نتفق جميعنا أن الورود والنباتات قد تكون في كثيرٍ من الأحيان وسيلة فعالة لتحسين مزاجنا وجلب البهجة إلى قلوبنا، فنحن نشعر بذلك حينما نعتني بحديقة البيت أو بنباتات الداخل أو حينما نحصل على باقة من الزهور الجميلة أو حتى بمجرد جلوسنا في حديقة خضراء دون أن نفعل شيئًا يُذكر.
فهل هذا يعني أننا نحب النباتات والزهور لأننا نحب الألوان الزاهية أم لروائحها أم لأننا نعتبرها هديةً رومانسية ارتبطت وما زالت ترتبط بالمناسبات العاطفية لفترةٍ طويلة من الزمن؟ ربما قد نجد فيها استراحةً خفيفة من زحمة الحياة والتكنولوجيا المجهدة وفرصةً لتشتيت الذهن، أليس كذلك؟
ليست مجرد هدية أو منظر جميل
لو نظرنا إلى الدراسات والأبحاث الحديثة لوجدنا أن الكثير منها يُشير إلى أن الزهور والنباتات تعمل على تغيير نشاط الدماغ وكيميائه لتعديل المزاج والتخفيف من التوتر والإجهاد النفسي وتحسين النوم والذاكرة. فعلى سبيل المثال، يُظهر المرضى في غرف المستشفيات المليئة بالزهور أو أولئك الذين تطل نوافذهم على حديقة المشفى حاجةً أقل لمسكنات الآلام بعد الخروج من العمليات الجراحية، تمامًا كما سجلوا معدلات أقل لضغط الدم والقلق والتعب مقارنةً بالمرضى في الغرف التي لا تحتوي على أي من الزهور والنباتات. فيما يُبدي الموظفون إنتاجيةً وراحةً نفسية أعلى في المكاتب التي تحيط بها النباتات الداخلية.
تعمل الورود على تغيير نشاط الدماغ وكيميائه للتخفيف من التوتر والإجهاد النفسي وتحسين النوم والذاكرة
يساعد أيضًا استنشاق الزيوت العطرية المستخرجة من الأزهار مثل الليمون والمانجو والخزامى، في تقليل التوتر ومكافحة الاكتئاب وتحسين النوم، وهذه الفكرة الأساسية التي يُبنى عليها العلاج العطري أو ما يُعرف أيضًا باسم طب الروائح “Aromatherapy” القائم على استخدام الزيوت النباتية العطرية لتحسين الحالة المزاجية والصحة النفسية، وهو أحد الأشكال الشائعة للطب البديل اليوم.
رائحة الورود تحفز المزاج وتقوي الذاكرة
تقوم فكرة طب الروائح على تأثير الرائحة على الدماغ، فعلى المستوى الفسيولوجي، تقع المنطقة المسؤولة عن الروائح إلى جوار الحُصين وهو الجزء المسؤول عن صناعة الذكريات طويلة المدى، كما يتصل ذلك الجزء باللوزة الدماغية “amygdala” التي تلعب دورًا كبيرًا في التحكم بالمزاج والذاكرة والعاطفة والعديد من السلوكيات.
ومن هنا، نستطيع الاستنتاج أن الروائح تتصل مباشرةً بجزئي الدماغ المسؤوليْن عن الذكريات والمشاعر والمزاج، الأمر الذي قد يفسر لنا سبب قدرتها على تحسين المزاج أو إثارة المشاعر المختلفة أو قدرتها على استحضار ذكرياتٍ عديدة. ففي عام 2015، أُجريت تجربة مثيرة للاهتمام، طُلب فيها من المشاركين التوجه إلى ثلاث غرف وإكمال اختبار للذاكرة في كل منها، حملت اثنتان منها رائحة إكليل الجبل والأخرى رائحة اللافندر، فيما لم يكن في الثالثة أي رائحة يمكن تمييزها.
يساعد نبات إكليل الجبل في تحسين الذاكرة وقد يعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها الأدوية المستخدمة في حالات الخرف التي تعتمد على تنشيط الناقل العصبي أستيل كولين في الدماغ
كان الهدف اختبار أثر الروائح المختلفة على الذاكرة طويلة المدى عند المشاركين، أما النتائج فقد جاءت لتوافق ما ارتبط بإكليل الجبل في الأدبيات العالمية والطب البديل منذ آلاف السنين، فهو يساعد في تحسين الذاكرة وقد يعمل بشكلٍ يكافئ الطريقة التي تعمل بها الأدوية المستخدمة في حالات الخرف التي تعتمد على تنشيط الناقل العصبي أستيل كولين في الدماغ.
أما اللافندر أو الخزامى كما يُعرف عربيًا فقد ارتبط تاريخيًا بالنوم والتخدير، ولهذا ربما سجل المشاركون بالتجربة نتائج أقل في اختبار الذاكرة في الغرفة التي تملؤها رائحة اللافندر.
كيف أبقتنا الورود أحياءً وساعدتنا على النجاة؟
كتب الشاعر الياباني أوكاكورا كاكوزو مرة أنه “في اليوم الذي قدم فيه الرجل باقةً من الزهور لفتاته، ارتقى درجةً في سلم التطور”، مشيرًا إلى أن البشر تعلموا مشاعر الحب من الطبيعة وجَمالها. تأخذنا وجهة النظر هذه إلى واحدة من فرضيات علم النفس التطوري الممتعة والمثيرة للاهتمام التي تعتقد أن الإنسان ينمو مع شعورٍ بالعاطفة والحب تجاه الحياة وكل ما هو حي، أو ما يُعرف ببيوفيليا “Biophilia”.
قد يكون حبنا للورود نابعًا من أنها قبل ملايين السنين كانت إحدى الدلائل على الحياة وإمكانية البقاء والتكاثر
شاع المفهوم عام 1984 عندما نشر عالم الأحياء الأمريكي إدوارد ويلسون كتابه الذي حمل الاسم نفسه معرفًا إياه بأنه “الميل الطبيعي تجاه كل ما هو حي”، وبتعبيرٍ آخر، ينمو الإنسان ولديه ميل فطري لكل ما هو حي وطبيعي، وهذا هو الميل الذي ساعد أسلافنا على الاستمرار بالحياة بشكلٍ أفضل من خلال حبها والتمتع بها وبما فيها من أشكال حية مثل الزهور والنباتات وروائحها وأشكالها وألوانها.
لا يقتصر أثر الورود والنباتات على الجانب العاطفي لاستمرار الحياة وحسب، بل كانت يومًا ما بمثابة إشارة مرئية للمكان الذي تصلح فيه الحياة وتستمر نظرًا لاحتمالية توافر الغذاء حولها أو في الأماكن القريبة منها أو أنها بالأساس كانت الإشارة الأولى للثمار قبل أن تنضج، وبالتالي، قد يكون حبنا للورود نابعًا من أنها قبل ملايين السنين كانت إحدى الدلائل على الحياة وإمكانية البقاء والتكاثر.
لماذا الأنثى هي الأكثر حبًا للورود من الرجل إذًا؟ وفقًا للفرضية نفسها، في حين كان الصيد محسوبًا على الذكور وحكرًا عليهم، كانت الإناث تهتم بجمع الثمار والحصاد، وبالتالي فإن الزهور كانت لهن بمثابة إشارة جميلة على قدوم الثمار في الأماكن الآمنة، الأمر الذي يعني احتمالًا أعلى للنجاة والبقاء لهن ولنسلهن، ما يعني أن حب الإناث للورود يرجع إلى أبعد من التفسيرات العاطفية أو الرومانسية التي قد تُلحق بهن.