لماذا لم نتعظ من موت لطفي نقض؟

كأن التاريخ يعيد نفسه.. والتاريخ لا يعيد نفسه إلا في شكل مهزلة.
نفس مشاهد العنف التي وُطنا عليها في السنوات الأولى من الثورة، تعود بقوة قبل أشهر فقط قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فالذي حدث يوم الأحد 31 من مارس 2019 في محافظة سيدي بوزيد بالجنوب التونسي، حين اعتدى البعض على أنفار من مناصري الحزب الحر الدستوري برئاسة “التجمعية” السابقة عبير موسي المعروفة بمعاداتها لحركة النهضة، يذكرنا بما حدث للعديد من الأحزاب الأخرى أيام التجارب الانتخابية التي عشناها.
الحادثة ليست بمعزل عن سابقاتها، وهي تتشكل في إطار صراع سياسي يُدار في دولة ديمقراطية خلنا أنها قطعت مع هذا النوع من الممارسات بعد أن أطاحت ببن علي عام 2011، هذا الرجل الذي انتهج عنف الدولة لتصفية خصومه السياسيين، وكلنا نستذكر عمليات القمع التي مارسها ضد سياسيين وصحافيين وناشطين قالوا “لا” في وجهه، بل ضد حتى من اعتبره رئيسًا شرعيًا، لكنه طالبه ببعض التغيير في سياسات حكمه.
قبل ثمانية أشهر من الانتخابات الرئاسية والتشريعية تحدث مثل هذه الممارسات ضدها من فاعلين يبدو أنهم حركة ناشطة مدنية تسمي نفسها “حركة شباب تونس”
قد يرى راء ربما أننا ندافع عن عبير موسي أو يُفهم من كلامنا أننا نعتبرها ضحية للعنف، قطعًا لا، ذلك أن خطابها السياسي المؤدلج ضد خصومها لا يصطدم مع خطاب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (وهي سليلته) كما أن دعواتها للتحريض ضد الإسلاميين خاصة لا يصمد أمام ما اقترفه بن علي ضدهم، لكننا نقول إن هذا الذي تعرضت له مساء 31 من مارس الماضي قد يعزز من مكانتها السياسية ويضعها في موضع الضحية التي تسترعي انتباه التونسيين وتستأهل عطفهم.
اليوم تستثمر عبير موسي ما حدث لها مستغلة السياق الزمني الذي نحن بصدده، فقبل ثمانية أشهر من الانتخابات الرئاسية والتشريعية تحدث مثل هذه الممارسات ضدها من فاعلين يبدو أنهم يتبعون حركة ناشطة مدنية تسمي نفسها “حركة شباب تونس”، وتضم شبابًا من منطقة سيدي بوزيد حيث اشتعلت الثورة في ديسمبر 2010، هناك حيث حرق البوعزيزي نفسه معزيًا كل البلاد في روحه، وقد كان رمزًا لبلوغ السيل الزبى في منطقة مهمشة منبوذة من كل الحكومات التي أدارت دفة البلاد منذ الاستقلال.
شباب لم يكن على دراية بأن المنابر سوف تفتح لموسي لتُظهر “مسكنتها” على رأس الأشهاد ولتلعب دور الضحية التي يحرض الإسلاميون عليها، وهي التي ما فتأت تبحث عن أي سياق كلامي لتهاجمهم، تمامًا كما كانت تفعل في كل مناسبة يندثر فيه اسمها أو يُنسى، إذ كانت كلما قل ظهورها لوحت بأنها سوف تدول قضيتها ضد الغنوشي وأتباعه في تلقي أموال من الخارج لأن القضاء التونسي متواطئ معه ومع حركته، فكانت بذلك تعود لتكون لبؤة الإذاعات والشاشات من جديد.
