رغم نجاح الاحتجاجات السودانية في إسقاط الرئيس عمر البشير ومن بعده وزير دفاعه عوض بن عوف وتعيين عبد الفتاح البرهان المقبول إلى حد ما جماهيريًا، رئيسًا للمجلس العسكري إلا أن درجة الغليان لا تزال تخيم على الأجواء بصورة تجعل من التنبؤ بمستقبل الأوضاع أمرًا غاية في الصعوبة.
المحاولة الفاشلة لفض الاعتصام الإثنين أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة زدات من سخونة الزيت المسكوب على النار المشتعلة بالأساس، الأمر الذي صعد معه سقف مطالب الغاضبين إلى المطالبة بحكومة انتقالية مدنية بالكامل وتنحي المجلس العسكري عن المشهد بصورة نهائية، مع إعلان استمرار الاعتصام حتى تنفيذ تلك المطالب.
الضغوط الداخلية التي يواجهها البرهان ورفاقه تتزامن مع ضغوط أخرى خارجية وإقليمية بعد إمهال لجنة السلم والأمن التابعة للاتحاد الإفريقي المجلس العسكري 15 يومًا لتسليم السلطة للمدنيين وإلا سيتم تعليق عضوية السودان تلقائيًا في الاتحاد، فكيف يستطيع المجلس التعامل مع تلك الضغوط؟ وهل يواجه البرهان مصير بن عوف؟
ضغوط داخلية
نجح المعتصمون بمحيط القيادة العامة للجيش السوداني في إفشال محاولات فضّ الاعتصام بعدما فوجئوا بجرارات تابعة للجيش وقوات الدعم السريع تعمل على إزالة متاريس وحواجز أمنية وضعها المعتصمون لحماية المكان، وذلك بعد ساعات فقط من تصريحات لقادة المجلس العسكري الانتقالي أعلنوا فيها التزامهم بعدم فض الاعتصام بالقوة.
تجمع المهنيين السودانيين وهي الجهة التي تدير الاحتجاجات منذ بدايتها وعبر صفحته الرسمية على فيس بوك كشف محاولة قوات نظامية فض الاعتصام وذلك بحشد قواتها في الجانب الشرقى والغربي من ساحة الاعتصام، مع مكبرات الصوت التي تروج خبر فض الاعتصام والوصول لاتفاق لثني الثوار عن الوصول لداخل مقر الاعتصام، وإغلاق بعض الطرق التي تؤدي لمكان الاعتصام في وجه الثوار.
وأضاف التجمع “اعتصام السودانيين نتيجة عملنا الثوري المتواصل وهو حق انتزعناه انتزاعًا، فض الاعتصام هو قرار يرجع للثوار في الأرض مرهون بتحقيق كل أهداف الثورة”، منوها في الوقت ذاته أن “اللاعنف والسلمية هي طريقنا وهي ما أوصلنا للانتصارات، العنف ليس سبيلنا ولا يمثلنا، يجب الحذر من كتائب النظام التي تحاول حرفنا عن ثورتنا وهم في الرمق الأخير”.
وفي المقابل أكد المتحدث باسم المجلس اللواء شمس الدين شانتو، خلال مؤتمر صحفي أن الجيش لن يفض الاعتصامات بالقوة، وطلب من المتظاهرين التوقف عن إغلاق الشوارع وعرقلة الحياة العامة للناس، وقال: “الجيش لن يتهاون مع من سيحملون السلاح”.
ونتيجة لهذا التطور طالب التجمع في أول مؤتمر صحافي له، بحل المجلس العسكري وتأسيس مجلس رئاسي مدني لإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، وذلك بمشاركة محدودة للعسكريين، فيما قال محمد ناجي الأصم، وهو من أبرز الوجوه القيادية في التجمع: “نريد إلغاء المجلس العسكري الحاليّ واستبداله بمجلس مدني مع تمثيل للعسكريين”.
وأوضح “مطلب تشكيل المجلس الرئاسي، سُلم للمجلس العسكري الانتقالي ومعه جملة أخرى من المطالب، من بينها حل كل مليشيات النظام السابق وتشكيل مجلس وزراء مدني وسلطة تشريعية”، كما طالب بإقالة رئيس القضاء عبد المجيد إدريس والنائب العام عمر أحمد محمد واستبدالهما بأشخاص موثوقين، مشددًا على أهمية حماية المتظاهرين السلميين، إضافة إلى التحفظ على قيادات النظام السابق ورموزه ومصادرة ممتلكاتهم، وعدم مشاركة المؤتمر الوطني (الحاكم سابقًا) في أي حكومة مقبلة.
