بين فترة قصيرة وأخرى، وأحيانًا في أيام متلاحقة متقاربة، يؤلم أبصار السوريين مشاهد موجعة وصور مفجعة لشباب في مقتبل العمر قتلوا تحت التعذيب أو عذبوا حتى أشرفوا على الموت وقد غيرت سياط الجلاد لون جلودهم، وأحالت أجسامهم الممتلئة بالقوة والعافية إلى أجسام ضعيفة معلولة لا تقوى على السير!
سيعلم قارئ المقالة قطعًا بعد أن شاهد العنوان أنني لا أتحدث عن الصور التي سربها الضابط المنشق “قيصر” أو حتى بعض روايات الحقوقي وائل الزهراوي التي حكاها بعد أن نجاه الله من قبضة نظام الأسد، بل أقصد الجرائم العظيمة التي يقترفها القطاع الأمني في كثير من الفصائل في المناطق المحررة، على اختلاف ألوانها الفكرية وتباين أحجامها من حيث القوة والنفوذ.
حين تقرأ خبر مقتل مروان العمقي جراء التعذيب في سجون هيئة تحرير الشام، ثم تسمع من أهله تفاصيل التنكيل الذي أصابه، يقفز إلى مخيلتك أسئلة ملحة وتستفز أصابعك لخط هذه الكلمات: أليس هؤلاء المحققون أو المسؤولون عما يسمى بـ”الأمنيات” ثوارًا والثورة فعل قيمي وأخلاقي؟ أو لم تكن ممارسات الأفرع الأمنية لنظام البعث من الموجبات الأساسية للثورة؟ كيف يتحول من كان ضحية معذبًا إلى جلاد معذِب بعد أن قبض على شيء من السلطة؟
يحسن بنا قبل أن نجيب عن السؤال الثالث، وهو الأهم حسب رأيي، أن نستعرض بشكل سريع أبرز جريمة حدثت قبل أن نسمع بقضية مروان العمقي، ومع أن الجريمة حدثت نهاية العام الراحل، إلا أن ذكرها لازم لتصور الظاهرة قبل أن نناقشها ونحاول فهمها.
“سريول”.. وضعه الصحي لم يشفع له
الناشط بلال سريول بعد تعرضه للتعذيب
مساء الـ11 من نوفمبر/تشرين الثاني الفائت، كان الحدث الذي دفع أعظم سيل من النقد والاستهجان، وحرك موجة كبيرة من التضامن على جدران الشبكة العنكبوتية، وضج ناشطون وصفحات ثورية ضخمة على وسائل التواصل بصور الناشط بلال سريول عضو “رابطة الإعلاميين في الغوطة”، والمهجر من مدينة دوما. الصور أظهرت آثار تعذيب وحشي لحق بسريول من مجموعة عسكرية تابعة لفرقة “السلطان مراد” بعد اختطاف دام 72 ساعة فقط! وجاء الإفراج عن الإعلامي – الذي تعرض لإصابة كادت أن تودي بحياته إثر غارة جوية في أثناء وجوده في الغوطة سابقًا – بعد ضغوط إعلامية كبيرة مارسها ناشطون مطالبين بالإفراج عنه.
ما بين هاتين الحادثتين (حادثتي العمقي وسريول) وما بعدهما حصلت عدة جرائم مشابهة، وقُتل عدد من المدنيين على يد الفصائل، سواء في مناطق درع الفرات أم في مدينة إدلب على يد هيئة تحرير الشام التي طفا على السطح في الفترة القريبة الماضية سوء معاملتها لمن هم تحت أيديها من المعتقلين
وبعد إطلاق سراحه قالت صفحة “شبكة الثورة السورية” ذائعة الصيت: “هل تتخيل أن 72 ساعة اعتقال كفيلة بأن ترسم آثار التعذيب على جسد إعلامي بهذا الشكل؟ وهل يمكن أن نتخيل بأن الجلاد هو فصيل يدعي الثورة؟ الثورة براء من كل من شابه الأسد بأفعاله وأشكاله وتصرفاته، والتعذيب لا يمت للثورة بصلة أيًا كانت الجريمة، فكيف إذا كانت كاميرا أو قلم أو صحافة وإعلام؟! الحرية للمعتقلين من غياهب الظالمين مهما تعددت أسماؤهم، والبراءة من أفعال الأسد تحت أي غطاء”.
كما أدان الحادثة كل من “تجمع ثوار سوريا” و”رابطة الإعلاميين في الغوطة الشرقية”، وطالبا ببيانين منفصلين بمحاسبة فورية للجناة ووقف الانتهاكات بحق الصحفيين.
وما بين هاتين الحادثتين (حادثتي العمقي وسريول) وما بعدهما حصلت عدة جرائم مشابهة، وقُتل عدد من المدنيين على يد الفصائل، سواء في مناطق درع الفرات أم في مدينة إدلب على يد هيئة تحرير الشام التي طفا على السطح في الفترة القريبة الماضية سوء معاملتها لمن هم تحت أيديها من المعتقلين.
