تتحرك أوروبا بشكل أكثر فاعلية أكثر من أي وقت مضى لإبطال مفعول صفقة القرن التي يسعى إليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ترضية للحليف الإسرائيلي ووفاءً بوعوده الانتخابية، وترى القارة العجوز أن واجبها الآن الوقوف إلى جانب حل الدولتين، لـ”إسرائيل” وفلسطين، مع تصدير رفض قاطع لأي خطة سلام أمريكية في الشرق الأوسط، ترسم على أسس غير عادلة للفلسطنيين، بما يخالف القيم الأوروبية الراسخة، وتطور الأمر من شجب وإدانة إلى تحركات على أرض الواقع لإبطال شرعية الاتفاق.
كيف اعترضت أوروبا على مجريات الصفقة؟
بدرجة ملفتة؛ تحركت أوروبا بشكل جماعي، لتعزيز الحق الفلسطيني، إذ ولأول مرة منذ فترات طويلة، يجتمع ألمع رموز السياسة والدبلوماسية والحقوق والحريات والمسؤولين السابقين من جميع بلدان الاتحاد الأوروبي في وثيقة واحدة تهدف لتعزيز العمل الأوروبي المشترك وتصدير صورة أكثر قوة وحسمًا لرفض المسعى الأمريكي لاغتصاب الأرض الفلسطينية.
كان لافتًا اجتماع أكبر سياسيي أوروبا، نحو 37 مسؤولاً، نرصد منهم دوغلاس ألكسندر وزير الدولة البريطاني السابق لشؤون أوروبا وجان مارك أيرولت وزير الخارجية السابق ورئيس وزراء فرنسا وكارل بيلت وزير الخارجية السابق ورئيس وزراء السويد وفلودزميزيرز سيموجيفيتش وزير الخارجية السابق ورئيس وزراء بولندا وداسيان سيولوس رئيس وزراء رومانيا والبلجيكي ويلي كلايس وزير الخارجية السابق والأمين العام لحلف الناتو وماسيمو داليما وزير الخارجية السابق ورئيس الوزراء إيطاليا والبلجيكي كاريل دي جوشت وزير الخارجية الأسبق والمفوض الأوروبي والدنماركي يوف إلمان وزير الخارجية السابق ورئيس الليبراليين الأوروبيين والنمساوية فيريرو فالدنر وزيرة الخارجية السابقة والمفوضة الأوروبية للعلاقات الخارجية والإيطالية فرانكو فراتيني وزيرة الخارجية السابقة والمفوضة الأوروبية، لتوجيه وثيقة رفض جماعي للصفقة واعتماد الموقف الأوروبي حلاً دائمًا للأزمة.
اللغة التي كتب بها بيان الاعتراض الأوروبي رفيع المستوى على منهج الإدارة الأمريكية الحاليّة، يهدف إلى كشف التناقض الفج لإدارة ترامب حتى عن سياسة الولايات المتحدة القديمة
يعتبر الأوروبيون الذين جمعوا كل هؤلاء المسؤولين السابقين في وثيقة تبرز احتياج أوروبا لتوحيد مواقفها وإعادة دورها الذي أممته أمريكا منذ عقود، أن الشرق الأوسط لا يدار هكذا، فالنظام الدولي الذي يتعامل معه أبناء القارة العجوز بقدسية هو الذي جلب للعالم أطول فترة من السلام والازدهار والاستقرار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو نفسه الذي يصر حتى الآن على حل الدولتين، يتمتع فيهما الجميع بمكاسب السلام، إذ تشجع أوروبا دائمًا على إيجاد حل عادل للنزاع الإسرائيلي، وبالنسبة لهم لا يزال اتفاق أوسلو علامة فارقة في التعاون بمجال السياسة الخارجية عبر الأطلسي.
