بعد أيام من الهجوم المفاجئ الذي شنته فصائل المعارضة السورية، فجر الأربعاء الماضي، في معركة عسكرية واسعة أطلق عليها “ردع العدوان”، حرر آلاف المقاتلين السوريين عشرات البلدات والقرى في ريف شمال غرب سوريا من قوات النظام السوري وحلفائه من الميليشيات التابعة لإيران.
وخلال يومين، انهارت الخطوط الدفاعية للنظام بشكل دراماتيكي، انهيار معنوي أكثر منه انهيار عسكري، وبحلول صباح الجمعة، واصل آلاف المقاتلين السوريين تقدمهم، وبدا أن ما يجري أبعد من مجرد عملية ردع العدوان كما أطلقتها الفصائل، بل إعاده تشكيل الصراع بشكل كامل، وبالفعل اقتربت فصائل المعارضة من تحرير مدينة حلب، ونجحوا في تحرير بلدة سراقب الاستراتيجية، وبالتالي أغلقوا الطريق السريع M-5، الشريان الرئيسي الذي يربط حلب بدمشق.
يرى المحلل الإستراتيجي العقيد أحمد حمادة في حديثه مع “الجزيرة نت” أن الهدف من عملية “ردع العدوان” مفتوح، لأن الواقع الميداني هو ما يحكم من جهة، ولأن الفصائل التي شنت هذا الهجوم لم تعلن هدفها النهائي من هذه العملية من جهة أخرى.
وبحلول ليلة الجمعة، تقدم المقاتلون بوتيرة مذهلة حتى وصلوا إلى قلب مدينة حلب وهم يهتفون ويلوحون بالأعلام والأسلحة، وظهرت مقاطع فيديو للمقاتلين وهم يحررون الأسرى من سجون النظام، إضافة إلى تمزيق ملصقات الأسد وهدم رموز حكمه وسط التكبيرات، وكذلك الاحتفال بالسيطرة على قلعة حلب التاريخية وقصر المحافظ ومبنى البلدية ومقر الشرطة ومباني أجهزة الاستخبارات.
أمام قلعة حلب.. احتفال بعد سيطرة المعارضة السورية
في غضون ثلاثة أيام فقط، حرر مقاتلو الفصائل أكثر من 80 قرية وبلدة، واستولوا على المواقع العسكرية وكميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة، بما في ذلك الدبابات والمدفعية، ومخازن كاملة من أنظمة الدفاع الجوي والمزيد من مستودعات الأسلحة التي خلفتها قوات نظام الأسد وحلفائه الهاربة.
وقال تشارلز ليستر، مدير برنامج سوريا في معهد الشرق الأوسط لشبكة سكاي نيوز: “إن رؤية مدينة حلب بأكملها تسقط في غضون 24 ساعة أمر يتجاوز الدراماتيكية، الأمر يشبه الزلزال”.
هذا الهجوم غير المتوقع الذي بدأ يوم الأربعاء، بلغ ذروته بحلول منتصف أمس السبت، حين سيطر المقاتلون على معظم وسط مدينة حلب، بما في ذلك مطار حلب الدولي والعديد من الأحياء التي كانت سابقًا تحت سيطرة النظام، كما تمكنت فصائل المعارضة السورية من تأمين السيطرة الكاملة على محافظة إدلب، وتحرير بلدات استراتيجية مثل معرة النعمان وخان شيخون.
وبحلول مساء السبت، وصلت فصائل المعارضة إلى مشارف مدينة حماة جنوبًا بعد الاستيلاء على معظم حلب، وقيل إنها سيطرت على 15 قرية وبلدة بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، لكن لم يتطور الهجوم إلى مستوى السيطرة على المدينة.
قراءة عسكرية.. المعارضة السورية تتقدم إلى وسط مدينة حماة
ووسط هذه التطورات السريعة، تعهدت إدارة العمليات العسكرية للمعارضة السورية بحماية الأهالي والممتلكات الخاصة والعامة داخل أحياء مدينة حلب، وكذلك سارع المسؤولون المدنيون في حكومة الإنقاذ السورية إلى طمأنة جميع أهالي مدينة حلب وحثهم على العيش بشكل طبيعي بعد التحرير.
والواقع أن بسط المعارضة سيطرتها على حلب تم بسلاسة كبيرة، ونشروا قوات أمنية في أحياء المدينة لمنع أي أعمال عنف أو نهب، وظهرت صور محترفة في الخطاب والممارسة، كحسن التعامل مع المدنيين، والتعامل مع الأسرى بطريقة إنسانية، وتطمين واستيعاب كل الناس بما فيهم الأقليات، حتى اسم المعركة “ردع العدوان” ليس اسمًا أيديولوجيًا. وفي الحقيقة كانت هناك أريحية وانسجام لافت بين المدنيين والثوار.
