لا يتوقف سعي المرأة العربية لحجز مكانة مؤثرة في الحيز العام، فهي تواصل التقدم والمواكبة من جهة وتحاول استعادة دور في مجال كانت جزءاً أصيلاً منه وساهمت في صنعه وتحويله إلى تراث وهوية جماعية للمنطقة بشكل فطري، هنا نتحدث عن الفن، عن الغناء النسائي الجماعي تحديداً.
فيما امتلك الرجل مفاتيح الوسط الفني وخاصة مفاتيح الأبواب التي تحوّله إلى صناعة وسوق، ظلّت النساء يمارسن الغناء الجماعي في حيّزهن الطبيعي بعيداً عن الابتذال وقوانين السوق، بدءاً من الغناء بجانب المهد وصولاً للكورال وفرق الإنشاد والغناء التراثي التي تحفظ للشعوب قصصها وتوثق تاريخها.
صوت الأمهات في ذاكرة الأجيال
من مخادع الأمهات وغرف الأطفال الصغار كانت البداية لتهويده ستعيش أطول من صاحبتها، ترانيم ستبقى في ذاكرة الطفل حتى يصبح رجلاً، ومع الطفلة حتى تصبح امرأة، يسمّونها في العراق “ليلوّة”،وفي سوريا تسمى “مناغاة” أما في فلسطين فاسمها “تهليلة”.
تتميز كل نساء بلد عن أخرى بأغانيها التي تدل على تراث البلد وتاريخها، مثل غناء نساء فلسطين للثوار ونساء سوريا للمقاتلين ضد الاستعمار الفرنسي
اختلفت التشابيه والاستعارات، وبقي المعنى دافئاً دوماً. وقد أثّر غناء الأمهات لصغارهن في الموسيقى العربية أيضًا، وشارك في تأريخ الأحداث التي مرّت بها المنطقة طيلة عقود، إذ يعج التراث الشفوي لشعوب المنطقة العربية بالأغاني النسائية وأغاني الأمهات خاصة.
تتنوّع أغاني المهد التي تشدو بها الأمهات في الدول المختلفة، ففي مصر مثلاً يغنين «نينا نام، نينا نام.. وادبح لك جوز حمام»، وفي تونس “ننى ننى جاك نعاس.. أمك فضة أبوك نحاس”، وفي السودان “النوم النوم، سكت الجمال النوم تعال، بعطيك الدوم (التمر)”، وفي الإمارات العربية هوا هوا يا وليدي، هوا هوا يا كبيدي، أمي أمي في البستان، تقطع خوخ ورمان”.
وخارج المنزل وبعيداً عن دورها المحتمل كأم، ساهمت المرأة العربية بمختلف الدول في المنطقة في بناء ونقل الثقافة الشعبية للبلدان عبر الأغاني الشعبية التي تعتبر من أثرى أنواع التراث الشفوي غير الموثق في منطقتنا. إذ تغنّي النساء الأغاني والأهازيج الخاصة في الأفراح والاحتفالات التقليدية وفي الأحزان المرتبطة بطقوس الوداع سواء بسبب الخروج للقتال أو تشييع الشهداء أو توديع المسافرين والحجّاج.
وتتميز كل نساء بلد عن أخرى بأغانيها التي تدل على تراث البلد وتاريخها، مثل غناء نساء فلسطين للثوار ونساء سوريا للمقاتلين ضد الاستعمار الفرنسي. ويعتبر مؤرخو الموسيقى أن هذه الأغاني كانت نقطة البداية في دخول النساء إلى الغناء والموسيقى، وتعرفهم على الفن كمهنة.
بين الكورال والإنشاد الصوفي
ظلّت الأغنية النسائية الجماعية في الوسط الفني تظهر وتختفي برغم استمرار حضورها الطاغي في المجتمعات العربية، في الأفراح وداخل البيوت بين النساء، وفي الحمامات العامة. لكن الكورال النسائي كمهنة وإنتاج موسيقي بقي نادراً لأسباب تتعدد وتحتاج دراسات للوقوف عندها.
تبرز في المغرب فرقة الإنشاد الصوفي التي أسستها الفنانة رحوم البقالي، التي لقبت بـ “سفيرة الفن الصوفي والحضرة الشفشاونية”
مع ذلك، فإن انفتاح بعض المجتمعات العربية على فكرة اتخاذ المرأة للغناءكمهنة، أتاحت الفرصة لوجود فرق غنائية ترفيهية ارتبطت بإنتاج الأفلام والمسلسلات. مثال على ذلك نذكر فرقة الثلاثي المرح التي اشتهرت في خمسينيات القرن العشرين، وهي فرقة موسيقية مصرية تميزت بأغانيها المناسبة لكل الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، كما اتسمت أغانيها بالبساطة والفرح والتفاؤل والأداء الثلاثي الفريد. أعضاء الفرقة كنّ خريجات من المعهد الموسيقي في مصر، وهنّ وفاء مصطفى، صفاء يوسف، سناء الباروني، واعتزلن الفن في وقت لاحق وسط تساؤلات الجمهور.
