكان يقوم بدور الحكواتي يصاحبه فرقة موسيقية لا يتجاوز عددها خمسة أفراد، وكان يجوب القرى والنجوع، تطور بعد ذلك إلى أن بات مطلبًا للكثير من المناسبات الاجتماعية كالأفراح والميلاد وغير ذلك نظير مقابل مادي يحصل عليه المنشد وفرقته.
عند تدشين أول إذاعة مصرية بالتعاون مع شركة “ماركون” الإيطالية، حرصت على إذاعة أغاني كبار المطربين وقتها، أمثال أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، في محاولة للارتقاء بذوق المستمع بداية الأمر، متجاهلة أغاني التراث والفولكلور الشعبي التي ظلت أسيرة القرى والنجوع.
ومع مرور الوقت وتطور الأغنية الشعبية وما حققته من شهرة وجماهيرية كبيرة، لم تجد الإذاعة بدًا من التعامل معها وإعادة النظر في موقفها السابق، فبادرت بإذاعة بعض الأغاني شريطة أن تتضمن بعض المواصفات التي تحافظ على رقي الكلمات والألحان بعيدًا عن العشوائية.
ومن ثم بدأ يظهر على الساحة مطربو الأغنية الشعبية الكبار على رأسهم محمد رشدي ومحمد العزبي في الستينيات مثلاً، بجانب آخرين نجحوا في إضفاء الشرعية على هذا النوع من الغناء الذي كان غير مقبول بداية الأمر، وهنا كانت بداية معرفة الجماهير العريضة بالفن الشعبي.
مع ظهور الإنترنت، بداية الألفية، وما صاحبه من تقنيات الدمج والتلاعب في الموسيقى، ظهر نوع جديد من الأغنية الشعبية التي تعتمد على المزج الموسيقي بين أنواع مختلفة من الألحان يرافقها كلمات مبتذلة، بعضها غير مرتب وغير مفهوم
ومع دخول مصر عصر الشاشة الصغيرة، بدأ الاستعانة بالموّال والمنشدين داخل الأفلام كلما دعت الحاجة لذلك، ففي عام 1944 وفي فيلم “ابن الحداد” استعان مخرج الفيلم وقتها بمنشد فقد ذراعه اليمنى، لإلقاء بعض المواويل، ومنذ ذلك الوقت اشتهر بين المصريين بـ”محمد أبو دراع” لكنه لم يدم طويلاً، إذ غادر الساحة الفنية مبكرًا، حسبما أشارت هبة العربي الناقدة الفنية المصرية.
العربي لـ”نون بوست” كشفت أنه منذ ذلك الحين وبدأت الاكتشافات الفنية في الأغنية الشعبية تتوالى، فظهر الفنان الشهير محمد طه الذي كان يتمتع بصوت جميل كان السبب في شهرته حتى الوقت الراهن، فاشترك في عدد من الأفلام منها “السفيرة عزيزة” و”دعاء الكروان”، هذا بجانب المطربة المعروفة خضرة محمد خضر التي شاركت في بعض الأفلام منها “الزوجة الثانية” و”اللص والكلاب”.
عرف المصريون الأغنية الشعبية منذ الفراعنة
الانفتاح على الغرب
الأمر تغيّر رويدًا بعد حرب أكتوبر 1973، والحديث للعربي، حيث ساعد الانفتاح الاقتصادي على ظهور طبقة جديدة من الأغنياء ذوي الخلفية الأكثر قربًا من الشارع المصري والأكثر استماعًا للأغنيات البعيدة عن التكلف، حاملين معهم الأغنية الشعبية، بعدما كانت حكرًا على فئات بعينها.
وتحولت الأغنية الشعبية من سرد قصص العشاق إلى حكايات الناس وأفراحهم، مع نقلة نوعية في الموسيقى المستخدمة التي باتت أكثر سرعة وأعلى صوتًا، لا سيما بعد دخول التقنيات الحديثة عليها، ومن أبرز الأمثلة على واقع الأغنية في هذه الفترة الفنان محمد عدوية، وأغنيته الشهيرة “زحمة يا دنيا زحمة” التي يصف من خلالها الشكل الجديد للحياة العصرية.
ومع كثرة الالتصاق والاحتكاك بالثقافة الغربية انفصلت الأغنية الشعبية رويدًا رويدًا عن الموال لترتمي في كثير من حالاتها في أحضان التوزيع الغربي للموسيقى، فظهر على الساحة نخبة من حاملي لواء التجديد في الأغنية الشعبية وفق التصور الغربي، فظهر حميد الشاعري وحكيم وغيرهما من أصحاب الموسيقى الراقصة والإيقاع السريع.
