بعد مناقشات دامت ما يقرب من شهرين، انتهى مجلس النواب المصري “البرلمان” من إعداد الصيغة النهائية للتعديلات الدستورية تمهيدًا لعرضها على الشعب في استفتاء عام خلال الأيام القليلة المقبلة، وسط حالة استقطاب حادة يعانيها الشارع المصري لتمرير تلك التعديلات.
أثارت هذه الخطوة – المحفوفة بالكثير من الشكوك عن نوايا القائمين عليها – الجدل لدى المواطن في ظل انقسام الآراء بين من يراها ضرورة لفرض المزيد من الاستقرار وإكمال خطة الإصلاح المزعومة وآخرين يعتبرونها إجهاضًا للدستور وإخلالاً بمبادئ الديمقراطية وتعبيدًا لديكتاتورية جديدة.
ساعات قليلة تفصل المصريين عن الاستفتاء المتوقع أن يكون خلال الفترة من 21 – 24 من أبريل الحاليّ للإدلاء بآرائهم بشأن مستقبل تلك التعديلات في ظل تجييش أجهزة الدولة بانتماءاتها كافة للحث على المشاركة والتصويت بنعم بزعم “اعمل الصح”، يقابلها دعوات من المعارضة بمقاطعة هذه العملية التي يعتبرونها أكبر جريمة في تاريخ مصر الحديث.
تعديلات مثيرة للجدل
شملت التعديلات المقترحة العديد من المواد الواردة في دستور 2014 الذي صوت البرلمان المصري بالموافقة على مبدأ تعديله في الـ14 من فبراير الماضي، بأغلبية 485 نائبًا من أصل 596 نائبًا، إلا أن هناك خمس مواد كانت الأكثر جدلًا بين تلك التعديلات وكان لها دور كبير في تأخير إعلان الانتهاء من تلك التعديلات.
تتصدر تلك التعديلات المادة (140) التي كانت تنص على “ينتخب رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالي لانتهاء مدة سلفه، ولا يجوز إعادة انتخابه إلا لمرة واحدة” حيث تم تعديل نصها إلى “يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة ست سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالي لانتهاء مدة سلفه، ولا يجوز أن يتولى الرئاسة لأكثر من مدتين رئاسيتين متتاليتين”.
الجدل هنا تمحور حول إضافة مادة مكررة للمادة السابقة حملت رقم (241 مكررًا) صنعت خصيصًا لتعبيد الطريق أمام الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي وتنص على “تنتهى مدة رئيس الجمهورية الحاليّ بانقضاء ست سنوات من تاريخ إعلان انتخابه رئيسًا للجمهورية في 2018، ويجوز إعادة انتخابه لمرة تالية”.
ووفق هذه المادة فسيكمل السيسي دورته الحاليّة حتى 2024 ثم يعاد انتخابه مرة أخرى دورة 6 سنوات، بمعنى إمكانيه بقائه في السلطة حتى عام 2030، هذا إن لم يتغير الدستور بعد ذلك حسبما أشار رئيس البرلمان علي عبدالعال الذي ألمح إلى احتمالية تعيير الدستور كاملاً في غضون 10 سنوات.
أما المادة (150) الخاصة بتعيين نواب الرئيس فلم تضف جديدًا رغم التعديل، إذ أبقت على مبدأ رغبة الرئيس في ذلك من عدمه، حيث نصت على “لرئيس الجمهورية أن يعين نائبًا له أو أكثر، ويحدد اختصاصاتهم، وله أن يفوضهم فى بعض اختصاصاته، وأن يعفيهم من مناصبهم، وأن يقبل استقالتهم” دون إلزامه بذلك، وهي النقطة التي طالما أثارت جدلاً إبان فترة المخلوع حسني مبارك لكن يبدو أنها لن تتغير كذلك.
جولة سريعة بسيارتك في ميدان التحرير بوسط العاصمة المصرية كافية لتفسير المشهد بصورة كبيرة، فالميدان الذي كان قلب الثورة النابض تحول إلى مولد من اللافتات التي أغرقته فحالت دونه والسماء
ثم تأتي مسألة استقلالية القضاء، وهي النقطة التي أثارت استياء شريحة كبيرة من قضاة مصر، حيث نصّت المادة (185) على أن “تقوم كل جهة أو هيئة قضائية على شؤونها، ويؤخذ رأيها في مشروعات القوانين المنظمة لشؤونها، ويكون لكل منها موازنة مستقلة”، لكن أُضيف لها “ويعين رئيس الجمهورية رؤساء الجهات والهيئات القضائية من بين أقدم سبعة من نوابهم، وذلك لمدة أربع سنوات، أو للمدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد، أيهما أقرب، ولمرة واحدة طوال مدة عمله، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون، ويقوم على شؤونها المُشتركة مجلس أعلى للجهات والهيئات القضائية، يرأسه رئيس الجمهورية، وعضوية رئيس المحكمة الدستورية العليا، ورؤساء الجهات والهيئات القضائية، ورئيس محكمة استئناف القاهرة، والنائب العام. ويكون للمجلس أمين عام، يصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية للمدة التي يحددها القانون وبالتناوب بين الجهات أعضاء المجلس”.
