قدّم صباح الثلاثاء، رئيس المجلس الدستوري الجزائري الطيب بلعيز استقالته ليرحل بذلك رمز آخر من تركة نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، خاصة أن الرجل كان أحد “الباءات الثلاث” الذين يطالب الجزائريون برحيلهم للخروج من الأزمة الحاليّة التي تعيشها البلاد، وتتطلب حلولاً مستعجلة مثلما قال رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح الذي أكد من جديد أن المؤسسة العسكرية ستقف دائمًا إلى جانب الحراك الشعبي، ليفند بذلك كل ما راج عن تراجعه عن مواقفه السابقة الداعمة لمطالب المتظاهرين في الشارع.
ويترقب الجزائريون أن تكون هذه الاستقالة بداية لرحيل “البائين” الباقيين المتمثلين في رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح، والوزير الأول نور الدين بدوي المرفوضين من الحراك الشعبي بأن يكونا على رأس إدارة المرحلة الانتقالية التي تعيشها البلاد.
إذعان
بعد مقاومة لأسابيع منذ رحيل الرئيس بوتفليقة الذي عينه رئيسًا للمجلس الدستوري في فبراير/شباط الماضي عقب وفاة سلفه مراد مدلسي، خنع أمس الطيب بلعيز أخيرًا لمطالب الجزائريين المنادية برحيله الفوري كونه يمثل أحد الرموز البارزين لنظام بوتفليقة، فقد شغل خلال ولاياته الأربعة وزيرًا للداخلية والعدل ومستشارًا قانونيًا بالرئاسة قبل أن يعين رئيسًا للمجلس الدستوري، ويقبل ملف ترشح بوتفليقة للرئاسيات الملغاة رغم وجود عارض حالته الصحية الحرجة.
وصباح الثلاثاء، أوردت وكالة الأنباء الجزائرية برقية مفادها أن الطيب بلعيز أبلغ أعضاء المجلس الدستوري في اجتماع استقالته من منصبه، دون تقديم أسباب، وفور سماع هذا الخبر، عبر الطلبة الذين كانوا متجمعين في مسيرة وسط العاصمة الجزائر عن فرحهم في إسقاط أول الباءات الثلاث، مرددين شعار “ما زال ما زال”، في إشارة إلى ضرورة رحيل بن صالح وبدوي أيضًا.
تكمن أهمية المجلس الدستوري في الجزائر كونه الهيئة التي تفصل في ملفات الترشح للرئاسيات
وفي المساء، بث التليفزيون الحكومي خبرًا مفاده أن الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح قبل استقالة بلعيز وعين كمال فنيش خلفًا له، وكان فنش عضوًا في المجلس الدستوري منذ 2016 منتخبًا عن مجلس الدولة، وفق مرسوم رئاسي وقعه بوتفليقة وقتها.
وتكمن أهمية المجلس الدستوري في الجزائر كونه الهيئة التي تفصل في ملفات الترشح للرئاسيات وفي نزاهة الانتخابات من عدمها، والمصادقة على النتائج النهائية لكل استحقاق بما فيها الرئاسيات.
ويعطي رحيل بلعيز من رئاسة المجلس الدستوري جرعة إضافية للحراك الشعبي لمواصلة نضاله، كونه استطاع أن يسقط رمزًا جديدًا من نظام بوتفليقة، خاصة عندما يتعلق الأمر بأحد كان يعرف أنه من رجالات العلبة السوداء للرئيس المستقيل.
ترحيب ومقاطعة
رحبت مجمل الأحزاب الجزائرية خاصة المعارضة باستقالة بلعيز، كونه يصب في خانة الاستجابة لمطالب الحراك الشعبي، وقالت حركة مجتمع السلم أكبر حزب معارض في البلاد في بيان: “استقالة الطيب بلعيز خطوة تتماشى مع مطالب الحراك الشعبي وتنسجم مع مقترح الحل الذي بادرت الحركة لعرضه عبر وسائل الإعلام مرات عديدة”.
مع تسارع الأحداث، تتضاءل فرص تنظيم الانتخابات الرئاسية المقبلة في تاريخها المحدد 4 من يوليو المقبل
وأضاف البيان أن “هذه الاستقالة خطوة أساسية في طريق الحل إذا توافرت الإرادة السياسية الصادقة، على أن يتم تعيين شخصية توافقية يقبلها الشعب وتكون غير متورطة في الفساد وغير مسؤولة عن التزوير الانتخابي في أي استحقاق من الاستحقاقات الانتخابية السابقة، على أن يستقيل بعد ذلك عبد القادر بن صالح ليخلفه في رئاسة الدولة رئيس المجلس الدستوري الجديد التوافقي بما يتناسب مع القراءة الموسعة لمواد الدستور”.
