فجأة ودون سابق إنذار، حدث ما لم يكن في الحسبان، وخرج الملايين إلى الشوارع للتعبير عما يجول بداخلهم، من إحساس بالظلم وغياب للعدالة وتحكّم مجموعة من الطغاة الفاسدين بمصيرهم وحرمانهم من نصيبهم من ثرواتهم، ومن بصيص أمل بالعيش في دولة عادلة لا يظلم فيها ولا يقصى أي أحد، مهما كان لونه أو دينه أو عرقه أو طائفته، بعد أن شعروا بأن جميع الطرق قد أغلقت في وجوههم، وبعد أن تأكدوا من أن السلطان لا يتّعظ بالكلام، بقدر ما يرتعب من مشاهدة الخيام في ميادين الاعتصام، إيذانا من الشعوب بانطلاق مرحلة العصيان.
عن الموجة الجديدة من الاحتجاجات الشعبية العارمة التي تعيشها دولتان عربيتان عانتا من الظلم والتفقير والتهميش والتجهيل والتجويع والإجرام خلال أكثر من عقدين من الزمن نتحدّث، دولتان، لو قسمت ثرواتهما ومدخراتهما وإمكانياتهما مجتمعتين على الدول العربية مجتمعة، لكفتهم عناء التسول واستعطاف البنوك الدولية، والدول الغربية، وصناديق النقد الاستعمارية.
نجح جموع المتظاهرين الصامدين في الميادين في السودان والجزائر في إزاحة رمزي النظام، فانقلب الجيش السوداني على عمر البشير بعد 30 عاما قضاها في حكم البلاد بالحديد والنار، بينما استقال الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من منصبه بسبب ضغوطات من رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح
تابعنا كما تابع الملايين ما تعيشه دولتا السودان والجزائر من احتجاجات عارمة خلال الأشهر الأخيرة، وكنا متأكدين من أن ما يحدث لن يكون سحابة عابرة مثلما يظن البعض، فعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، وحمى الثورات لا يوجد لها دواء، مهما حاول كثيرون ابتكار المسكنات لها، لأن الظلم المسلّط على الشعوب العربية أصبح لا يطاق، وبالكاد يُتحمّل.
عندما خرج السودانيون قبل 4 أشهر من الآن للاحتجاج على الترفيع في أسعار الخبز أواخر شهر ديسمبر الماضي، ظن الرئيس المُنقلب عليه عمر البشير مثلما ظن بن علي ومبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد وغيرهم ممن لا يزالون يظنون إلى الآن، أن الرصاص الحي هو الحل لإدامة ملكه وتحصين عرشه، غير آبه بسفك الدماء الزكية، وقتل نفوس بشرية ثارت لأن كلمة الحق في وجه السلاطين الجائرين أصبحت فريضة عينيّة، لكن تقديراته كانت خاطئة، فالشعوب لم يعد يردعها الرصاص، لأن الفأس وقعت بالرأس.
بعد طول نفس وتشكيك كبير في الوطنية والانتماء واتهام بالتبعية لجهات خارجية معيّنة، نجح جموع المتظاهرين الصامدين في الميادين في السودان والجزائر في إزاحة رمزي النظام، فانقلب الجيش السوداني على عمر البشير بعد 30 عاما قضاها في حكم البلاد بالحديد والنار، بينما استقال الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من منصبه بسبب ضغوطات من رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، ليشغل مكانه رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، وسط رفض شعبي عارم.
لم تتضح صورة ما يحدث في السودان بعد، رغم تأكد دخول قوى غربية على رأسها الولايات المتحدة لتعديل مسار الأحداث بعد الانقلاب على الرئيس السابق عمر البشير
سيناريوهان متشابهان في الجزائر والسودان، وسط حديث كبير عن تدخّل غربي كبير في مسار الأحداث ومآلاتها خاصة في الجزائر التي يخشى العالم من انزلاقها إلى مربّع الفوضى المتوحشة التي لن تترك دولة عربية وأفريقية إلا وستدخلها إذا ما حدث ذلك، فالصراع الفرنسي الأمريكي لمسك زمام الأمور في بلد المليون شهيد أصبح أمرا مؤكدا خاصة بعد الصراع المعلن بين جهاز المخابرات الجزائرية الداعم لحاشية بوتفليقة والمدعوم من فرنسا، وبين الجيش الجزائري وكبار جنرالاته المدعومين من الولايات المتحدة الأمريكية، وفق ما يرى ذلك مراقبون.
في ذات السياق، لم تتضح صورة ما يحدث في السودان بعد، رغم تأكد دخول قوى غربية على رأسها الولايات المتحدة لتعديل مسار الأحداث بعد الانقلاب على الرئيس السابق عمر البشير، وتولّي وزير الدفاع عوض بن عوف زمام الأمور قبل أن يجبره الضغط الغربي على الاستقالة من رئاسة المجلس العسكري الانتقالي وتعيين الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان خلفا له، بسبب تورّطه في جرائم وحشية ضد سكان دارفور، عندما كان رئيسا للمخابرات العسكرية السودانية، وفقا لتقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، كما أنه متواجد على قائمة عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية عام 2007.
التنبؤ بمستقبل المنطقة العربية بات صعبا للغاية خاصة مع تغيّر المعطيات ومسار الأحداث بشكل دراماتيكي متسارع
ليس هذا فحسب دليلا على دخول قوى غربية كبيرة لتهدئة الأوضاع في السودان ومنع المحتجين من الخروج عن طابعهم السلمي خاصة وأن البلد المنقسم إلى دولتين متناحرتين والمليء بالمجموعات الانفصالية المسلّحة أصبح قنبلة موقوتة قادرة على تفجير المنطقة بأكملها متى ما خرجت الأمور على السيطرة، فمحاولة المجلس العسكري الانتقالي امتصاص غضب المحتجين بإعلانه عددا من القرارات المهمة، والتي شملت إقالة مسؤولين كبار على غرار الفريق عوض بن عوف وزير الدفاع، ومدير جهاز الأمن المستقيل صلاح قوش وإحالتهما إلى التقاعد، وإعادة هيكلة جهاز الأمن، وإطلاق سراح نشطاء والاستعداد لتشكيل حكومة مدنية، محاولة جدّية من اللاعبين الدوليين لتعديل الأوتار.
التنبؤ بمستقبل المنطقة العربية بات صعبا للغاية خاصة مع تغيّر المعطيات ومسار الأحداث بشكل دراماتيكي متسارع، لكن المؤشرات والدلائل تؤكد أن المنطقة العربية مقبلة على تغيّرات دراماتيكية أشدّ قسوة ورعبا ودموية من السنوات التي أعقبت نجاح الانتفاضة الشعبية العارمة في تونس في 14 من يناير 2011، فمجرّد ذكر الدولتين التين تعيشان احتجاجات شعبية عارمة خلال الفترة الأخيرة وهما الجزائر والسودان، يؤكد أن الشعوب العربية التي عانت ولا تزال من المجازر التي ارتكبت في حقّها من قبل حكوماتها وجيوشها وأجهزة أمنها وعاشت لسنوات طويلة تحت وطأة الخوف والرعب، أصبحت لا تخشى من تبعات خروجها إلى الشوارع للتعبير عن رفضها لما أحدثه حكامها من فساد وإفساد بالأوطان.