رغم عدم تحديده لطبيعة ونوعية تلك العقوبات فإنها في المجمل لن تخرج عن الحزمة التقليدية التي يتخذها المجلس ضد بعض الدول في مثل تلك الحالات على رأسها تجميد عضوية السودان
السيد الربوة، الكاتب المتخصص في الشأن العربي، أشار إلى أن مطالب المحتجين لن تقف عند الإطاحة بالبشير وفقط، إيمانًا منهم أن رجاله ما زالوا يتصدرون المشهد بصورة كبيرة، محذرًا من تكرار السيناريو المصري، وأن ما حدث مع الرئيس المخلوع حسني مبارك ربما يتكرر مع البشير ورجاله المقربين.
وأضاف الكاتب في تصريحات لـ”نون بوست” أن الضمانة الوحيدة لتحقيق مطالب الثوار البقاء في الميادين والشوارع حتى تلبيتها جميعها، مؤكدًا أن الاعتصام في محيط قيادة الجيش هو السلاح الأقوى الآن الذي من خلاله يستطيع المحتجون فرض كلمتهم وإملاء شروطهم خاصة أن الشارع معهم.
وتراهن القوى المعارضة المشاركة في الاحتجاجات (قوى الحرية والتغيير)، على استمرارية الاعتصام باعتباره الورقة الوحيدة التي تمتلكها، في ظل عدم توافر الثقة الكافية بالمجلس العسكري الانتقالي الذي طرح حتى الآن جملة من الوعود، تحقق القليل منها والآخر بات محل شك.
الناشطة السودانية أميرة محمد تبن عضو اللجنة الشبابية المشاركة في المفاوضات مع المجلس العسكري الانتقالي استبعدت تسليم المجلس الحكم للمدنيين، فالمسألة لا تعدو كونها محاولة لكسب الوقت لا أكثر، فالسودانيون لم يثقوا بعد في المجلس الحاليّ، فهو في نظر شريحة كبيرة من الثوار نموذج آخر بديل للكيزان وحكم العسكر ولا علاقة لهم بالثورة ولا رجالها والمشاركين فيها.
وأضافت تبن في تصريحاتها لـ”نون بوست” “البرهان لم يحقق أي من أهداف الثورة حتى الآن، ومن ثم أتوقع مواصلة الاعتصام حتى تحقيق المطالب كاملة، على رأسها رؤية البشير حلف القضبان وتقديم رموزه للمحاكمة العاجلة وتقليص الفترة الانتقالية، وإلا فالأمر لن يتجاوز المسرحية وفق ما ذهب إليه البعض”.
إحذروا محاولات التخريب المتعمدة التي يبثها اعداء الثورة بينكم، إن همنا الأول الآن هو تعزيز اعتصامات المدن وتقوية لجان الأحياء، هذه هي مهام الثورة العاجلة، ومتى تحقق النصر التام فرغنا إلى بقية مهام التغيير.#لم_تسقط_بعد#اعتصام_القياده_العامه
— تجمع المهنيين السودانيين (@AssociationSd) April 16, 2019
تهديدات خارجية
خارجيًا.. أمهل مجلس السلم والأمن الإفريقي المجلس العسكري في السودان 15 يومًا لتسليم السلطة للمدنيين، ففي قراره الصادر عقب اجتماعه أمس في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا ناقش من خلاله تطورات الأوضاع في السودان دعا إلى فتح الأجواء السياسية، معربًا عن قلقه العميق لسيطرة الجيش على السلطة وتأثير ذلك على الوضع الإقليمي والقاري.
المجلس ندد كذلك بتعطيل الدستور وحل البرلمان وتأسيس سلطة الجيش التي وصفها بغير الشرعية، رافضًا قرار المؤسسة العسكرية قيادة المرحلة الانتقالية، كما دعا إلى تسليم السلطة لقيادة مدنية ليس لها علاقة بالقوات المسلحة، محذرًا من عقوبات ربما يتم فرضها حال عدم استجابة المجلس لهذا القرار.