اللغة التي كتب بها بيان الاعتراض الأوروبي رفيع المستوى على منهج الإدارة الأمريكية الحاليّة، يهدف إلى كشف التناقض الفج لإدارة ترامب حتى عن سياسة الولايات المتحدة القديمة، وهي سلوكيات تخالف القواعد القانونية الدولية الراسخة، في ظل إصراره على الاعتراف من جانب واحد بتبعية القدس لـ”إسرائيل”، وإظهار حالة من اللامبالاة المثيرة للاشمئزاز تجاه التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وبجانب هذه الموافقة الضمنية على أعمال غير شرعية بالمرة، لجوء ترامب إلى سياسية ابتراز المجتمع الدولي لاتباعه في مواقفه وإيقافه لتمويل وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين “الأونروا” والبرامج الأخرى التي تعود بالفائدة على الفلسطينيين، وهي تصرفات تقامر بأمن واستقرار مختلف البلدان الواقعة على عتبة أوروبا.
التحرك الأوروبي للمسؤولين السابقين، يحاول الحشد بكل قوة، للضغط أكثر على المسؤولين الحاليّين، للالتزام الواضح برؤية الدولتين، لا سيما أن إدارة ترامب والمحسوبين عليها، أعلنوا أكثر من مرة قرب الانتهاء من وضع خطة جديدة للسلام الإسرائيلي الفلسطيني، وهو ما يستدعي من وجهة نظرهم، أن تكون أوروبا متيقظة وتتصرف بشكل إستراتيجي، وحتى تنجح في ذلك لا بد من خطة موازية، تحترم المبادئ الأساسية للقانون الدولي على النحو الوارد في معايير الاتحاد الأوروبي المتفق عليها لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
طوال العقود الطويلة الماضية، كانت أوروبا تعمل جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة، في جميع القضايا الدولية عامة وقضية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل خاص
الخطة التي تطالب بها النخب السياسية الأوروبية، قد تلقي حجرًا كبيرًا في المياة الراكدة إذا استطاعت إعادة صياغة الأسس المتفق عليها عالميًا منذ عقود، فالسلام المشترك القابل للحياة يتطلب إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب “إسرائيل” على حدود 1967، وأن تكون القدس عاصمة لكلا الدولتين، مع احترم سيادة كل جانب وإيجاد حلول عادلة متفق عليها في القضايا العالقة، وخاصة قضية اللاجئين الفلسطينيين، وليس هذا فقط، بل يمكن للخطة الأوروبية، رفض أي اقتراح لا يفي بهذه المعايير المتفق عليها دوليًا.
فالخطة التي تقلل من قيام الدولة الفلسطينية، تتمتع بالسيادة والتواصل الإقليمي والقدرة الاقتصادية، ستضاعف بشدة من فشل جهود صنع السلام السابقة وتسريع زوال خيار الدولتين وإلحاق الضرر القاتل بسلام دائم للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، بحسب توصيات الساسة الأوربيون.
ما الذي يدفع أوروبا للعمل بعيدًا عن أمريكا؟
طوال العقود الطويلة الماضية كانت أوروبا تعمل جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة في جميع القضايا الدولية عامة وقضية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل خاص، ولكن يبدو أن أوروبا لم تستشعر أن مصالحها الحيوية وقيمها الأساسية كان يمكن أن تتعرض للخطر من الحليف الأكبر أمريكا، لذا يتوجب عليها الآن أن تتبع طريقًا مختلفًا، لإعادة التأكيد على فاعليتها في النظام الدولي وترسيخ قيمها التي صاغت معظم ما جاء في قوانين الأمم المتحدة.
ويحاول كبار الساسة القدامى دفع الحكومات الأوروبية الحاليّة إلى الالتزام بمضاعفة جهودها لحماية قرارات مجلس الأمن الذي توصل إلى حلول واضحة في هذه القضية تحديدًا، ورفض التقييد الأمريكي المتزايد لعمل المجتمع المدني بسبب اعتراضه على تعبيد الطريق لدولة واحدة، تقوم على عدم المساواة في الحقوق، وهذا ما لا يمكن قبوله في أوروبا، وإن كانت أزمة تواجه العالم بأكمله، فهي فرصة ذهبية أيضًا أمام أوروبا، لتعزيز مبادئ دولها المشتركة والتزاماتها طويلة الأجل لإحلال السلام في الشرق الأوسط وإعادة إظهار دور أوروبا الفريد، باعتبارها المرجعية الأولى للنظام العالمي.