بل وصل الأمر إلى الاستعانة ببعض المطربين الغربيين للمشاركة في الأغاني الشعبية المصرية، وكان ذلك عام 2006 حين غنى حكيم بمشاركة النجم العالمي جيمس براون، وهي النقلة التي قوبلت بترحاب كبير من قطاع ليس بالقليل من عشاق الفن الشعبي في مصر.
ومع ظهور الإنترنت، بداية الألفية، وما صاحبه من تقنيات الدمج والتلاعب في الموسيقى، ظهر نوع جديد من الأغنية الشعبية التي تعتمد على المزج الموسيقي بين أنواع مختلفة من الألحان يرافقها كلمات مبتذلة، بعضها غير مرتب وغير مفهوم، ناهيك عن غياب الهدف والقيمة، وعليه ظهرت موجات ممن ينتسبون إلى الفن.
وبعد عام 2000 ظهر على الملأ تقسيم جديد للأغنية، الشبابية والشعبية، لكن سرعان ما أعيد التقسيم مرة أخرى، ليضاف قسم جديد، وهي الأغاني ما دون الشعبية، هذا النوع الذي يفتقد لكل مفردات الأغنية، كلمات وألحان وصوت، فظهرت أغاني على شاكلة “العنب” و”بحبك ياحمار” وغيرها من الأعمال التي وبحسب الخبراء أفسدت الذوق العام بأكمله.
أما الدكتورة ياسمين فراج فترى في كتابها “الأغنية الشعبية في مصر” أن الغناء الشعبي تأثر بثلاث فترات زمنية وقعت فيها أحداث سياسية جِسام في مصر، وهي كالتالي: في الفترة من 23 من يوليو/تموز 1952 إلى هزيمة 1967، في فترة ما بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 إلى انتصارات أكتوبر/تشرين الأول 1973 وما بعدها، في الفترة من اندلاع انتفاضة 25 من يناير/كانون الثاني 2011 وما بعدها.
خريطة الأغنية الشعبية
ربما هو بلد واحد في المسمى إلا أنه يمتلك لوحة فنية مكتملة فيما يتعلق بخريطة غنائه الشعبي، فلكل منطقة مذاقها الخاص، ولكل شعب نكهته المميزة في هذا النوع من الغناء، فلأهل الشمال رونقهم الرومانسي وللجنوب عبقهم التاريخي وللدلتا الوسط بريقهم اللامع وحضورهم الطاغي.
البداية مع أغاني البدو، هذا النوع المنتشر في صحاري مصر الممتدة شرقًا وغربًا، ويطلق عليه مجالس الغناء هناك بالسامر، والسامر هو حفل من نوع خاص يتمّ فيه غناء الشعر والرقص، يصاحب الغناء آلة المقرونة وهي آلة عزف مصنوعة من بوص الغاب الفارسي، بالإضافة إلى الآلات الأخرى كالطبلة والدف.
ينقسم هذا النوع من الغناء بحسب الناقد الفني يسري الزنفلي، إلى 3 أنواع هي: “الشتيوة والغنيوة والمجرودة”، حيث يبدأ السامر بالشتيوة وهي عبارة عن جملة واحدة متكونة من أربع إلى ست كلمات يتغنى الشاعر بالجزء الأول منها ومعه بعض الأفراد، ثم تردد بقية المجموعة جزءها الثاني بمصاحبة التصفيق الشديد بطريقه خاصة.
ريف مصر الذي يسمى بالدلتا (وسط) يتميز بالثراء الكبير في الموروث الشعبي، وهو ذو باع طويل في الغناء والموسيقى
أما الغنيوة التي يطلق عليها “أغنية العلم” فتلي الشتيوة مباشرة هي عبارة عن شطرات قصيرة قد تكون من ثلاث إلى أربع يغنيها الشاعر ثلاث مرات، تفصل بين كل واحدة منها شتيوة جديدة، عند ترديد الغنيوة تكف المجموعة عن التصفيق والحركة، وبعد الانتهاء منها تبدأ المجرودة، وهي من القصائد العربية وتشبه الأنشودة الزجلية، وقد تصل أبياتها إلى المئة.