تغريد “داخل” السرب شارك فيه كبار السياسيين من “العائلة الديمقراطية” من أصحاب الدماء “الحمراء” الذين اعتبروا أن ما جرى لموسي هو اعتداء على حق الاختلاف الأيديولوجي
لم يكن هؤلاء الشباب الذين طوقوا مكان اجتماع موسى آخر يوم أحد في شهر مارس الماضي محاولين اقتحامه، على علم أنهم سوف يرفعون أرصدتها في بورصة المزايدات السياسية، أرادوا طردها لكنهم فتحوا لها منابر الإعلام كي تزايد حتى على وزارة الداخلية التي اتهمتها بالتخاذل في حمايتها هي والذين كانوا معها (مجموعة تُكترى لها الحافلات لحضور أي اجتماع تقوم به التجمعية السابقة في أي منطقة داخل البلاد)، اتهمتها بالتخاذل – وزارة الداخلية – كما حملتها مسؤوليتها الجسدية على أكثر من منبر خاص وعمومي، وهو لعمري نيشان عُلق على صدرها، فعبير موسي صارت اليوم بقدرة قادر الضحية التي تهتز توجسًا وقلقًا.
تغريد “داخل” السرب شارك فيه كبار السياسيين من “العائلة الديمقراطية” من أصحاب الدماء “الحمراء” الذين اعتبروا أن ما جرى لموسى هو اعتداء على حق الاختلاف الأيديولوجي، مع أن موسي تكفر به ولا تؤمن إلا ببعض منه (ما أتيح لها ولأتباعها ولمن ينتحون منحاها)، بل يذهب بعضهم إلى تثمين “ثباتها على مبدئها”، أي ثباتها على حب التجمع والأشياء التي “قدمها لتونس” ولا تقصد “للطرابلسية” طبعًا، وينحون باللائمة على هؤلاء المعتدين، مذكرين بحقها في الاختلاف في مناخ وصف أنه مناخ حريات.
نفس هؤلاء الذين يؤمنون ببعض الديمقراطية ويكفرون ببعضها، نجدهم يتعبدون بمعاني الديمقراطية الصنم، تلك الديمقراطية الآلهة المصنوعة من العجوة، التي إذا أصاب القومَ قحطٌ أكلوها على ألا يجوعوا، فهي -الديمقراطية – أصل تجاري أو يافطة ترفع عندما يستقر الأمر لهم (مثل حادثة الاعتداء هذه)، أما إن تنجب الديمقراطية غيرهم من أصحاب “الدماء الزرقاء”، فهي إذًا لم تعد ديمقراطية، بل الدكتاتورية أضمن مع أناس لا يؤمنون بها (ويقصدون هنا الإسلاميين الذين ما فتئوا يقدمون مدونات حسن السيرة والسلوك ولكن.. لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى).
لماذا لا نتعلم من الدرس ولماذا سوف نَعجب لصعود نجم عبير موسي التي صارت تتصدر لوائح التصويت وقد تتصدر نتائج الانتخابات قريبًا
إلى ذلك فإن حادثة مارس الماضي بقدرة قادر تحولت إلى مشاريع ومقاولات سياسية يقتات منها الانتهازيون اقتيات الأيتام على موائد اللئام، فإن تظهر عبير موسى في صورة الضحية فهي أثمن هدية يقدمها لها خصومها السياسيون، ذلك أنها حادثة لا تختلف في شيء عما وقع سنة 2012 لحزب نداء تونس حين اجتبى بعض المعارضين له الاعتداء على أنصاره بمحافظة تطاوين بالجنوب التونسي، وراح ضحيتها منسقه الجهوي لطفي نقض، حادثة جعلها نداء تونس هودجًا يَركب عليه، كاسبًا من خلالها تعاطفًا شعبيًا كبيرًا والنتيجة كما نعلمها جميعًا، حصوله على 86 مقعدًا من جملة 217 مقعدًا في البرلمان وفوز مرشحه الباجي قائد السبسي بالانتخابات الرئاسية، فلا ندري..
لماذا لا نتعلم من الدرس ولماذا سوف نعجب لصعود نجم عبير موسى التي صارت تتصدر لوائح التصويت وقد تتصدر نتائج الانتخابات قريبًا، نسأل الله السلامة، لكن لكل ساقطة في الحي لاقطة، وكل كاسدة يومًا لها سوق، هكذا علمنا التاريخ الذي لا يعيد نفسه – كما قلنا – إلا في شكل مهزلة.