ثم تبعتها مادة أخرى (193) في فقرتها الثالثة “ويختار رئيس الجمهورية رئيس المحكمة الدستورية من بين أقدم خمسة نواب لرئيس المحكمة. ويعين رئيس الجمهورية نواب رئيس المحكمة من بين اثنين ترشح أحدهما الجمعية العامة للمحكمة ويرشح الآخر رئيس المحكمة. ويعين رئيس هيئة المفوضين وأعضاؤها بقرار من رئيس الجمهورية بناءً على ترشيح رئيس المحكمة وبعد أخذ رأي الجمعية العامة للمحكمة، وذلك كله على النحو المبين بالقانون”.
ورغم المطالب التي تنادي بعدم إقحام القوات المسلحة في العملية السياسية، فإن التعديلات شملت موادًا تضع الجيش الحامي للديمقراطية وصيانة الدستور وهو ما أثار السخرية من البعض، حيث جاء في المادة (200) في فقرتها الأولى “القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، وصون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد، والدولة وحدها هي التي تنشئ هذه القوات، ويحظر على أي فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية”.
كما استحدثت التعديلات المقترحة عودة مجلس الشورى مرة أخرى تحت مسمى “مجلس الشيوخ” حيث جاءت المادة (250) لتنص على “يُشكل مجلس الشيوخ من عدد من الأعضاء يُحدده القانون على ألا يقل عن (180) عضوًا، وتكون مدة عضوية مجلس الشيوخ خمس سنوات، تبدأ من تاريخ أول اجتماع له، ويجري انتخاب المجلس الجديد خلال الستين يومًا السابقة على انتهاء مدته، وينتخب ثلثا أعضائه بالاقتراع العام السري المباشر، ويعين رئيس الجمهورية الثلث الباقي، ويجري انتخاب وتعيين أعضاء مجلس الشيوخ على النحو الذي ينظمه القانون”.
استحداث مجلس الشيوخ يأتي في وقت تعاني فيه الدولة من أزمات اقتصادية طاحنة، كما ثبت عبر التجربة المباركية غياب دور هذا المجلس وعدم أهميته في ظل وجود غرفة تشريعية أخرى، إلا أنه وكما كان مبارك يتعامل مع هذا الكيان على أنه مكرمة يوزع منها على بعض قوى الدولة ومعارضتها الشكلية لاستمالتهم والحفاظ على دعمهم وتأييدهم لقراراته، يبدو أن الأمر سيكون كذلك، منح وهدايا وترضية للعديد من الأسماء من مختلف الكيانات.
علي عبد العال رئيس البرلمان المصري
دعاية بالإكراه
جولة سريعة بسيارتك في ميدان التحرير بوسط العاصمة المصرية كافية لتفسير المشهد بصورة كبيرة، فالميدان الذي كان قلب الثورة النابض تحول إلى مولد من اللافتات التي أغرقته فحالت دونه والسماء، كلها تأييد للتعديلات، مدون عليها أسماء الشركات والأحزاب والكيانات الموجودة في هذه المنطقة.
ناهيك عن أحزمة مرتفعة من اللافتات وشاشات العرض تظلل الشوارع المحيطة، فتحوّلت المنطقة إلى سوق كبير من لافتات الدعم، هذا في الوقت الذي يجزم فيه البرلمان أن تلك اللافتات مبادرات فردية من مواطنين يؤيدون تلك التعديلات – التي لم ينته المجلس من صيغتها النهائية بعد – وليس هناك أي تدخل من أجهزة الدولة في هذا الشأن.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كشف ضغوطًا مورست على المواطنين لتدشين لافتات تؤيد تلك التعديلات دون سابق معرفة منهم بمضامينها ولا الهدف منها، وفي لقاءات عدة مع عدد من المبادرين بتعليق تلك اللافتات وسؤالهم عن دوافع ما قاموا به كانت الإجابة واضحة: “أنا بنفذ المطلوب مني”.
#اطمن_انت_مش_لوحدك#لا_للتعديلات_الدستورية#ارحل_ياسيسي
Edit or delete this pic.twitter.com/FATpmNXp4e
— Ahmed Sherif (@AhmedSherif76) April 9, 2019
التقرير أشار إلى ثلاثة مصادر لتمويل حملات الدعم والتأييد التي وصلت في بعضها إلى مسيرات ضخمة من السيارات الفارهة والحافلات الحديثة والهدايا التي توزع على المواطنين، أولها كان من نصيب أعضاء مجلس النواب الذين كرسوا جهودهم للترويج للتعديلات عبر تدشين المؤتمرات وإقامة السرادقات والقيام بالجولات المكوكية بين ريف مصر ومناطقها النائية لإقناع المصريين بأهمية تلك التعديلات التي يرونها شرطًا لنهضة الدولة المصرية.