ثم تأتي أغاني الصعيد (جنوب) حيث يمتلك الصعايدة تراثًا فنيًا رائعًا وأصيلاً من الأغاني الشعبية، يتمثل في السيرة الهلالية (سيرة بني هلال)، وهي سيرة امتدت أحداثها من نجد إلى تونس مرورًا بالصعيد، وتختلف طرائق أدائها وعرضها، لكن الطريقة الأكثر انتشارًا هي غناؤها، فيما يعرف لدى أهل الصعيد بـ”فن الواو”.
كذلك ينتشر في الصعيد المديح ويقصد به أبيات تقال في مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – ويسمّى مؤدّيه “المداح”، وغالبًا يغني المداح قصائد عربية موزونة ومقفاة، بعضها من التراث مثل نهج البردة للإمام البوصيري، ويعدّ أبرز مداحين الصعيد الشيخ ياسين التهامي.
أما في ريف مصر الذي يسمى بالدلتا (وسط) فيتميز بالثراء الكبير في الموروث الشعبي، وهو ذو باع طويل في الغناء والموسيقى، تتميز أغاني الدلتا بطابعها الهادئ بعيدًا عن الإيقاعات السريعة الصاخبة، حتى إن الآلات الموسيقية المستخدمة تقتصر على الناي أو العود أو الكمان.
يعتمد هذا النوع من الغناء في تلك المناطق على القصص الشعبية، وهي حكايا منظومة في شكل شعري شعبي تتضمن أحداثًا وشخصيات مستمدة من التاريخ أو من التراث الديني، مثل قصص الأنبياء والكرامات والمعجزات، كما تمتاز بفن المديح والابتهالات الدينية، ولا تكاد تخلو قرية من أتباع الطرق الصوفية الذين يحرصون على إقامة الحضرات بصفة دورية في منزل أحد المريدين.
مع الهدوء النسبي الذي خيم بعد سيطرة حالة اليأس على الكثيرين من أبناء الثورة عادت الأمور إلى طبيعتها مرة أخرى، فعاودت المهرجانات رواجها مرة أخرى
ثم تأتي منطقة القنال (السويس وبورسعيد والإسماعيلية) التي يتميز تراثها الشعبي بالوطنية لما لها من تاريخ حافل في الزود عن الوطن في مواجهة أعدائه على رأسهم الكيان الصهيوني، وإن كان يغلب عليه نكهة الهزيمة وطابع الشجن، وتشتهر هذه المدن بآلة “السمسمية” وهي آلة وترية شعبية تشبه في تركيبها آلة “الطنبورة” التي ظهرت مع العمال النوبيين الذين عملوا على حفر قناة السويس، طوّر أهل القنال الطنبورة وابتكروا منها السمسمية.
وفي أقصى جنوب مصر، تنتشر أغاني النوبة، التي تمزج بين اللهجتين، المصرية والسودانية، التي غالبًا ما تكون بصورة جماعية وتصاحبها آلة الطار، وهي عبارة عن إطار خشبي رقيق على شكل دائرة بالإضافة إلى الطنبورة وهي آلة وترية، والدف والعود والطبل.
أكثر ما يميز غناء النوبة أنه بلحن واحد وإن تعددت إيقاعاته، يصاحبه رقص جماعي بصورة جميلة، يتباين حسب الجماعة التي تقوم به، علمًا بأن هناك عدة جماعات رئيسية في النوبة، لكل جماعة منها سماتها المميزة في غنائها الشعبي، فتشتهر جماعة الفاديجا بإيقاع “الكوم باك” وهو الإيقاع الرئيسي للرقص عند النوبيين، أما جماعة الكنوز فلديهم إيقاعا “الهولي هولي” و”الصفصافي” اللذان غالبًا ما يصاحبان رقصة الكف، وإيقاع “السوكيو”، وهو سريع، يصاحب معظم الأغاني العاطفية، ومن أشهر فناني النوبة “علي كوبانا” أول من أسس فرقة نوبية في مصر وحصدت الكثير من الجوائز في المهرجانات الدولية.
المهرجانات.. علامة استفهام
تعد المهرجانات وهي أحدث الصور التي وصلت إليها الأغنية الشعبية في مصر رأس حربة الانحدار والإسفاف في هذا النوع من الغناء، إذ تعتمد على الموسيقى الصاخبة المصاحبة للرقص السريع والكلمات المبتذلة، يقدمها مطربون أو فرق موسيقية، وتفتقد لأبجديات العمل الفني بحسب نقاد فنيين.