لكن رئيس المجلس الدستوري الجديد غير المعروف إعلاميًا لا يبدو أنه قد يكون شخصية توافقية بالنظر إلى سجله السياسي الهزيل مقارنة بأسماء أخرى معروفة في الساحة السياسة الجزائرية.
أما حزب طلائع الحريات الذي يرأسه رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس فقد رأى في استقالة بلعيز “استجابة جزئية للمطالب الشعبية العارمة والقاضية برحيل كل الوجوه الرمزية للنظام السياسي القائم التي شخصتها اسميًا وتجسد بداية في تطبيق المادتين 7 و8 بصفة تكميلية للمادة 102 من الدستور”.
واعتبر الحزب أن استقالة بلعيز تعد بمثابة “انهيار جدار من البنية المهترئة لهذا النظام، لكن الشعب يتطلع في هذه اللحظات المفصلية أن تسقط الجدران الأخرى لهذه البنية مع رحيل رؤوس رئاسة الدولة والحكومة والمجلس الشعبي الوطني”.
ومع تسارع الأحداث، تتضاءل فرص تنظيم الانتخابات الرئاسية المقبلة في تاريخها المحدد في 4 من يوليو المقبل، فقد قرر الموظفون في عدة بلديات عدم القيام بالمراجعة الاستثنائية للقوائم الانتخابية، ودعا نادي القضاة إلى مقاطعتها وعدم الإشراف على عملية الاقتراع.
وخرج اجتماع المعارضة الذي جمع أحزابًا وشخصيات سياسية بقرار عدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقررة يوم 4 من يوليو القادم.
يأتي موقف المعارضة المطالب بمقاطعة الرئاسيات كونها ستتم تحت إشراف سلطة يطالب الشعب برحيلها، إضافة إلى أن إجراءها في الوقت الحاليّ سيسمح بفوز الأحزاب الحاكمة الحاليّة
وجاء في بيان المعارضة “نرفض محاولات السلطة السياسية استنساخ نفسها عبر انتخابات مزيفة عبر آلياتها القانونية والتنظيمية السارية المفعول، وعدم المشاركة فيها بالترشح أو التوقيع أو التنظيم أو الإشراف في ظل هذه السلطة السياسية”، ودعت المعارضة إلى “فترة انتقالية حقيقية، مناسبة ومعقولة لتمكين مكونات الهبة الشعبية للانخراط في الحياة السياسية والنقابية والجمعوية من أجل ممارسة الحق في الاختيار الحر”.
يأتي موقف المعارضة المطالب بمقاطعة الرئاسيات كونها ستتم تحت إشراف سلطة يطالب الشعب برحيلها، إضافة إلى أن إجراءها في الوقت الحاليّ سيسمح بفوز الأحزاب الحاكمة الحاليّة، بالنظر إلى أنها الأكثر تنظيمًا والأقوى استعدادًا ماليًا وبشريًا الآن، ما سيسمح بإنتاج النظام نفسه ولو كان بوجوه جديدة فقط.
تخندق
بعد تعالي بعض الأصوات التي تخوفت من إمكانية تخلي المؤسسة العسكرية عن دعم الحراك الشعبي والتوجه نحو مساندة سلطة الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح، رد رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح على ذلك عقب متابعته لمناورة “النجم الساطع” التي تمت على الحدود مع ليبيا التي تعرف تصعيد عمليات العنف من مليشيات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر الذي ترفض الجزائر تحركاته الأخيرة التي ستزيد الأمور تعقيدًا على حدودها الشرقية.
وقال قايد صالح: “أؤكد مرة أخرى ضرورة انتهاج أسلوب الحكمة والصبر لأن الوضع السائد مع بداية هذه المرحلة الانتقالية يعتبر وضعًا خاصًا ومعقدًا، يتطلب تضافر جهود الوطنيين المخلصين كافة للخروج منه بسلام، ومن جهتنا فإننا نجدد التزام الجيش الوطني الشعبي بمرافقة مؤسسات الدولة، في هذه المرحلة الانتقالية، مع الإشارة إلى أن كل الآفاق الممكنة تبقى مفتوحة في سبيل التغلب على مختلف الصعوبات وإيجاد حل للأزمة في أقرب الأوقات، فالوضع لا يحتمل المزيد من التأجيل، لأن الوقت يداهمنا”.
تساءل الجزائريون في الأسبوع الأخير عن الأسباب التي جعلتهم يتعرضون للقمع في المسيرات وإلى تضييق أمني لم يسجل منذ بداية الحراك الشعبي
وشدد قايد صالح على “ضرورة قيام العدالة بمحاسبة المتورطين في قضايا الفساد، فإننا ننتظر من الجهات القضائية المعنية أن تسرع في وتيرة معالجة مختلف القضايا المتعلقة باستفادة بعض الأشخاص، بغير وجه حق، من قروض بآلاف المليارات وإلحاق الضرر بخزينة الدولة واختلاس أموال الشعب”.