485 عضوًا بالبرلمان من مؤيدي تلك التعديلات أقاموا مئات الندوات على نفقتهم الخاصة في مختلف محافظات مصر، بجانب أخرى تحمّل كلفتها رجال الأعمال الداعمون للنظام، تطرقوا خلالها إلى ضرورة المشاركة والتصويت بالموافقة مع شرح بعض المواد التي تضمنتها التعديلات.
“استجبنا لمتطلبات قانون التظاهر بضرورة الحصول على إذن مسبق قبل تنظيم أي فعالية، ولم نحصل على موافقة” رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
ثانيها كانت الأحزاب الداعمة للنظام الحاليّ التي أخذت على عاتقها شعلة الدفاع عن التعديلات وكأنها معركة بقاء بالنسبة لها، خاصة أن بعضها يطمح في الحصول على مكاسب سياسية خلال المرحلة المقبلة، ويتصدر حزب “مستقبل وطن” و “المصريين الأحرار” و”الحرية” قائمة الأحزاب الأكثر حضورًا في هذا المضمار. حيث أفادت مصادر خاصة لـ”نون بوست” أن تعليمات رسمية صدرت من قادة تلك الأحزاب بالتنسيق مع جهات سيادية للترويج لفكرة التعديلات الدستورية وحث المواطنين على المشاركة والتصويت بالموافقة.
أما جهة التمويل الثالثة التي ربما تكون الأكثر انتشارًا تلك التي تعيد للأجواء سيناريو 2005، حيث التعديلات الدستورية التي جرت وقتها على المادة (76) من الدستور وكانت تعبّد الطريق أمام الرئيس المخلوع حسني مبارك للبقاء في الحكم دون منافس، فتمثّلت في المواطن العادي، حيث مارست السلطات الأمنية ضغوطها المعتادة على أصحاب المحال التجارية والشركات والمقاهي بكتابة لافتات مؤيدة للتعديلات دون معرفة مضمونها، بل وصل الأمر إلى كتابة لافتات بأسماء وهمية لا علاقة لهم بأي شيء، بل إن بعضهم لا يعرف القراءة والكتابة.
ميدان التحرير
تضييق الخناق على المعارضة
وفي الجهة الأخرى يعاني الفريق الرافض لتلك التعديلات تضييقًا كبيرًا في التعبير عن رأيه بحرية كاملة، فبجانب التهديدات المتلاحقة من السلطات الأمنية للأصوات الرافضة، هناك رفض كامل لأي فعالية من شأنها المساس بتلك التعديلات أو تحث المواطنين على عدم المشاركة أو التصويت بـ”لا”.
مدحت الزاهد رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي الذي ولد من رحم ثورة يناير 2011 وتحالف ضد حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، أكد أنه لم يسمح لحزبه بتنظيم أي مؤتمرات أو وقفات تعبر عن رأي أعضائه في التعديلات الدستورية التي يرفضونها منذ البداية.
وأضاف الزاهد – الذي لم يتوقع أن يصل الحال بحزبه أن يمارس نشاطه داخل جدرانه فقط – في تصريحاته أنه تقدم بطلب لتنظيم وقفات في الشارع من أجل إيضاح موقف الحزب من تلك التعديلات بصورة علنية، لكن ذلك الطلب قوبل بالرفض من الأجهزة المعنية، وتابع “استجبنا لمتطلبات قانون التظاهر بضرورة الحصول على إذن مسبق قبل تنظيم أي فعالية، ولم نحصل على موافقة”.
التعديلات الدستورية التي أقر مجلس النواب المصري صيغتها النهائية أمس لا مثيل لها في تاريخ التعديلات الدستورية في العالم أجمع, وتشكل فضيحة قانونية وسياسية وأخلاقية كبرى, وسوف تلحق العار إلى الأبد بكل من شارك في إعدادها أو في إقرارها أو يوافق عليها في الاستفتاء. وهذا رأيي الشخصي.
— Hassan Nafaa (@hassanafaa) April 15, 2019
كما أشار إلى أن “هناك قناعة حاليًّا بأن ممارسة العمل الحزبي بحرية تقتصر على المقرّات الحزبية وليس خارجها…، مما يعني عدم قدرتي على التواصل مع الشارع أو بناء كتلة جماهيرية”، منبهًا أن هذا التضييق تكرّر مع الحركات والقوى المعارضة للتعديلات الدستورية المتحالفة مع حزبه، ومنها الحركة المدنية الديمقراطية وتيار الكرامة، وغيرهما.
وما بين حشود الدعم والتأييد ودعوات الرفض والمقاطعة يترقب المصريون ما ستسفر عنه الأيام القليلة الماضية، وبينما يعتبرها البعض جولة سهلة لتعبيد الطريق أمام السيسي حتى 2030، يطالب آخرون بجعلها معركة حامية الوطيس يسجل من خلالها الشارع موقفًا معارضًا ويوصل رسالة للعالم أن هناك رفضًا لمثل هذه الخطوات التي تصب في صالح شخص واحد بصرف النظر عن مصلحة دولة بأكملها ومستقبل شعبها.