ورغم عدم تحديده لطبيعة ونوعية تلك العقوبات فإنها في المجمل لن تخرج عن الحزمة التقليدية التي يتخذها المجلس ضد بعض الدول في مثل تلك الحالات على رأسها تجميد عضوية السودان لحين تسليم السلطة لحكم مدني بجانب حث الدول على تجميد العلاقات الاقتصادية وربما السياسية مع الخرطوم إذا لزم الأمر.
اختيار البرهان بالاسم جاء بناء على ضغوط سعودية إماراتية كانت الدافع الأكبر لاختيار بن عوف التنحي مبكرًا عن المشهد، هذا بخلاف تنحي صلاح قوش رئيس جهاز المخابرات المستقيل الذي يتمتع بسمعة غير جيدة بين السودانيين
وفي السياق ذاته أكدت مفوضة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، أن الاتحاد لن يعترف بشرعية المجلس العسكري الانتقالي في السودان، مطالبة بانتقال سياسي يقوده المدنيون، موضحة خلال كلمة في الجمعية العمومية للبرلمان الأوروبي المنعقدة في ستراسبورغ، أن الاتحاد لديه توقعات من المجلس العسكري، تتمثل في “القيام بخطوات تزيد من الثقة”، ومنها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ومعاقبة المسؤولين من قوات الأمن على الهجمات التي استهدفت المتظاهرين، وأدت لمقتل العديد منهم خلال الفترة الماضية.
وفي المقابل دافع عضو المجلس العسكري الانتقالي الفريق الركن جلال الدين الشيخ الطيب الذي يزور أديس أبابا حاليًّا عن الخطوات التي اتخذها المجلس ورفض تسميتها بالانقلاب، مؤكدًا أن انحياز القوات المسلحة للشعب يأتي استجابة لرغباته في التغيير وتجسيدًا لتطلعات كل فئاته نحو حياة أفضل، ولا يعد انقلابًا عسكريًا أو طمعًا في سلطة.
فيما ناشدت أميمة الشريف رئيسة وفد السودان في اجتماعات مجلس السلم والأمن، المجلس تفهم الوضع في بلادها، لافتة أن القوات المسلحة تولت السلطة استجابة لطلب الشعب، وما قامت به كان ضروريًا لحقن الدماء، مضيفة أن خطوة الجيش تمهد لنقل السلطة، وأنها حظيت بتأييد شعبي عريض، على حد قولها.
في السياق ذاته يرى السفير السابق في الخارجية السودانية الطريفي كرمنو، أن “الاتحاد الإفريقي تعجّل كثيرًا في إصدار ذلك القرار، وحتى من دون معرفة الأوضاع في السودان، وظروف المطالبة الواسعة من الشعب للجيش السوداني بالانحياز لخيارهم والإطاحة بحكم الرئيس البشير”.
كرمنو في تصريحات له اعتبر أن “تسليم السلطة لحكومة مدنية في الوقت الحاليّ، سيؤدي لنتائج كارثية، لأن النظام القديم ما زال يمتلك مليشيات مسلّحة قد لا تستطيع الحكومة المدنية التعامل معها ومع كل التحديات الأمنية المتوقعة”، على حد وصفه، وأشار إلى أن “قادة المجلس العسكري التزموا بتسليم السلطة حتى قبل فترة العامين الانتقالية”، مشدّدًا على أن “وجود المجلس العسكري مهم وضروري، من أجل الانتقال السلس والآمن للسلطة لأي حكومة مدنية منتظرة”.
وفي محاولة لكسب الشرعية الدولية عقد نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي محمد حمدان دلقو، سلسلة اجتماعات بالسفراء الغربيين، لشرح وجهة نظر المجلس وموقفه إزء المطالب الشعبية، حيث التقى ابتداءً القائم بالأعمال الأمريكي ستيفن كوتسيس الأحد، ثم رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي جان ميشال دوموند، والسفير البريطاني عرفان صديق، والسفيرة الهولندية كارين بوفين.