ظهرت المهرجانات في مصر بين 2005 و2007 وكان أول معرفة للمصريين بهذا النوع عبر “مهرجان السلام”، بواسطة فنان يدعى عمرو حاحا، وكان المهرجان عبارة عن موسيقى شعبية مصرية خالصة، خليط من موسيقى الراب والتكنو بمزيج شعبي مصري جاءت نتيجة احتياج أهالي المناطق الفقيرة لإحياء حفلات رخيصة التكلفة لكنها تطورت وانتشرت إلى كل الطبقات الاجتماعية في مصر ووصل المهرجان خارج حدود مصر.
حاحا الذي كان يعمل في إحدى محال إصلاح الهواتف النقالة بمدينة “السلام” التي تتبع القاهرة إداريًا، نجح في وقت قصير في فرض نفسه على الساحة من خلال مقاطع موسيقية نشرها على موقع “يوتيوب” تحولت فيما بعد إلى أغاني مصورة حملت أول الأمر اسم المدينة التي يقيم فيها “السلام”.
التجربة وقتها حققت نجاحًا غير متوقع، وإقبالاً جماهيريًا منقطع النظير، ما شجع الكثير على تكرارها لكن بصورة أكثر شمولاً، فظهرت فرق موسيقية كاملة مدعومة من منتجين كبار، حتى باتت النوعية الأكثر انتشارًا خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بين سائقي التوك توك وسيارات الأجرة والمحال التجارية.
ثورة يناير.. تغير مؤقت
بعد ثورة 25 يناير شهدت الأغنية الشعبية في مصر تغيرات طفيفة، مؤقتة في معظمها، إذ دخل البُعد السياسي في كثير من الأعمال الفنية، إذ كانت الآمال المعقودة على الثورة وقتها في حياة أفضل ومستقبل أكثر إشراقًا لدولة عانت عقودًا طويلة من حكم عسكري أفسد عليها معيشتها وأجهض حلم ملايينها في ديمقراطية مأمولة ومدنية مطلوبة، وهو ما انعكس على نوعية الأغاني التي ظهرت في هذه الفترة.
ففي قلب ميدان التحرير وبعد الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك، غنى مطرب فريق كايروكي أمير عيد، أغنية “صوت الحرية”، ليصف فيها شعور المصريين في ميادين الاعتصامات، ناشدين الحرية، ثم أطلق أغنية “يا الميدان”، وكان بمثابة مناجاة للميدان الذي أطلق العنان للمصريين بعد سنوات من القمع، كانت أغنية تفاؤلية، تمدح في ميدان الثورة، وتستشرف مستقبلًا أفضل انطلاقًا منه.
التدهور الواضح في حال الأغنية الشعبية خاصة تلك التي تؤدى في الأفلام السينمائية التجارية قوبل بموجة من الرفض من النقاد الذين وصفوها بالابتذال والإسفاف في مقابل ما تحققه من شعبية جارفة وإقبال غير مبرر من الشباب والمراهقين
ومع تطور الأوضاع ونشوب الخلاف والشقاق بين رفقاء الثورة والمؤامرة التي تمت عليهم، انعكس ذلك على الأغنية الشعبية، فظهرت أغنية “ناس بترقص وناس بتموت”، كما صرخ المطرب في وجه النظام الذي جاء بعد الثالث من تموز/يوليو 2013، بأغنيته “آخر أغنية” التي كانت بمثابة صوت الغضب الأخير تجاه حالة القمع التي عرفتها البلاد: “لو دي آخر أغنية ليا.. هفضل أغني عن الحرية”.
ومع الهدوء النسبي الذي خيم بعد سيطرة حالة اليأس على الكثيرين من أبناء الثورة عادت الأمور إلى طبيعتها مرة أخرى، فعاودت المهرجانات رواجها مرة أخرى، وعلى العكس عادت بصورة أقوى من ذي قبل، وظهرت أنواع أخرى من الأغاني والأعمال الأكثر ابتذالاً ولعل أخرها المهرجان الذي أقامه الفنان “محمد رمضان” مصطحبًا فيه فتيات شبه عاريات في مشهد أثار استياء الكثيرين، لكن للمفارقة حقق أعلى نسبة مشاهدة بين الأعمال الفنية في مصر على موقع يوتيوب، هذا بخلاف أغاني حمو بيكا ومجدي شطة وغيرهما.. ليبقى السؤال: ما الأسباب وراء تدني مستوى تلك الأعمال إلى هذا الحد؟
لماذا هذا الانحدار؟
التدهور الواضح في حال الأغنية الشعبية خاصة تلك التي تؤدى في الأفلام السينمائية التجارية قوبل بموجة من الرفض من النقاد الذين وصفوها بالابتذال والإسفاف في مقابل ما تحققه من شعبية جارفة وإقبال غير مبرر من الشباب والمراهقين دفع إلى التساؤل عن مسؤولية ما وصلت إليه.