وحذر قائد الجيش من عمل الكارتل المالي مع مسؤولين سابقين على إفشال الحراك الشعبي بالقول: “لقد تطرقت في مداخلتي يوم 30 من مارس 2019 إلى الاجتماعات المشبوهة التي تُعقد في الخفاء من أجل التآمر على مطالب الشعب ومن أجل عرقلة مساعي الجيش الوطني الشعبي ومقترحاته لحل الأزمة، إلا أن بعض هذه الأطراف وفي مقدمتها رئيس دائرة الاستعلام والأمن السابق، خرجت تحاول عبثًا نفي وجودها في هذه الاجتماعات ومغالطة الرأي العام، رغم وجود أدلة قطعية تثبت هذه الوقائع المغرضة”.
وأضاف “أكدنا يومها أننا سنكشف عن الحقيقة، وها هم لا يزالون ينشطون ضد إرادة الشعب ويعملون على تأجيج الوضع، والاتصال بجهات مشبوهة والتحريض على عرقلة مساعي الخروج من الأزمة، وعليه أوجه لهذا الشخص آخر إنذار، وفي حالة استمراره في هذه التصرفات، سنتخذ ضده إجراءات قانونية صارمة”.
وتساءل الجزائريون في الأسبوع الأخير عن الأسباب التي جعلتهم يتعرضون للقمع في المسيرات وإلى تضييق أمني لم يسجل منذ بداية الحراك الشعبي.
وفي رده على هذا الانشغال، أكد قايد صالح التزام الجيش بحماية شعبه، قائلاً: “إننا على يقين بأن الشعب الجزائري الأبي والمتحضر قادر على رفع التحديات كافة والتغلب على كل الأزمات، ونؤكد أننا نتفهم مطالبه المشروعة التي التزمنا بالعمل معه على تجسيدها كاملة، وبطبيعة الحال فإن هذه الأهداف يتطلب تحقيقها مراحل وخطوات تستلزم التحلي بالصبر والتفهم ونبذ أشكال العنف كافة، فالخطوة الأساسية قد تحققت وستليها، بكل تأكيد، الخطوات الأخرى، حتى تحقيق كل الأهداف المنشودة، وهذا دون الإخلال بعمل مؤسسات الدولة التي يتعين الحفاظ عليها، لتسيير شؤون المجتمع ومصالح المواطنين”.
أكد قايد صالح أن “الجيش لن يتخذ أي قرارات لا تخدم الشعب والوطن، وحريص على أن لا تراق قطرة دم جزائري واحدة، خدمة لمصالح أطراف معادية”
وأضاف: “قرار حماية الشعب بمختلف مكوناته قرار لا رجعة فيه ولن نحيد عنه مهما كانت الظروف والأحوال، وأسدينا تعليمات واضحة لا لبس فيها لحماية المواطنين لا سيما في أثناء المسيرات، لكن بالمقابل ننتظر من شعبنا أن يتفادى اللجوء إلى العنف ويحافظ على الممتلكات العمومية والخاصة ويتجنب عرقلة مصالح المواطنين، وأود الإشارة في هذا الإطار إلى ضرورة الاحترام التام لرموز الدولة وعلى رأسها العلم الوطني”.
وأكد قايد صالح “الجيش لن يتخذ أي قرارات لا تخدم الشعب والوطن، وحريص على أن لا تراق قطرة دم جزائري واحدة، خدمة لمصالح أطراف معادية، التي لم يعجبها الطابع السلمي للمسيرات، فالجزائر في أيدي أمينة برجال مخلصين مستعدين للدفاع عن بلادهم مهما كلفهم الثمن”.
وختم كلامه بالقول: “كقيادة عليا للجيش نحترم بشكل كامل أحكام الدستور لتسيير المرحلة الانتقالية… وأنه لا طموح لنا سوى حماية الوطن وبسط نعمة الأمن والاستقرار والحفاظ على سمعة البلاد”.
وبهذا الخطاب يكون قايد صالح قد أكد التزام الجيش بمرافقة البلاد في الخروج من الأزمة السياسة، دون أن تكون لشخصه طموحات سياسية ليرد على من أطلقوا تخوفاتهم من أن تكون تدخلات قائد الجيش تمهيدًا لولادة “سيسي جديد” في الجزائر.
ويبدو أن الساعات المقبلة في الجزائر ستكون حبلى بالأخبار المفرحة، خاصة مع تردد استقالة الوزير الأول نور الدين بدوي خلال الساعات المقبلة، وإلى أن يتحقق ذلك يصر الجزائريون على التمسك بحراكهم السلمي حتى رحيل جميع رموز النظام.