“أنا أسير في أسر حماس منذ أكثر من 420 يومًا، كل يوم في الأسر كأنّه الأبد، كما أن الألم داخلنا ينمو يومًا بعد آخر.. نموت كل يوم ألف مرة”.. بهذه العبارات وبلغة يعتريها الخوف وتكسوها الدموع بثت كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الفلسطينية “حماس”، أمس السبت، مقطعًا مصورًا لأسير إسرائيلي في غزة يحمل الجنسية الأمريكية، يدعى عيدان ألكسندر، يناشد فيه حكومة الاحتلال والرئيس الأمريكي الفائز دونالد ترامب بالتدخل لأجل إطلاق سراح المحتجزين في غزة.
ويعد هذا المقطع الذي يبدو أنه صُور قبل أيام تعد على أصابع اليد الواحدة، من أكثر الفيديوهات التي بثتها المقاومة لمحتجزين لديها، حملا للرسائل والمعطيات، للداخل الإسرائيلي وخارجه، فهو يأتي في وقت توهم فيه الاحتلال، حكومة وشعبًا، ومن خلفه حليفه الأمريكي، أن حماس ورفيقات المقاومة في أضعف حالاتها، وأنها ما عادت تمتلك أي أوراق ضغط بحوزتها، وأن استسلامها مسألة وقت لا أكثر.
وكان آخر مقطع بثته القسام لمحتجزين إسرائيليين لديها في 4 سبتمبر/أيلول الماضي، حيث عرضت تسجيلًا مصورًا للأسيرين ألكسندر لوبنوف وكارميل غات، بعد أن قتلهم الجيش الإسرائيلي، وذلك بعد يوم واحد فقط من بث مقطع سابق مسجل للأسير أوري دانينو الذي عثر جيش الاحتلال على جثته بين جثث 6 أسرى جنوبي قطاع غزة.. فأي رسائل يحملها المقطع الأخير؟
دلالة التوقيت
حمل توقيت بث هذا المقطع العديد من الدلالات:
أولًا: جاء تأكيدًا لمفاجأة الرئيس الأمريكي القادم، دونالد ترامب، بشأن الأسرى الأحياء، كما ذكر موقع “أكسيوس” الأمريكي الذي كان قد نقل أن الرئيس الجمهوري فوجئ عندما علم أن نصف المحتجزين الإسرائيليين في غزة ما زالوا على قيد الحياة، وذلك بعدما زودته الحكومة الإسرائيلية بمعلومات مغلوطة تفيد بمقتل معظم هؤلاء المحتجزين كما نقلت القناة 13 العبرية.
ثانيًا: جاء المقطع بعد نحو أسبوع مما أعلنته كتائب القسام بشأن مقتل أسيرة إسرائيلية شمال قطاع غزة بسبب القصف الإسرائيلي الذي لا يتوقف، حيث غرد الناطق العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيدة، عبر قناته على تيلغرام قائلًا إنه: “بعد عودة الاتصال المنقطع منذ أسابيع مع مجاهدين مكلفين بحماية أسرى للعدو، تبين مقتل إحدى أسيرات العدو في منطقة تتعرض لعدوان صهيوني شمال قطاع غزة.. فيما لا يزال الخطر محدقًا بحياة أسيرة أخرى كانت معها”، محملًا نتنياهو وحكومته وجيشه المسؤولية الكاملة عن حياة أسراهم، وتابع “على العدو أن يستعد للتعامل مع معضلة اختفاء جثث أسراه القتلى، بسبب التدمير الواسع وبسبب استشهاد بعض الآسرين”.
ثالثًا: يتزامن مع حراك مصري قطري أمريكي لإبرام صفقة تبادل والتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، حيث زار وفد مصري تل أبيب قبل يومين لعرض مقترح قدمته القاهرة يتضمن عمليات لتبادل الأسرى تسير بالتدريج، مع إعطاء أولوية لكبار السن وأصحاب الأمراض المزمن، على أن تكون تلك التهدئة فرصة لتواصل المفاوضات من أجل الوصول إلى اتفاق كامل لإنهاء الحرب في القطاع بشكل نهائي، وفي المقابل زار وفد من حماس والجهاد الإسلامي العاصمة المصرية لمناقشة المقترح بكل تفاصيله، حسبما ذكرت وكالة “رويتزر”.
