تراجع القطاع الزراعي في سوريا مع تدهور الأمن واختلاف الجهات العسكرية المسيطرة في المحافظات السورية، بعد عام 2012، نظرًا لقصف قوات النظام وحملات النزوح التي اكتسحت المناطق الخارجة عن سيطرته، فقد الفلاحون السوريون محاصيلهم على خطوط النار، كما تضررت المؤسسات الزراعية من بينها مراكز الحبوب والمصارف الزراعية في كل المدن التي تعتبر ضمن مؤسسات الدولة، نتيجة القصف العنيف مما أدى إلى إخراجها عن الخدمة.
لكن بعد أعوام من تدهور القطاع الزراعي نجحت المؤسسات الزراعية الواقعة في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون بعد تأهيلها من الحكومة التركية ودعم المجالس المحلية في تحسين واقعها وتقديم الخدمات للفلاحين، بدأت تظهر ملامح تقدم في إنتاج المحاصيل الزراعية، لكنها لم تحقق مستوى جيدًا.
تدهور
تدهور الوضع الأمني نتيجة قصف قوات النظام المتواصل للأحياء السكنية في أرياف المحافظات السورية التي تعتمد على الزراعة بشكل رئيسي، كما نشبت حملات نزوح واسعة نحو الحدود مع تركيا، ومنهم من دخل تركيا بحثًا عن ملجأ لأسرته، تاركًا خلفه أملاكًا كثيرة وأراضٍ عدة أصبحت “بورًا”، ومنها من استولت عليها الجهات العسكرية بتهمة ما لصاحب الأرض، كما توقفت المؤسسات الزراعية عن العمل نظرًا لقصفها من قوات النظام.
في حديث مع “نون بوست”، اعتبر مدير المؤسسة الزراعية في مدينة مارع المهندس الزراعي علي النجار، قال إن “مديريات الزراعة لم تحقق أي نجاح خلال السنوات الأولى نظرًا للأوضاع الميدانية التي عاشها السكان”، وأضاف “واجه المزارع الكثير من التحديات وسط خيارات ضئيلة”، وأوضح “رغم وجود مؤسسة إكثار البذار التي مدت المزارعين بالأسمدة والبذار فإن المستوى الزراعي كان في حدوده الدنيا”.
استولى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مشاريع رؤوس الأموال إضافة إلى زارعة الأراضي التي وقعت تحت سيطرته بحجة عدم وجود صاحبها أو له تواصل مع قوات الجيش الحر الذي وصفه بـ”الردة” آنذاك
ولم يتحسن الواقع الزراعي خلال الأعوام التي سبقت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات واسعة من السهول السورية، وقال عبد الله الناصر لـ “نون بوست”: “تنظيم داعش استولى على أملاكي في ريف حلب الشرقي خلال سيطرته بحجة انضمام أبنائي لصفوف الجيش الحر”، وأضاف “لم أستطع زراعة الأرض لأكثر من ثلاثة مواسم على التوالي بينما كان أمراء التنظيم يديرون المشاريع الزراعية بعد كيل التهم المختلفة لأصحابها، ولكن بعد معركة درع الفرات عدت إلى الزراعة”.
واستولى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مشاريع رؤوس الأموال إضافة إلى زارعة الأراضي التي وقعت تحت سيطرته بحجة عدم وجود صاحبها أو له تواصل مع قوات الجيش الحر الذي وصفه بـ”الردة” آنذاك، كما لم يدع التنظيم طرقًا من شأنها التضييق على المدنيين إلا واتبعها، من بينها فرض الزكاة وجمع أموال ضخمة لـ”بيت مال المسلمين”، في أسلوب يراه الأهالي “طريقة نصب واحتيال من خلال الدين”، بينما وقفت آلاف الهكتارات في سوريا دون زراعة لسنوات نظرًا لوقوعها على خطوط النار، وتعرض عشرات الفلاحين لعمليات القنص خلال عملهم في جني المحصول الزراعي، بينما تسببت الألغام بمقتل عشرات الفلاحين خلال زراعة حقولهم.
“أكثر من ثلاثة أعوام وإلى الآن لم أصل إلى أرضي ولم أزرعها”، هكذا بدأ حديثه الحاج صالح لـ”نون بوست” عن الأرض التي ورثها عن والده، ولم يستطع زراعتها منذ أكثر من ثلاثة سنوات على التوالي، فقال: “أرضي تقع على خطوط النار مع ميليشيا قسد غرب مدينة مارع، لم أتوقف عن زراعتها منذ ورثتها عن والدي، لأنها باب الرزق الوحيد لعائلتي”.
وأضاف: “قبل أعوام وتحديدًا في 2016 قمت بزراعتها لكنني لم أستطيع جني محصولها نظرًا للمعارك التي استهدفت المناطق القريبة من الأرض”، خسر الحاج صالح المشروع الزراعي بشكل كامل، إضافة إلى المعدات الزراعية ومضخات المياه وعدد من الآليات الزراعية، داخل المشروع، وإلى الآن لم يتمكن من استصلاح أرضه.
أسهمت القوى العسكرية التي تفرض سيطرتها على كل المؤسسات في سوريا بتدني الإنتاج الزراعي، كما سببت خسارات كبيرة للفلاحين السوريين، تزامنًا مع ضعف الأمن مما دفعهم للهجرة والنزوح خارج مناطقهم، ولم تكن المؤسسات التابعة للحكومة السورية المؤقتة في تلك الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2016 تؤدي عملها لأنها غير قادرة على تغطية النفقات التي يحتاجها المزارع والإشراف على المحاصيل.
