تقترب تركيا من طي صفحة الانتخابات المحلية بعد منافسة شرسة ما بين تحالفي الشعب والأمة، حملت خلالها الانتخابات عدداً من المفاجآت، لعل أهمها اقتراب المعارضة من انتزاع بلدية إسطنبول من حزب العدالة والتنمية الذي حكمها منذ تأسيسه، بالإضافة لانتزاع حزب العدالة والتنمية عدداً من البلديات ذات الأغلبية الكردية من حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، لكن المفاجأة الأهم جاءت من الحزب الشيوعي التركي الذي استطاع لأول مرة في تاريخه الفوز برئاسة بلدية، بعد فوز محمد ماتش أوغلو في بلدية تونجلي.
الجمهورية التركية: ليس للشيوعي من يحادثه
99 عاماً مرت على تأسيس الحزب الشيوعي التركي بعد مؤتمر باكو عام 1920 في أذربيجان، بمشاركة 70 مندوب عن مدينة إسطنبول وعموم الأناضول. حظي الحزب برعاية ودعم البلاشفة في موسكو، إذ شكل دعمهم الأساس الذي ارتكز عليه مقاتلوا الحركة الوطنية التركية بزعامة مصطفى كمال باشا في حربهم أمام القوى الغربية التي سعت إلى اقتسام الأناضول فيما بينها.
وبعد أربعة شهور من تأسيس الحزب، قرر مؤسسه وزعيمه مصطفى صبحي، الارتحال إلى بلاد الأناضول مع 14 من رفاقه لمقابلة مصطفى كمال باشا والتنظير للحزب بين صفوف الشعب التركي، لكن الرياح وأمواج البحر الأسود العاتية لم تأتِ كما تشتهي سفن رفاق صبحي، الذين تعرضوا قبالة شواطئ مدينة طرابزون لعملية قتل جماعي على يد عصابة محلية، راح ضحيتها قائد الحزب مصطفى صبحي، لتشكل العملية مؤشراً على مستقبل ومكانة الشيوعيين في الجمهورية التركية الناشئة. وبالرغم من حالة التقارب ما بين الجمهورية في بداية عمرها والاتحاد السوفييتي، إلا أن الجمهورية لم تتوانى عن ضرب أية حالة شيوعية في البلاد بالحظر أحياناً، والتفكيك أحياناً أخرى، ومع دخول البلاد عصر الحزب الواحد، قامت الجمهورية بحظر جميع المطبوعات والأنشطة الخاصة بالشيوعيين.
منشور دعائي يعود للحزب الشيوعي التركي في يوم العمال (الأول من مايو).
لم تتغير سياسة الجمهورية تجاه الشيوعيين بعد وفاة المؤسس مصطفى كمال 1938 وتولى خليفته عصمت إينونو، بل أخذت منحى أكثر حدة. وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية وجدت الدولة التركية نفسها مضطرة لاتخاذ عدد من الخطوات باتجاه دمقرطة الحياة السياسية التركية، التي استغلها الشيوعيون لتنظيم أنفسهم، حيث قام الطبيب شفيق حسني بتأسيس حزب العمال والفلاحين الذي لم يستمر لأكثر من 6 شهور إذ تعرض للحظر والإغلاق.
ومع فوز الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس وجلال بايار بالانتخابات العامة 1950، ازداد توجه الدولة التركية نحو الغرب فشاركت في الحرب الكورية 1950 إلى جانب قوات الأمم المتحدة في مواجهة كوريا الشمالية والصين، وانضمت إلى حلف الناتو 1952م، كما اتخذت الدولة التركية خطوات هامة لتعزيز اقتصاد السوق، باتجاه يتفق مع توجه مندريس ورفاقه في الحزب الديمقراطي الذين كانوا من المعارضين لسياسات التوزيع التي انتهجتها الدولة التركية، خاصة قوانين الإصلاح الزراعي.
شهدت العشر سنوات التي حكم الحزب الديمقراطي فيها البلاد تصاعداً في استهداف التجمعات اليسارية والشيوعية، إذ رأت فيهم الدولة التركية تهديداً لأمنها القومي، ما جعلهم محط أنظار المنظومة الأمنية التركية. فحوكم الطبيب شفيق حسني بعد اتهامه بإدارة الحزب الشيوعي سراً ليقضي 4 سنوات سجيناً وسنة أخرى منفياً في مدينة مانيسا، إلى أن توفي عام 1959م.
الطبيب شوقي حسني.
شكل تحرك الجيش التركي بقيادة جمال كورسال ضد حكومة عدنان مندريس وإزاحته عن السلطة وإعدامه لاحقاً برفقة عدد من الوزراء فرصة للشيوعيين لالتقاط أنفاسهم بعد سنوات من الملاحقة والضغط، ولاقت هذه الخطوة ترحيباً لديهم إذ رأوا في الانقلاب ضربة لليمين التركي. كما أتاح دستور 1961 مستوى معقولاً من الحرية قام على إثرها الدكتور محمد علي بيار بتأسيس حزب العمال التركي 1961 والمشاركة لاحقاً في انتخابات عام 1965 التي فاز فيها بـ15 مقعداً في البرلمان التركي.
شعار حزب العمال التركي
وعلى الرغم من دخول الشيوعيين العملية السياسية في تركيا، لم تتوقف الدولة عن سياستها تجاههم، لتأخذ مجموعات من اليسار التركي خطوات باتجاه المواجهة المسلحة مع الدولة التركية، لتسود البلاد على إثرها حالة من الأجواء الفوضوية مهدت لتدخل الجيش التركي والقيام بانقلاب 1970، الذي راهنت عليه المجموعات اليسارية ليكون نصيراً لها في مواجهة قوى اليمين التركي، لكن الرياح مرة أخرى لم تأت بما تشتهي سفن اليسار التركي، لتشهد البلاد موجة أخرى من مجموعات القمع، أعدم فيها أبرز نشطاء الحركة الطلابية التركية: دينيز جيزميش، حسين إنان ويوسف أرسلان، واغلق حزب العمال واعتقلت السلطات كوادره.