كذلك أصدر قائد هيئة تحرير الشام رسالة باللغتين العربية والإنجليزية نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، وفيها دعا المقاتلين إلى التعامل برفق مع سكان مدينة حلب، وقال: “نحن لا نسعى للانتقام، وإنما للعدالة والكرامة.. نحن اليوم نواصل الليل بالنهار من أجل سوريا المستقبل التي ستكون بلدًا للعدالة والكرامة والحرية لكل السوريين”.
التأهب للتحرير
بعد أن استغرق الأمر أكثر من أربع سنوات، تمكن نظام الأسد من استعادة السيطرة الكاملة على حلب في ديسمبر/كانون الأول 2016 بعد حصار ودعم من الجيش الروسي والميليشيات المدعومة من إيران، وأشاد الأسد بالاستيلاء على حلب في ذلك الوقت باعتباره نقطة تحول في مسار الأحداث.
لطالما كانت حلب مركزية في الثورة السورية ولها أهمية استراتيجية كبيرة، حيث تُمكن السيطرة على المدينة من حصار طرق التجارة إلى دمشق، ويشير الباحث السوري، عباس شريفة، إلى أن حلب هي بوابة الوصول إلى أي منطقة بسوريا. ومنذ احتلت حلب بوحشية في 2016، تلا ذلك مناطق المعارضة حول دمشق وحمص وفي محافظة درعا الجنوبية في عام 2018، وتراجعت الثورة السورية بشكل مطرد.
في الواقع، لم تتعرض حلب لهجوم من قوات المعارضة المسلحة منذ 2016، لكنها كانت تستعد لاستئناف القتال، من الواضح أن فترة التهدئة الجزئية التي كانت سائدة في الصراع بعد اتفاق خفض التصعيد عام 2019 شكلت فرصة جيدة لفصائل المعارضة من أجل التدريب والاستعداد بشكل جيد وامتلاك قدرات عسكرية.
أهالي حلب يرسمون على جدرانها حلم عودتهم
لقد دفع توقيت عملية “ردع العدوان” المحللين إلى التكهن بأن فصائل المعارضة السورية سعت للاستفادة من الديناميكيات الإقليمية المتغيرة، فالحرس الثوري الإيراني والمليشيات المدعومة من إيران بما فيها “حزب الله” منهكة بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية.
بينما أدى تركيز روسيا على حربها في أوكرانيا إلى تقليص قدرتها على تقديم الدعم العسكري المستمر للنظام، ما أدى إلى كشف النظام وبقائه وحيدًا في مواجهة المعارضة السورية. وتشير بعض التقارير إلى أن الانهيار المذهل لقوات النظام المدعومة من روسيا، دفع موسكو يوم السبت الماضي إلى إقالة الجنرال، سيرجي كيسل، قائد القوات الروسية في سوريا.
وبينما فوجئ الروس والإيرانيون والأمريكيون بالتقدم السريع للمقاتلين من إدلب وانهيار النظام، يرى حسن أبو هنية الباحث في شؤون الجماعات الجهادية أن انهيار النظام كان متوقعًا لعدم وجود الغطاء الجوي الروسي الذي كان يؤمنه، بجانب إرهاق وانشغال المليشيات المدعومة من إيران في تداعيات الحرب بلبنان، لأن عمليًا قوات النظام تعتمد بشكل أساسي على هذه الميليشيات من أجل السيطرة على الأرض.
كذلك يعتقد الباحث الأمني السوري في مركز حرمون للدراسات، نوار شعبان، أن سر الانهيار العسكري السريع لنظام الأسد يكمن في أن القوات التي كان يضعها بالمناطق تفتقر إلى الانضباط العسكري والقدرة على القتال، بجانب شعور جنود النظام بالأمان النسبي.
ورغم أن توقيت الهجوم الذي شنته المعارضة كان استراتيجيًا، فإن تنظيم ودقة الهجوم على كل المستويات والتنسيق العسكري بهذا الشكل الموحد ومن دون ذكر اسم فصيل أو قائد، يشير إلى أن قوات المعارضة السورية كانت تحضر لهذه العملية العسكرية منذ فترة طويلة قبل معركة الطوفان 2023.
بعض المراقبين يقولون إنه تم التجهيز لهذه المعركة منذ سنتين، والفصائل العسكرية كانت تجهز على الأقل 20.000 مقاتل لهذه المعركة. وحسب محمد النزال عضو إدارة الشؤون السياسية في حكومة الإنقاذ السورية التي تدير المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، فإن التخطيط لهذه المعركة استغرق عامًا كاملًا.
تحرير حلب وكسر النظام وإيران
أما الباحثة في شؤون الجماعات الجهادية، إيفا كولوريوتي، فتشير إلى أن التحضير لهذه العملية العسكرية قد بدأ منذ عام وعلى عدة مستويات، أولها من خلال محادثات بين عدد من الفصائل العسكرية للتعاون وتشكيل غرفة عمليات مشتركة للتخطيط العسكري والإدارة الموحدة للعمليات، وتجهيز الذخيرة والمعدات.