تأهيل
ضمن عملية إعادة تأهيل المؤسسات وتهيئتها للعودة إلى سابق عهدها عملت الحكومة التركية بالتعاون مع المجالس المحلية التي تمثل كل مدينة في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون على تأهيل المؤسسات في مختلف المجالات ومنها المؤسسات الزراعية.
في حديث أجراه “نون بوست” مع رئيس مديرية الزراعة المهندس علي النجار في مدينة مارع، قال: “ساهمت عملية درع الفرات في استتباب أمن المنطقة، ما ساعد في إعادة تأهيل مؤسسات المنطقة، كما ساهمت الإدارة التركية في تفعيل عمل المؤسسات الزراعية بشكل كبير”.
يواجه الفلاح السوري في ظل الإشراف التركي على المنطقة معوقات وتحديات عدة، أدت إلى تخفيض أرباح الفلاحين من الزراعة
وأضاف: “الخدمات التي تقدمها المؤسسات الزراعية في الوقت الحاليّ تتضمن تأمين منظمات داعمة للفلاحين، إضافة إلى تأمين الأسمدة وبذار البطاطا عبر مؤسسة إكثار البذار”، وأوضح: “تقدم مديرية الزراعة إرشادات زراعية بشقيها النباتي والحيواني للفلاحين ضمن مناطق عملها، وفق برنامج معين ودوري من القائمين على المؤسسة “، وبيّن النجار: “وصلت نسبة تقدم القطاع الزراعي عن السنوات الماضية إلى 50%، وسط تقدم ملحوظ في المواسم الزراعية القادمة لأنهم يطمحون إلى تفعيل باقي المؤسسات التابعة لمديرية الزراعة”.
تحديات
يواجه الفلاح السوري في ظل الإشراف التركي على المنطقة معوقات وتحديات عدة، أدت إلى تخفيض أرباح الفلاحين من الزراعة، وبدورها أدت إلى خفض نسبة أسعارها، مقابل الأسواق في المناطق الأخرى كمناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة قسد.
قال المهندس علي النجار: “المزارع يواجه تحديات عدة أدت إلى خفض نسبة أرباحه واقتصرت على قيمة التكلفة الزراعية فقط”، وأضاف “تقسيم المنطقة وإغلاق الطريق بشكل مستمر أسهم في انحدار المستوى الزراعي، مما انعكس سلبًا على الفلاح الذي اضطر إلى تسويق منتجاته في الأسواق المحلية بأقل الأسعار”.
وأشار إلى أن الحكومة التركية استقبلت بعضًا من المحاصيل الزراعية كالبطاطا والبصل والحبة السوداء، لكنها اقتصرت على كميات قليلة، مقابل الإنتاج المحلي الضخم، ويعود ذلك إلى تحكم الجهات العسكرية في معابر المنطقة، ويضاف إلى التحديات التي يواجهها المزارع السوري، عدم وجود جهة أو وزارة تشتري المحاصيل الزراعية التي تخزن في الصوامع والمصارف الزراعية كالقمح والشعير، ولا تستطيع المجالس المحلية تغطية تلك النفقات، بينما يعتبر الإنتاج المحلي في المنطقة إنتاجًا جيدًا مقابل الإنتاج الذي يحصل عليه النظام السوري في مناطقه.
أبرز المحاصيل
تشتهر محافظة حلب بإنتاج المحاصيل الزراعية الشتوية كحبوب (القمح القاسي والقمح الطري والشعير والعدس والحمص والفول والفاصولياء البيضاء والبازلاء والكمون والكزبرة والحبة السوداء)، وتزرع المناطق التي تعرف بدرع الفرات في الوقت الحاليّ كل هذه المنتجات بينما يحصل القمح والشعير على نسبة عالية مقارنة مع باقي المحاصيل.
أما المحاصيل الصيفية التي تزرع في المنطقة (القطن والتبغ والشوندر والبطاطا والكوسا ودوار الشمس والبندورة والبطيخ الأحمر والبطيخ الأصفر والفاصولياء الخضراء وقرع اليقطين والباذنجان والخيار والقثاء والبامياء والثوم الجاف والبصل الأخضر والجاف والفلفل والفجل والبقدونس والنعناع)، وتنجح زراعة أغلب الخضراوات قرب الأنهار في ريف جرابلس والباب وأرياف عفرين، إضافة إلى المناطق التي تستخدم ري الآبار.
ومن ناحية الأشجار المثمرة، تتصدر منطقة عفرين بزراعة الحمضيات كالبرتقال والليمون، نظرًا لمناخها الرطب، بينما يزرع في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون من الأشجار المثمرة (الرمان والزيتون والتفاح والتين والعنب والجوز والجارنك والخوخ والسفرجل والفستق الحلبي).
وتحتل منطقة درع الفرات وغصن الزيتون مرتبةً جيدة خلال الوقت الحاليّ في إنتاج المحاصيل الزراعية إضافة إلى الثروة الحيوانية؛ نظرًا لتميزها بالسهول الخصبة الخاصة بالمراعي وأجوائها التي تمكن السكان من التقدم في مجال الزراعة بشقيها الحيواني والنباتي، لكن وقوع المنطقة في مجال ضيق، لا يمكن أن يرفع نسبة الإنتاج، وتحكم الجهات العسكرية في المعابر مع المناطق الأخرى أثر بشكل كبير على ارتفاع الأسعار مقابل الدخل الشهري للفرد، بينما لا يستطيع الفلاح تسويق منتجاته بشكل يضمن له كمية ربح جيدة، وإذا افتتحت المعابر مع المناطق الأخرى وتم تصدير الحاصلات الزراعية في هذا الموسم سيتحسن الوضع الزراعي، لكنه سيؤثر على أسعار السلع المتداولة لدى السكان، وقد نشهد ارتفاعًا بأسعارها.