دينيز جزميش
وشهدت سنوات السبعينات تأسيس عدد من الأحزاب وانشقاق أخرى، كما اتسمت هذه المرحلة من التاريخ التركي باشتداد الاستقطاب ما بين التجمعات اليمينية ونظيرتها اليسارية، لتكون فرصة لتدخل الجيش التركي والاستيلاء مرة أخرى على السلطة عام 1980، ويعيش اليسار التركي حالة من التيه والتخبط إذ تفرقت كوادره ما بين السجن والنفي، فيما اتجه الجناح الكردي (حزب العمال الكردستاني) لخوض حرب عصابات دموية ساهمت في خنق المجال السياسي وازدياد سطوة الدولة التي رأت في حزب العمال الكردستاني تهديداً وجودياً.
الحزب الشيوعي التركي في ثوب الألفية
أصدرت المحكمة الدستورية التركية في أكتوبر 1993 قراراً يقضي بحظر حزب تركيا الاشتراكي(STP) بعد عامٍ من تأسيسه، لتعود كوادر الحزب لتأسيس حزب السلطة الاشتراكية (SIP)، وشهد مؤتمره السادس المنعقد في أكتوبر 2001 اتحاد الحزب مع كوادر الحزب الشيوعي وإنشاء الحزب الشيوعي التركي(TKP).
آيدمير جولار الأمين العام للحزب الشيوعي التركي.
شارك الحزب بالانتخابات العامة التي شهدتها البلاد عام 2002 وحصل على 59.180 ألف صوت بنسبة 0.19% من أصوات الناخبين، ما أبقاه خارج عتبة المجلس، إذ لم يتجاوز نسبة الحسم التي بلغت 10%. عاد الحزب ليشارك بالانتخابات البلدية عام 2004 بعد المؤتمر العام السابع للحزب، لكن نتائجه جاءت للمرة الثانية في غاية الانحدار، إذ فشل في الفوز بأية بلدية في عموم تركيا، وحصل بهذه الانتخابات على 85.178 ألف صوت بما نسبته 0.26% من المجموع العام للأصوات، ليعود ويحصل على نفس النتيجة في الانتخابات العامة لسنة 2007، إذ حصل على 79.258 ألف صوت بنسبة لا تتجاوز 0.23%، فيما تكررت النتيجة نفسها بالانتخابات المحلية لعام 2009 التي فشل فيها الحزب بالحصول على بلدية.
اتخذ الحزب خطاً معارضاً لحزب العدالة والتنمية، إذ رأى فيه نقيضاً سياسياً واجتماعياً وتعبيراً دقيقاً عن البرجوازية اليمينية التركية، فدعا الحزب إلى التصويت بـ”لا” في الاستفتاء على التعديلات الدستورية عامي 2010 و2017.
فاتح محمد ماتش أوغلو: الأول والوحيد
لم يكن يتصور الموظف بوزارة الصحة، محمد ماتش أوغلو، أن بإمكانه فعلاً الفوز برئاسة بلدية “أوفاجيك” قضاء ولاية تونجلي، التي ولد فيها عام 1968، لكنه فاز فعلاً! وأصبح في 2014 أول رئيس بلدية من الحزب الشيوعي بتاريخ تركيا. ترقى ماتش أوغلو في عدد من الوظائف الحكومية، قبل أن يقرر الاستقالة والترشح والفوز برئاسة بلدة أوفاجيك، واستطاع خلال 4 سنوات من العمل بناء ثقة عالية لدى سكان المدينة نتيجة للتحسينات التي جلبها للبلدية وأسلوب إدارته غير المألوف.
ما يقرب من نصف مليون زائر قصدوا مدينة تونجلي خلال عام 2018، لرؤية التحسينات التي أضافها رئيس البلدية الشيوعي، محولاً بلدة أوفاجيك لما يشبه “الكومونة الشيوعية”، إذ قام بتوزيع أراضي البلدية على المزارعين للمساهمة في خفض نسب البطالة في صفوف السكان والاستفادة من ريعها لتمويل عدد من المشاريع كمساعدة فقراء البلدة، وتقديم عدد من المنح الدراسية للطلبة الجامعيين وافتتاح مكتبة خاصة بالطلبة في مبنى البلدية، بالإضافة إلى مجانية المواصلات العامة.
أولى أعمال ماتش أوغلو هدم جدار البلدية في إشارة لهدم العوائق ما بين السكان ورئيس البلدية الجديد.
هذه الإجراءات وغيرها ساهمت في زيادة شعبية ماتش أوغلو كشخصية بسيطة ومقربة من سكان البلدة، ومكنته لاحقاً من التنافس على انتخابات بلدية تونجلي والفوز بها، متقدماً على مرشحة حزب الشعوب الديمقراطية الكردية، نورشات يشال، التي حازت على 5069 صوت، بينما حاز ماتش أوغلو على 5887 صوت، وفي الوقت الذي فشل فيه الحزب بالفوز بأية محلية، وحل رابعاً من حيث ترتيب الأحزاب في المجلس البلدي، أما على مستوى تركيا فقد كانت النتائج أكثر فداحة إذ لم يتجاوز الحزب نسبة 1% من أصوات الناخبين الأتراك، في إشارة واضحة إلى أن الناخبين قد صوتوا لشخص ماتش أوغلو وتجربته الناجحة في أوفاجيك، أكثر من تصويتهم للحزب نفسه.