رابعًا: يأتي بعد أيام قليلة من إبرام اتفاق رسمي لوقف إطلاق النار – ولو مؤقت – بين لبنان و”إسرائيل”، رغم عدم تحقيق الاحتلال للأهداف التي أعلن عنها عند بدء عمليته البرية في الجنوب اللبناني والتي كان على رأسها تدمير “حزب الله” وقاعدته العسكرية، كما جاء هذا الاتفاق رغمًا عن إرادة وزراء اليمين المتطرف في الحكومة العبرية، وذلك بفضل الضغوط الأمريكية الأوروبية التي مورست على نتنياهو وأجبرته على الرضوخ لإبرام هذا الاتفاق.. وهو ما يمكن أن ينسحب بطبيعة الحال على المشهد في غزة.
رسائل خماسية الأبعاد
حمل المقطع المصور العديد من الرسائل ذات المضامين المختلفة:
– إلى ترامب.. وجه الأسير الإسرائيلي الأمريكي رسالة للرئيس الأمريكي القادم قال فيها: “إلى الرئيس ترامب، أنا مواطن أمريكي إسرائيلي محتجز حاليًا في غزة، بصفتي أمريكيًا، كنت دائمًا أؤمن بقوة الولايات المتحدة، والآن أرسل رسالتي إليكم”، حيث طالبه بالتدخل الفوري والعاجل واستخدام نفوذه كرئيس للولايات المتحدة وبكل الطرق من أجل إطلاق سراح كل المحتجزين، مضيفًا “كل يوم نقضيه هنا يبدو كأنه للأبد، والألم داخلنا ينمو يوميًا”.
– إلى بايدن.. حمّل الأسير إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، جزءًا كبيرًا من المسؤولية، واتهمه بالتواطؤ مع جيش الاحتلال في قتل الأسرى وتهديد حياتهم وإبقائهم على تلك الشاكلة، قائلًا إن “الأسلحة التي أرسلها (بايدن) تقتلنا نحن الآن، والحصار غير القانوني الذي فرضه علينا يقتلنا، لا أريد أن أنتهي ميتًا”، موجهًا خطابه لترامب “يرجى عدم ارتكاب الخطأ الذي ارتكبه بايدن”.
– إلى نتنياهو.. المسؤولية ذاتها حمّلها المحتجز خلال المقطع المصور لرئيس وزراء الاحتلال، متهمًا إياه بالتسبب في قتل الجنود والمواطنين الإسرائيليين على حد سواء، قائلًا: “سمعتك تتحدث لشعب إسرائيل في الأخبار وأنا محبط جدًا، سمعت أنك ستعطي 5 ملايين دولار لمن يعيدنا أحياءً”، مضيفًا: “رئيس الوزراء من المفترض أن يحمي مواطنيه وجنوده، وأنت أهملتنا”.
– إلى عائلات الأسرى.. وجه ألكسندر رسالة وجع واشتياق لعائلته التي غاب عنها لأكثر من 420 يومًا، طالبهم فيها بأن يكونوا أقوياء، قائلًا: “كل يوم يمر الوجع يزداد داخلي، أنا مشتاق لكم جدًا، كل يوم أنا أصلي كي أراكم قريبًا، من فضلكم كونوا أقوياءً هذه مسألة وقت وحتى ينتهي هذا الكابوس”.
– إلى الشارع الإسرائيلي.. طالب الأسير الإسرائيليين بالتحرك والضغط لأجل إجبار الحكومة على إبرام صفقة تبادل في أسرع وقت قبل فوات الأوان، مخاطبًا إياهم بقوله: “الخوف في ذروته ونحن نموت ألف مرة في كل يوم يمر علينا، ولا أحد يشعر بنا، شعب “إسرائيل” لا تهملونا، نحن نريد أن نعود بعقل كامل إلى البيت، غير معقول أن ندفع ثمن خطأ اقترفته الحكومة”.
المقاومة.. دلالات التحدي والإصرار
أما فيما يتعلق بحماس والمقاومة فالمقطع لا يخلو من حزمة من الرسائل والدلالات التي توجهها الفصائل لجميع الأطراف المتداخلة في المعركة، في الداخل والخارج.
أولها: أن الفيديو المنشور مصور حديثًا، بعد انتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وبعد انقضاء أكثر من 420 يومًا من المعركة حسبما جاء على لسان الأسير، كذلك يأتي بعد مزاعم الاحتلال القضاء على كل القدرات التنظيمية للمقاومة وإجهاض كل ما لديها من أوراق ضغط مختلفة، وفي ذلك رسالة صمود وتحد لنتنياهو وحكومته وحليفه في البيت الأبيض بأن المقاومة لا تزال صامدة وثابتة وواقفة على أقدامها بكل قوة، حتى إن تلقت ضربات موجعة على مدار أشهر الحرب الـ13.