And when you gone i feel incomplete so if you want the truth i want to be part of your symphony ?♥️?#لم_تسقط_بعد#اعتصام_القيادة_العامة pic.twitter.com/oE1wmwNqbX
— oath keeper | علمانيااااو (@fury19888) April 15, 2019
الدعم السعودي الإماراتي
يحظى المجلس العسكري السوداني بدعم سعودي إماراتي بحريني منذ الوهلة الأولى، لا سيما بعد تعيين البرهان بدلاً من بن عوف، الأمر الذي أحدث وفق البعض حالة من التوازن في موازين القوى في ظل الضغوط الخارجية الإفريقية الممارسة على المجلس وهو ما سينعكس بصورة أو بأخرى على موقفه النهائي.
البرهان ومنذ طرح اسمه على الساحة عُرف عنه قربه الشديد من أبو ظبي والرياض خاصة أن الرجل يقود القوات السودانية المشاركة في التحالف العسكري بقيادة السعودية في اليمن، وقضى معظم أوقاته طيلة السنوات الثلاثة الأخيرة متنقلا بين الدول الثلاثةة (اليمن والإمارات والسعودية).
من الصعب أن يستسلم البرهان في الوقت الراهن في ظل الدعم السعودي الإماراتي المتوقع أن يكون سخيًا خلال الفترة المقبلة، فهو الورقة الرابحة التي ربما تعيد الدولتين الخليجيتين إلى الساحة السودانية مرة أخرى بعدما سُحب البساط من تحت أقدامهما لحساب قوى أخرى
مرت العلاقات بين السودان والدولتين الخليجيتين بموجات من التوتر إبان عهد البشير في ظل تباين الرؤى حيال بعض الملفات على رأسها التقارب مع الدوحة وأنقرة، والعلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين، فضلاً عن الارتباك الذي شاب العلاقات مع القاهرة، الأمر الذي صعد من احتمالات سحب الخرطوم لقواتها المشاركة في اليمن إثر الضغوط الداخلية التي مورست ضد حكومة البشير وقتها.
بالأمس التقى رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني بمكتبه بالقيادة العامة في الخرطوم، وفدا سعودياً إماراتياً مشتركاً رفيع المستوي، وأبلغ الوفد، البرهان، رسالة شفهية تضمنت تحيات قيادتي البلدين الشقيقين واستعدادهما لدعم ومساندة السودان وشعبه في هذه المرحلة التاريخية المهمة.
وعليه ترى أبو ظبي والرياض في البرهان ورفاقه الحصان الأسود الذي يجب الرهان عليه كما ذهبت الصحفية أميرة ناصر، الكاتبة المتخصصة في الملف السوداني، التي أشارت إلى أن العلاقات التي تربط بين رئيس المجلس العسكري الجديد والخليج علاقات قوية للغاية.
ناصر لـ”نون بوست” كشفت أن اختيار البرهان بالاسم جاء بناءً على ضغوط سعودية إماراتية كانت الدافع الأكبر لاختيار بن عوف التنحي مبكرًا عن المشهد، هذا بخلاف تنحي صلاح قوش رئيس جهاز المخابرات المستقيل الذي يتمتع بسمعة غير جيدة بين السودانيين.
وأضافت الكاتبة أنه من الصعب أن يستسلم البرهان في الوقت الراهن في ظل الدعم السعودي الإماراتي المتوقع أن يكون سخيًا خلال الفترة المقبلة، فهو الورقة الرابحة التي ربما تعيد الدولتين الخليجيتين إلى الساحة السودانية مرة أخرى بعدما سُحب البساط من تحت أقدامهما لحساب قوى أخرى.
تجميد عضوية الاتحاد الإفريقي ليست بالخطوة التي تؤثر كثيرًا في المشهد السوداني بقدر حجم الدعم الخليجي الذي سينعكس على حياة المواطن السوداني المتردية في المقام الأول، التي كانت على رأس الأسباب وراء انطلاق ثورته في 19 من ديسمبر الماضي، “ومن ثم ستكون الكلمة النهائية لمن ينجح في تلبية رغبات المواطن الحياتية” هكذا أكملت ناصر.
وعلى الأرجح فإن الأيام القليلة القادمة لن تكون أقل سخونة مما سبق، فإصرار المحتجين على مواصلة الاعتصام في ظل تهديدات إفريقية يقابلها دعم خليجي لن يسدل الستار قريبًا على المشهد السوداني المتوقع أن يسفر بين الساعة والأخرى عن تطورات تلو الأخرى بعضها ربما يحمل المفاجآت.