تعاملت الفرقة المذكورة مع الكثير من شعراء المرحلة المهمين أمثال مرسي جميل عزيز، جودت التميمي، وسيد مكاوي، ومنير مراد وغيرهم. كما أحيوا الكثير من الحفلات في الدول العربية وتغنوا باللهجة العراقية والليبية في عدة أغانٍ. عُرفت الفرقة بإحيائها ليالي رمضان في الإذاعة مما كان يضفي المرح والبهجة في باقي فقرات الحفل.
لاحقًا في التسعينات ظهرت فرقة العازفات التونسيات كأول فرقة موسيقية نسائية في تونس. أسستها أمينة الصرار عام 1992، لتغني الفرقة مجموعة من أغاني المالوف التونسية والموشحات الأندلسية، ويتراوح عدد المغنيات فيها بين 12 و15 إمرأة، بينما يعزفن على آلات مختلفة مثل الكمان والعود والناي والقانون والبيانو. تعتبر الفرقة من أهم الفرق العربية حتى الآن ويتم استدعائها في المناسبات الثقافية والبرامج التلفزيونية إحياءً لذكرى تأسيسها.
كما تبرز في المغرب فرقة الإنشاد الصوفي التي أسستها الفنانة رحوم البقالي، التي لقبت بـ “سفيرة الفن الصوفي والحضرة الشفشاونية”، لنجاحها بنقل تراث شفشاون الغنائي والبصري للعالم أجمع عبر عروض لا تتوقف. فعن طريق معرفتها الموسيقية الواسعة وشغفها بالتراث، أسست البقالي فنّاً تطرب له الأذن العربية والغربية، محققة بذلك حلماً ظل يراودها لسنوات طويلة.
وفي السنوات الأخيرة في فلسطين، نتيجة للوعي بأهمية حفظ التراث رصد أكثر من مشروع موسيقي عمل على توثيق التراث الغنائي الشفوي. مثل مشروع الفنانة الفلسطينية سناء موسى، التي عملت لسنوات على جمع الأغاني النسائية وقصص ومناسبات غنائها، وحوّلتها إلى ألبوم حمل اسم “إشراق”، أطلق عام 2010 ليضم عدداً منها بعدما أعادت تسجيلها وتوزيعها موسيقياً بصوتها وبرفقة فرقتها الموسيقية. وفي فلسطين أيضاً، عملت الفنانة دلال أبو آمنة برفقة الباحثة نائلة لبس على إنتاج ألبوم غنائي عام 2016 حمل اسم “يا ستي”، تغني فيه دلال برفقة نساء كبار في السن أغاني فلسطينية تراثية. تحوّل الألبوم إلى سلسلة من العروض التي جابت المنطقة والعالم لإحياء هذا التراث والشكل من الغناء.
رغم هيمنة الغناء الفردي على الإنتاج الفني الغنائي العربي، ودخول النساء فيه بشكل مثري أحياناً ومبتذل في أحيانٍ كثيرة، إلا أن الفرق النسائية أو التي تكثر فيها النساء لها حضور يستحق الانتباه. ولعل من أنسب الأمثلة على هذه الفرق الحديثة هي “فرقة نايا” الأردنية، التي تأسست عام 2011 على يد موسيقيات أردنيات بالتعاون مع وزارة الثقافة الأردنية، وقد حققن نجاحاً باهراً وأصبحن معروفات في الوطن العربية نتيجةً لتميزهن باتباع أسلوب خاص بعيداً عن التقليد مقدمين قوالب موسيقية كلاسيكية آلية وغنائية وسلسلة من موسيقى التراث العربي، والأردني، والموشحات الأندلسية، وذلك رغبةً في إحياء الرموز الفنية القديمة من خلال المزج بين الموسيقية الشرقية والغربية، وتعتبر فرقة نايا الآن من أكثر الفرق النسائية نشاطاً وحضوراً في الحفلات الوطنية والثقافية في الأردن.