وثانيًا، على المستوى التقني، حيث سعت المعارضة السورية المسلحة إلى التسلح بتقنيات جديدة كان لها دور محوري في الأحداث كالطائرات دون طيار محلية الصنع وغيرها من الأدوات المتطورة، وثالثًا على المستوى البشري، إذ رفعت المعارضة مستوى تدريب مقاتليها.
والواقع، أن هيئة تحرير الشام على سبيل المثال استثمرت بشكل كبير في تعزيز قدراتها العسكرية، وتدير أكاديمية عسكرية لتدريب آلاف المجندين والتي يديرها منشقون من جيش الأسد، وطورت أيضًا وحدات القوات الخاصة المخصصة للعمليات السرية، والغارات الخاطفة خلف خطوط العدو، والعمليات الليلية.
ولعبت هذه الوحدات دورًا محوريًا في تأمين التقدم إلى حلب، حيث كانت “العصائب الحمراء” التابعة لهيئة تحرير الشام رأس الحربة في النهار، بينما قادت وحدات العمل الليلي المناورات الليلية، وتحتوي القوة الأخيرة على عدة مئات من المقاتلين، كل منهم مجهز ببنادق هجومية وبنادق قنص وقذائف صاروخية مجهزة بمناظير رؤية ليلية متطورة، ولا تمتلك أي وحدة تابعة للنظام السوري أي قدرة من هذا القبيل.
ووفقًا للخبير العسكري ألكسندر كلاركسون، فقد قامت هيئة تحرير الشام ببناء منظومة عسكرية أكثر احترافًا مما كان عليه الأمر في عام 2019. وحسب مسؤولون أمنيون أتراك فإن فصائل المعارضة السورية كانت تخطط منذ فترة طويلة لتحرير حلب، وفي حديثه إلى تركيا اليوم، قال محلل السياسة الخارجية والأمن في أنقرة، عمر أوزكيزيلجيك، إن عملية حلب كانت متوقعة، لكن الفصائل السورية أخرتها، لتجنب أي تصور للتحالف مع “إسرائيل” وسط الحرب الأخيرة في غزة ولبنان.
وقال السفير الأمريكي السابق في سوريا وزميل معهد الشرق الأوسط، روبرت فورد: “كان مسلحو المعارضة السورية مستعدين للتحرك وأعتقد أن الأتراك هم الذين كانوا يمنعونهم”، وحسب الباحث السوري، عبيدة غضبان، فإن “التجهيز لبدء عمل عسكري كتحرير حلب لم يكن علنيًا وأيضًا لم يكن سرًا”.
وجدير بالذكر أن قوات المعارضة المسلحة قد تحدثت أكثر من مرة عن تحرير حلب، ففي أبريل/نيسان 2023 تحدث أبو محمد الجولاني بثقة أن هيئة تحرير الشام قادرة على تغيير الخريطة السورية. ثم في مايو/أيار من نفس العام تحدث أيضًا بجرأة كبيرة قائلًا: “الجاهزية العسكرية وصلت إلى أعلى مداها، نحن اليوم في العصر الذهبي في الثورة أقول هذا ليس لرفع المعنويات وإنما أقولها كمعلومة الآن لتصل إلى الجميع.. لم يبق إلا القليل بإذن الله تعالى حتى نصل إلى حلب، وأنا أراكم تجلسون في حلب كما أراكم أمامي الآن”. وحتى قبل شهر من معركة ردع العدوان، أعلنت فصائل المعارضة التي قادت هذا التحرك عن عملية عسكرية قريبة.
فرحة عارمة
مع تحرير حلب، تطور الوضع في المدينة بسرعة، وعاد مئات النازحين الذين أجبروا على النزوح، وأظهرت الفيديوهات امتزاج مشاعر السوريين بين الفرحة والألم، فرحة القادمين من أبناء مدينة حلب والذين جاءوا يتفقدون منازلهم وأحيائهم ويلتقون بعائلاتهم الذين لم يرونهم منذ سنوات طويلة. والحزن على الذكريات القديمة وتذكر أحبائهم الذين قتلوا ومشاهدة بيوتهم مدمرة.
هجرها نظام #الأسد منذ 13 عاماً والآن تعود وتفي بنذرها بصلاة ركعتين في منزلها #ردع_العدوان pic.twitter.com/U5b1EF2YTL
— نون بوست (@NoonPost) November 29, 2024
في الحقيقة، أعادت عملية “ردع العدوان” للثورة السورية رونقها ورفعت معنويات السوريين داخل سوريا وخارجها، قد يغير تحرير حلب بشكل كبير من توازن القوى، ويبدو أن سوريا مقبلة على أسابيع حاسمة للغاية وربما تاريخية.