الموسيقي المعروف حلمي بكر حمّل الجمهور المسؤولية الكبرى في هذا الانحدار، متسائلاً “كيف يسمح أب بأن تستمع أسرته إلى هذه الأغاني التي تحوي ألفاظًا وإيحاءات جنسية تخدش الحياء؟”، ويجيب: “المشكلة تكمن في اعتماد المنتجين على مؤدين غير موهوبين لتدني أجورهم وبالتالي ارتفاع أجور المطربين المعروفين”.
بكر في تصريحات صحفية له يرى أن “هذه الأغاني الهابطة التي تقدم في الأفلام التجارية، تهدف إلى الربح المادي فقط، ولا يمكن أن تسمى أغانٍ شعبية أصلاً، بل يمكن تسميتها “أغاني بيئة” (أي مبتذلة وسوقية)”. ويعتبر أن هذه الأغاني الهابطة “تمثل خطرًا على الإبداع والذوق العام، لكونها تربي أجيالاً على كلام فارغ لا معنى له، خصوصًا الأطفال، ويُحمّل الرقابة دورًا كبيرًا هنا، “فلا بد أن تتابع العمل الفني جيدًا والاستماع إلى الأغاني التي يتضمنها الفيلم من خلال الأوراق التي تقدّم لها مسبقًا للموافقة عليه، بمشاركة نقابة المهن الموسيقية”.
تحولت الأغنية الشعبية في مصر من أحد أبرز أدوات الارتقاء بالذوق العام إلى واحدة من معاول الهدم
يتفق معه الموسيقار محمد ضياء الذي يرى أن “هذه الأغاني مجرد لحن واحد ويقدمها أشخاص ليس لديهم أي موهبة غنائية، فأي فرد عادي يمكن أن يقدم هذا الشكل الغنائي الهابط، والأخطر أنهم يقدّمون نوعية الأغاني القديمة والحديثة والكلاسيكية بأسلوبهم الهزيل المبتذل في الحفلات والأفراح الشعبية، وذلك لإرضاء الجمهور بكل انتماءاته واختلافاته في سماع الأغاني، وهذا الأمر مرفوض ويمثل حالة من الفوضى الغنائية”.
فيما وصف المطرب علي الحجار هذه النوعية بأنها انحدار غنائي لن يستمر طويلاً، مضيفًا: “هي لا تعتبر فنًا من الأساس، وتعتمد على الأجهزة الصوتية فقط، لأنها عبارة عن إيقاعات يُغنى عليها، ولا توجد أي جملة لحنية فيها ولا تعبر عن أي شيء خاص بالموسيقى، والسبب الذي ساعد في انتشارها أنها لا تحتاج إلى كلفة مادية، كما أنها لا تحتاج إلى إستوديو خاص لتسجيلها”.
“الجمهور عاوز كده وإحنا بنعمل اللي الناس عاوزاه” بهذه العبارة أجاب المطرب علي شبانة عن سؤال بشأن المستوى الذي وصلت إليه الأغنية الشعبية في مصر، كاشفًا أن الفنان ترمومتر للشارع، والجمهور وحده من يحدد مساره وطريقه بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى.
شبانة لـ”نون بوست” أشار إلى أن التطور في الأغنية ليس حالة مصرية فحسب، فهي ظاهرة عامة في العديد من الدول بعد الطفرة الكبيرة التي شهدتها النوتة الموسيقية وتوزيع الألحان، مشيرًا أن معظم الأعمال الفنية الحاليّة تجارية في المقام الأول، فالمنتج يبحث عن الربح وتغطية نفقات أعماله، ومن ثم عليه أن يبحث عن أقصر الطرق نحو تحقيق ذلك.