لم ينحصر وجود النساء في الموسيقى والغناء العربي على فرق موسيقية نسائية فقط، بل أن بعض الفرق استعانت بالأصوات النسائية كعضو مهم في الفرقة، مثل فرقة هارموني اللبنانية، والتي تتسم بطابعها الإسلامي الذي يتحرك بشكل صوفي حداثي. من متابعة أعمال الفرقة يظهر بوضوح أهمية الصوت النسائي في الجوقات المختلطة، والذي يعتبر مكوناً أساسياً لإيصال المعنى الموسيقي. تتميّز الفرقة المذكورة بروح العمل والمتعة الواضحة في عروضهم، وتنوع أغانيها بين اللغة العربية والإنكليزية والفرنسية أيضاً، ومما يجعل من هذه الفرقة مختلفة عن غيرها هو محاولاتها المستمرة في بناء جسر تواصل بين الجنسين في العالمين الشرقي والغربي، بينما يبقى شعارها “شروق الاعتدال”.
ملحنات قليلات وإنتاج كبير
بالرغم من تخرّج مئات الطلاب سنوياً من المعاهد الموسيقية من الجنسين إلا أن الطابع الذكوري لا زال يستحوذ على مجاليّ التلحين والتأليف في الموسيقى العربية. ومن الطريف أنه إذا بحثنا قليلاً في الموضوع سنجد عدداً من الملحنين العرب الذين اعترضوا في الماضي غير البعيد على انضمام المرأة إلى مجال التلحين وقاوموا الاعتراف بها كعضو منتج ومؤثر، مسندين ذلك بادعاءات علمية وأسباب فسيولوجية لا أساس لها من الصحة.
وكان تصريح الملحن المصري فاروق الشرنوبي، والملحن أمير عبد المجيد لجريدة “القدس الحرة” عام 2006، دالّاً على احتكار الرجل للمجال حتى وقت قريب. حيث ادعى الشرنوبي حينها إن “التكوين الفسيولوجي للمرأة مختلف عن الرجل في جهاز الوعي المسؤول عن تكوين الخيال، ولأن التلحين يعتمد على الخيال أعتقد أن عدم اقتحام المرأة لمجال التلحين يشير إلى محدودية الخيال عندهن مقارنةً بالرجل”، وادعى عبد المجيد أن المرأة “لا تملك مخزوناً ثقافياً موسيقياً”. جاء ذلك عند إعلان المغنية المغربية سميرة سعيد وغادة رجب ولطيفة التونسية الاتجاه للتلحين.
نالت الفرق الجماعية شهرةً كادت توازي ما حققه الغناء الفردي إلا أن وجود هذه الفرق اقتصر على الظهور لفترة معينة ثم ما لبث أن اختفى مقارنةً بنظيره
اعتبرت هذه التصريحات من ملحنين أو مغنيين دخيلة على المشهد، فدخول المرأة العربية لمجال التلحين بدأ منذ عقود، وقد عُرف عن كوكبة الشرق “أم كلثوم” أنها لحّنت أكثر من أغنية وغنتها أمام جمهورها بين عاميّ 1898-1975.
ومثالٌ آخر على ملحنات عربيات لعبن دوراً مهماً في مجال التلحين، نذكر بهيجة حافظ الملحنة والكاتبة والمخرجة المصرية التي علا نجمها في الثمانينات، وكانت ضمن جيل الملحنات الذهبيات لما قدمته في الفن العربي، إذ ألفت الموسيقى التصويرية لأكثر من فيلم في السينما المصرية وكانت منتجة متميزة في زمانها، وشاركت في التمثيل لأول مرة مع المخرج محمد كريم في فيلم “زينب”، وبالرغم من معارضة أهلها الشديدة لدخولها الفن إلا أنها استمرت في تحقيق أهدافها وأن تبقى بجانب الفن متخذةً منه أسلوب حياة.
نالت الفرق الجماعية شهرةً كادت توازي ما حققه الغناء الفردي إلا أن وجود هذه الفرق اقتصر على الظهور لفترة معينة ثم ما لبث أن اختفى مقارنةً بنظيره، فنرى تجدد الغناء الفردي وتطوره لأشكال كثيرة ما زال مستمراً، بينما تعيش الفرق الجماعية حالةً من الصعود والهبوط المستمر حتى الآن. قد يعود ذلك لأسباب عدة تحتاج دراستها لتحليلها، إلا أن العامل التجاري قد يكون عاملاً هاماً في إغراء شركات الإنتاج لتشجيع الغناء الفردي النسائي والتسويق له، فيما يظل الغناء الجماعي النسائي يواجه تحديات كثيرة،كونه يبعد المرأة عن كونها سلعة، ويحفظ الغناء من الابتذال.