والآن نأتي على المحور الأثقل وزنًا في هذا المقال: كيف يحصل هذا التعذيب؟ أو على الأقل كيف يرضى بهذا التعذيب من كان ضحية للاضطهاد والممارسات غير الإنسانية في وقت سابق؟
تجربة “سجن ستانفورد”
حتى نفهم سبب هذه التحولات الكبيرة لعدد مهم من المتنفذين والمحققين والعاملين في الجهاز الأمني للتنظيمات العسكرية العاملة في الثورة، بعد أن كانوا أشخاصًا أسوياء ينفرون من الظلم ويرفعون لواء المفاصلة والعداء للأنظمة التي التصقت بها أفعال التعذيب التصاق الظفر باللحم، أقول: حتى نعرف سبب التحولات عندهم ونفسر السلوك العنيف الذي امتازوا به يحسن بنا أن نطلع على تجربة عالم النفس الأمريكي فيليب زيمباردو في جامعة ستانفورد التي اشتهرت بتجربة “سجن ستانفورد”.
التجربة التي هدفت لمعرفة تأثير الأدوار والبيئة على الأشخاص حصلت عام 1971 بعد أن تم خلق بيئة سجن في أحد أقسام الجامعة وأعلن عن فرصة للتطوع في التجربة، فتقدم ما يقرب من 70 متطوعًا واختير 24 منهم بعد المقابلات والاختبارات المعيارية للتأكد من استقرارهم النفسي، وُزعت الأدوار على المتطوعين عشوائيًا بين حراس وسجناء، طلب من مجموعة السجانين أن يذهبوا لمحل أزياء عسكرية ليشتروا الثياب العسكرية، ومن أجل تعزيز دور السلطة والقوة في الحرس، ألبسوهم نظارات سوداء وسلموهم العصي الخاصة بهم.
بدأت التجربة من لحظة اعتقال المجموعة الثانية (المساجين) إلى التحقيق ثم السجن، مُنع السجانين من تعنيف المساجين فقط، أما ما سوى ذلك فقد طلب زيمباردو من السجانين أن يضغطوا نفسيًا على المعتقلين، وطمأنهم بأنهم محصّنون قانونيًا ولن يمسهم أي أذى بسبب تصرفاتهم. مر اليوم الأول من التجربة بسلام، لكن في الأيام التالية، وبعد أن علا صوت المساجين بالتذمر، استطال عليهم السجانون (الأسوياء والمستقرون نفسيًا) وبدأوا بتعنيفهم والاعتداء عليهم، بل تفتقت أذهانهم عن أساليب مختلفة في إذلال المساجين، منها أنهم كانوا يأمرون بعض المساجين بتنظيف المراحيض بأيديهم دون قفازات! وكانوا أحيانًا يأمرونهم بالتعري والنوم عرايا على البلاط، وحين ظن السجانون أن الكاميرات لا يمكن أن تراهم في الليل فقد وصل الحال بهم إلى الانتهاكات الجنسية!
لم تمنع التعليمات الصارمة التي تلقاها السجانون بمنع الضرب والتعذيب، من أن يسلكوا هذا المسلك ويبالغوا فيه إلى حد كبير، التجربة التي كان من المقرر أن تستمر أسبوعين، اضطر الدكتور زيمباردو لإنهائها في اليوم السادس، بعد أن أصبح الوضع لا يحتمل أبدًا.
مظاهر القوة وانعدام المحاسبة قد تدفع الأشخاص غير المحصنين فكريًا وأخلاقيًا لهذا المنزلق الوخيم، أما من تشربوا قيم الإسلام وتزينوا بأخلاق الشريعة العادلة، وكانوا معدين إعدادًا صلبًا للقيادة والإدارة فلا يمكن للقوة والسلطة أن تغيرهم بحال
ومع أن التجربة كانت تبغي معرفة سلوك المسجونين حين يتعرضون للضغط النفسي، إلا أن من طرأت عليه التحولات النفسية الكبيرة بداية هم مجموعة السجانين، ولم يسلم من ذلك حتى الباحث زيمباردو الذي كان يشاهد كل التصرفات في غرفة مراقبة خاصة، وأعلن فيما بعد أنه ومع الانغماس في التجربة صار يتعامل وكأنه مدير السجن وليس باحثًا في علم النفس!
خلاصة التجربة
يمكن لتجربة فيليب زيمباردو أن تحل لنا عقدة كبيرة من عقد ظاهرة التعذيب المفرط التي تولى كبرها أناس مستقرون نفسيًا كما حصل في جامعة ستانفورد، أو في حالتنا الراهنة أناس ثوريون كان من أعظم أسباب ثورتهم هذه الانتهاكات التي يمارسونها هم الآن!
فقد استخلص زيمباردو من هذه التجربة عدة استنتاجات، أهمها أن طبيعة المكان وأدوات القوة (من بزة عسكرية وأحذية ثقيلة وكلبشات وعصي ونظارات عاكسة) قد تؤثر على سلوك الإنسان وتطبعه بطباعها القاسية الغليظة، كما أن السلطة المطلقة وغياب الرقابة تخرج أسوأ ما في داخل الإنسان، وكلا الأمرين – خاصة الأمر الآخر – حصلا مع الجهاز الأمني في الفصائل العسكرية، مما يحدو بنا أن لا نتعجب كثيرًا من وقائع التعذيب التي ترصدها أعيننا في كل منطقة ومع كل فصيل.
ننوه في هذا السياق أن طبيعة المكان ومظاهر القوة وانعدام المحاسبة قد تدفع الأشخاص غير المحصنين فكريًا وأخلاقيًا لهذا المنزلق الوخيم، أما من تشربوا قيم الإسلام وتزينوا بأخلاق الشريعة العادلة، وكانوا معدين إعدادًا صلبًا للقيادة والإدارة فلا يمكن للقوة والسلطة أن تغيرهم بحال، وهذا ما يؤكد أهمية الفكر، فهو أساس التغيير وصانع الحضارة وعماد النهضة.