تعتبر البرلمانية الإنجليزية ليلي موران، أن توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مثيرة للاشمئزاز، لا سيما في إصراره على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس
وفي الوقت الذي يستعيد الأوروبيون العمل المشترك بين دول القارة، انطلاقًا من قضية القرن، تحاول ليلي موران وهي أول عضو في البرلمان البريطاني من أصل فلسطيني، دفع حكومة بلادها لإعطاء اعتراف رسمي بدولة فلسطين، وفق مشروع قانون قدمته، وتحشد له عبر مقالات عدة بالصحف ذائعة الصيت.
تعتبر البرلمانية الإنجليزية أن توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مثيرة للاشمئزاز، لا سيما في إصراره على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والمساهمة في زيادة مشاعر الظلم الحادة وتحفيز العنف بإظهار عدم احترامه لعملية السلام وحل الدولتين، لذلك تسعى موران بشكل واضح إلى تذكير بريطانيا بوعد بلفور التي تلتزم بموجبه بالمسؤولية التاريخية عن حل هذه الأزمة، فلا يمكن تحقيق السلام إلا من خلال حل الدولتين، ولكن طالما أن هاتين الدولتين لا يوجد تساوي بينهما في الحقوق، فمن غير المعقول وضع مسؤولية محادثات السلام على عاتقهم وحدهم.
وتحتل موران حاليًّا العناوين الرئيسية في كل هجوم شديد يشن على دونالد ترامب من طرف بريطانيا، فهو بالنسبة لها ساهم في اغتيال وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا، عبر إغراقها في أزمة مالية كبيرة، ما كان له أكبر الأثر على الخدمات الأساسية المقدمة لملايين اللاجئين الفلسطينيين، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية، وبالتالي فبريطانيا مطالبة بأن تكون أعلى صوتًا من أي وقت مضى، وتستخدم نفوذها وصوتها لاستعادة الشعور بالأمل للفلسطينيين.
ما الذي يستند عليه الغرب في مساندة الحق الفلسطيني؟
عام 2012 منحت الجمعية العامة للأمم المتحدة فلسطين مركز دولة مراقبة غير عضو، وتمارس هذا الدور حتى الآن، لا سيما أنها معترف بها من 137 من أصل 193 دولة في العالم، أعضاء في الأمم المتحدة، ما يعني أن هناك حاجة لخلق الأجواء المناسبة لسلام عادل في الشرق الأوسط، كنقطة بداية لمناقشة كيفية التحفيز على صنع السلام.
تسليم الصفقة النهائية في الشرق الأوسط، يحقق بوجهة نظر جاردنر معظم قائمة أمنيات اليمين الإسرائيلي، التي لا يوجد فيها أي شيء جيد للفلسطينيين
المثير أن الاحتجاج على المشروع الترامبي لا يتوقف على أوروبا نفسها، بل إن أغلب مجتمع الساسة والنخبة في أمريكا يرفضها، وهو ما دفع ديفيد جاردنر السياسي المخضرم والعضو بالبارز بالحزب الديمقراطي، إلى تبني حملة شرسة في الصحف على سياسيات ترامب، مؤكدًا أن “إسرائيل” ستدفع ثمنًا أعلى إذا ربحت شيئًا كبيرًا للغاية على هذا النحو الذي يجري الآن، فالنهج التعسفي تجاه الشرق الأوسط يضع الأعصاب على حافة الهاوية في “إسرائيل”.
تسليم الصفقة النهائية في الشرق الأوسط، يحقق بوجهة نظر جاردنر معظم قائمة أمنيات اليمين الإسرائيلي التي لا يوجد فيها أي شيء جيد للفلسطينيين، فالتخلي عن مبدأ إقامة دولتين تعيشان جنبًا إلى جنب، يعني الموافقة على استعمار “إسرائيل” الإستراتيجي للأراضي المحتلة، والموافق على حبس الدولة الفلسطينية، وهي أفكار أبعد ما تكون عن حل لهذا الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وخاصة بعد إقرار قانون الهوية الوطنية لـ”إسرائيل” الذي يحتفظ بحق اليهود في تقرير المصير ويجعل من المواطنين العرب في “إسرائيل” وهم نحو 20% من السكان، درجة ثانية، بينما سيحل الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، وفق صفقة القرن، الجديدة إلى مواطنين من الدرجة الثالثة.