وأضاف أن السنوات الأخيرة حققت فيها المهرجانات الشعبية نجاحًا غير مسبوق مقارنة بغيرها من الأغاني التقليدية، ومن ثم كان الإقبال عليها من المنتجين والفنانيين على حد سواء، موضحًا أن معايير النجاح قد تغيرت عن السابق، متسائلاً: هل يعقل أن عملاً فنيًا يحضره مئة ألف أكثر فشلاً من عمل آخر لا يحضره أكثر من خمسين فردًا؟
فيما ذهبت الدكتورة هالة الدسوقي أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، إلى أن الأغاني الشعبية انعكاس لما وصلت إليه المنظومة المجتمعية من فوضى وانهيار، لافتة أن التعويل على المطربين والمنتجين فقط فيه غياب للموضوعية، مطالبة بتحميل الجميع مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع.
الدسوقي لـ”نون بوست” أشارت إلى أن الإحباط والفوضى التي يعانيها الشارع على المستويات كافة، سياسية واقتصادية وفكرية ومجتمعية، كانت تربة خصبة لنمو هذا النوع من الغناء، مطالبة بضرورة إحداث ثورة مجتمعية شاملة تعيد للناس الذوق العام وترتقي بمستواهم الفكري والثقافي، كاشفة أن هذه مسؤولية الحكومة والإعلام في المقام الأول.
لم يتحرك أحد
اللافت للنظر أنه رغم هذا الهجوم وموجات الانتقادات المتلاحقة لمثل هذا الإسفاف الذي وصلت إليه الأغنية الشعبية في مصر إلا أن أحدًا لم يتحرك، إذ لم تصدر نقابة الموسيقيين وهي المعنية بمنظومة الغناء في مصر أي قرارات حاسمة بهذا الشأن، وعلى العكس من ذلك دعمت مثل هذه الفوضى في كثير من الأحيان.
الطريف أن النقابة التي انتفضت ضد المطربة شيرين عبد الوهاب إثر حديث لها في إحدى حفلاتها بدولة خليجية بشأن عدم قدرتها على الحديث في مصر خشية السجن، وأوقفتها عن العمل وحولتها للتحقيق، رغم أن ذلك ليس من اختصاص النقابة، غضت الطرف تمامًا عن الإسفاف الذي يقدم كل يوم على مرأى ومسمع من الجميع.
النقيب السابق للموسيقين مصطفى كامل، كان له تصريح إبان ولايته للنقابة بأن هذه الأغاني “تفسد الذوق العام”، مشيرًا إلى أن الجيل الجديد يعاني من هذا الفن الردئ، ولم يكتف بذلك بل أكد أن هذا الفن وصل لمنزله قائلًا: أنا واحد من الناس عندي مشكلة في بيتي، يعني أنا بنتي دلوقتي مفيش مهرجان شعبي أو أغنية تسول إلا وبترقص عليها”، ورغم ذلك لم يتخذ إجراءً ضدها.
نقيب الموسيقيين المصريين هاني شاكر
وفي السياق ذاته هاجم على الشريعي رئيس لجنة التفتيش والمتابعة داخل نقابة الموسيقيين، أغانى المهرجانات ومقدميها قائلاً: “معظمهم متهرب من الجيش”، وألقى الأزمة على عاتق المسؤول عن لجنة القيد في النقابة، مؤكدًا أنه من سمح بهذه الكارثة، وأن النقابة لا تستطيع أن تحاسبهم لأن وجودهم خاطئ من البداية، ومن الممكن أن يترشح أحدهم للنقابة لأنه عضو بها، ومع ذلك لم يتخذ أي موقف بشأنها.
النقيب الحالي هاني شاكر الذي أقام الدنيا ولم يقعدها ضد شيرين لم يتحرك حينما انتفض الجميع ضد الحفل الذي أقامه محمد رمضان مؤخرًا وأثار استياء الجميع، رغم أن رمضان ليس عضوًا بالنقابة ولا يمتلك ترخيصًا للغناء، ومع ذلك وقف شاكر مكتوف الأيدي، رغم انتقاداته السابقة لهذا النوع من الغناء.
وفي المجمل.. تحولت الأغنية الشعبية في مصر من أحد أبرز أدوات الارتقاء بالذوق العام إلى واحدة من معاول الهدم، مستندة في ذلك إلى التوظيف السيء للتكنولوجيا المتطورة، ورغم تبرؤ الجميع من هذا النوع من الغناء إلا أنه يتوغل بشكل غير مسبوق في نخاع المجتمع، دون رد فعل يذكر، الأمر الذي يتطلب التحرك السريع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه تجنبًا للسيناريو الأسوأ الذي تنهش فيه الفوضى جسد المنظومة بأكملها فتقضي على الأخضر واليابس.