وفي ذات السياق تعكس مخاطبة الأسير الذي يحمل الجنسية الأمريكية، ترامب، دون بايدن، للتدخل لإنهاء الحرب وإبرام صفقة تبادل، قراءة المقاومة الدقيقة لمعطيات المشهد، وعدم التعويل على الديمقراطيين وما تبقى من حكمهم، وهي القراءة التي لا شك أن الرئيس الفائز سيتلقاها بشكل أو بآخر، خاصة بعد تلقيه معلومات مغلوطة حول ما تبقى من الأسرى على قيد الحياة.
وكان السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، قد صرح في مقابلة له مع “أكسيوس” أن ترامب، يريد أن تنتهي الحرب في غزة وتُبرم صفقة لتبادل الأسرى والرهائن قبل تسلمه مهام منصبه بشكل رسمي في 20 يناير/كانون الثاني المقبل، مضيفًا عقب انتهاء جولة له في الشرق الأوسط، هي الثانية خلال أقل من شهر، التقى خلالها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، أن الرئيس الفائز يحتاج إلى التوصل لاتفاق في غزة، قبل أن يتمكن من التركيز على أهدافه الرئيسة في السياسة الخارجية بالمنطقة، والتي على رأسها تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والسعودية، والتحالف الإقليمي ضد إيران.
ثانيها: تثبت المقاومة شكلًا ومضمونًا من خلال هذا المقطع أنها لا تزال مهيمنة بشكل كامل على ملف الأسرى، وبالتبعية الثبات ميدانيًا، رغم آلة التدمير التي لم تترك مترًا واحدًا في القطاع دون تسوية بالأرض فوقها وباطنها، وهي الرسالة الأكثر قوة وتأثيرًا لدى الشارع الإسرائيلي الذي يحاول نتنياهو خداعه باتهام حماس بقتل المحتجزين بعدما فقدت بنيتها العسكرية والتنظيمية.
ثالثها: رسالة تحذير واضحة لا لبس فيها، بأن أي محاولة لتحرير الأسرى – دون التفاوض – عبر القوة والضغط العسكري سيكون الفشل مصيرها، وحياة المحتجزين الثمن، وهو ما أكد عليه ألكسندر في المقطع الذي بثته القسام حين أشار إلى أن هناك تعليمات لحراس الأسرى بأنهم لن يخرجوا أحياءً بالقوة مهما كان الثمن، وهي الرسالة التي كان قد وجهها قبل ذلك أبو عبيدة في أكثر من مقطع صوتي له.
وتمارس المقاومة من خلال إدارتها لملف الأسرى بوجه عام ضغطًا سياسيًا وشعبيًا ونفسيًا مكثفًا على نتنياهو وحكومته، في محاولة لإجباره على الرضوخ لاستغاثات عائلات المحتجزين بالجلوس على طاولة المفاوضات والتخلي عن صلفه وعناده بشأن إبرام صفقة تبادل وإنهاء الحرب، في مواجهة ضغوط أخرى مقابلة من وزراء اليمين المتطرف الذين لوحوا أكثر من مرة بأن إنهاء الحرب دون تحقيق الأهداف المعلنة (القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان ألا تشكل غزة تهديدًا للداخل الإسرائيلي) تعني انهيار الائتلاف الحكومي.
محصلة لما سبق.. تنطلق حماس هذه المرة من توظيفها لهذا السلاح – ملف الأسرى – من قاعدة أن ما حدث في لبنان، حيث الاتفاق دون تحقيق الحرب أهدافها، يمكن أن ينسحب على قطاع غزة.
فليس شرطًا أن يُحقق المحتل أهدافه المعلنة كشرط لوقف إطلاق النار وإنهاء القتال في فلسطين، وذلك بإلقاء الكرة في أربعة ملاعب مرة واحدة، ملعب ترامب الطامح في أن يكون رجل السلام القادم فوق حصانه الأبيض لفرض الأمن والاستقرار وإنهاء كل الحروب والنزاعات، وملعب بايدن الحالم بخروج مشرّف من البيت الأبيض يحفظ به ماء الوجه، وملعب نتنياهو، مجرم الحرب الملاحق قضائيًا والباحث عن مخرج لإنهاء عزلته التي تتصاعد يومًا تلو الآخرز
وأخيرًا ملعب عائلات الأسرى والشارع الإسرائيلي الذي استقر في يقينه أن حياة أسراه ما عادت ضمن قائمة أولويات الحكومة التي يهيمن عليها اليمين المتطرف المتعطش لمزيد من القتل والدماء، بما فيها دماء الإسرائيليين، في سبيل تحقيق أوهامه الاستعمارية الاستيطانية.