احتفى محرك البحث الشهير “جوجل” بالفنانة التشكيلية المصرية إنجي أفلاطون، في ذكرى ميلادها الخامس والتسعين الذي يوافق السادس عشر من إبريل، حيث تصدرت صورتها الموقع الرسمي للمحرك، لتسلط الأضواء مجددًا على أبرز محطات حياتها المليئة بالنتوءات والتقعرات والنضال.
إنجي التي ولدت لأسرة أرستقراطية عام 1924 حيث كان جدها الأكبر وزيرًا في عهد الخديوي إسماعيل (1830 – 1895)، فيما تذهب بعض المصادر التاريخية إلى عودة نسبها للشاعر الروسي تولوستوي، عُرف عنها انتصارها لأصحاب الطبقة الكادحة، فعبرت عنهم من خلال أعمالها الفنية، وانحازت لمطالبهم في حياة كريمة وعدالة مجتمعية، الأمر الذي دفعت ثمنه 4 سنوات كاملة من عمرها حبيسة جدران الاعتقال.
تلقت الفنانة المصرية تعليمها الأولي في مدرسة الليسيه الفرنسية حيث حصلت على شهادت البكالوريا، ثم التحقت بعد ذلك بكلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة وكانت من أوائل الطالبات التي التحقت بتلك الكلية التي كانت حكرًا على الذكور فقط في هذا الوقت، ونجحت خلال مشوارها في أن تصبح أحد راود الحركة الفنية التشكيلية في مصر والعالم العربي.
بداياتها الفنية
تجلى شغف إنجي بالفن منذ نعومة أظفارها، فكانت عاشقة للرسم حتى قبل التحاقها بالجامعة، إذ استقدم والدها معلما خاصة في منزلها لتعليمها الرسم وتطبيقاته وفنياته، لكنها منذ الوهلة الأولى كانت تتمتع بشخصية مختلفة في تلقيها لدروس الرسم، إذ رفضت الأسلوب الإملائي التقليدي وعليه امتنع معلمها عن الحضور.
وأمام إصرارها على المضي قدما في هذا الطريق، ألحقها والدها باستوديو “جاتروس امبير” بالقاهرة، الذي أصبح بمثابة أكاديمية خاصة عام 1941، لكنها تركته كالعادة بعد شهر واحد، بحثا عن الحرية في التعبير، وكأنها اعتادت التنقل بين مختلف المدارس الفنية للوصول إلى مبتغاها وما تبحث عنه.
وفي عام 1942 وحين بلغت عامها الثامن عشر التقت الفتاة المتمردة بالفنان والمخرج كامل التلمساني الذي كان بمثابة الأب الروحي لها، فوجدت فيه ضالتها، إذ شجعها على على ممارسة الفن والقراءة عن تاريخ الفنون وفلسفة الجمال، وعرَّفها بفنون التراث واتجاهات الفن الحديث، من خلال المراجع والصور، وظلت في كنفه ثلاث سنوات كاملة حتى نهاية 1945.
نتاجا لهذا النشاط تم اعتقالها في مارس 1959 أثناء حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ومكثت في السجن لمدة 4 سنوات حتى تم الإفراج عنها في 1963
اتخذت الفنانة الأرستقراطية من السيريالية منهجا للتعبير عن نفسها فنيًا، فتحولت لوحاتها المرسومة إلى روايات وقصص عابرة، يقرأها الرائي قبل مشاهدتها، وهو ما يظهر بشكل واضح في لوحات “الوحش الطائر” 1941، و”الحديقة السوداء” 1942، و”انتقام شجرة” بعدها بعام واحد فقط.
وفي عام 1943حولت إنجي مشوارها الفني من الفردية إلى الجماعية، حيث التحقت بجماعة “الفن والحرية”، التي ضمت بين أعضائها محمود سعيد، وفؤاد كامل، ورمسيس يونان، وغيرهم، ونجحت في وقت قصير في أن تفرض اسمها على هذه القامات الكبيرة وفي عام 1951 قدمت معرضها الخاص الأول، الذي غلب عليه الطابع الواقعي الاجتماعي، سواء في اللوحات التي عبرت فيها عن هيمنة الرجل على المرأة، أو اللوحات التي صورت الكفاح المسلح للمصريين ضد قوات الاحتلال البريطاني.
جوجل يحتفي بذكرى ميلادها
4 سنوات من الاعتقال
رغم نشأتها في بيئة أرستقراطية إلا أنها كانت من أشد المتحيزين للطبقة الكادحة، ومنذ سن صغير بدأت الفنانة الشابة تهتم بالأدب والتاريخ السياسي، وشغفت بالنظرية الماركسية بصورة كبيرة حتى التحقت بحركة “إسكرا” الشيوعية عام 1944 حين كان عمرها في ذلك الوقت عشرون عاما.
شاركت في العديد من المظاهرات التي طالبت بالحرية والعدالة، وتميزت الفترة من 1942-1963 بزخم سياسي كبير بالنسبة لها، فشاركت في تأسيس رابطة فتيات الجامعة والمعاهد والتحقت بلجنة الشابات في الاتحاد النسائي المصري، كما برز دورها في تأسيس اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية.
ونتاجا لهذا النشاط تم اعتقالها في مارس 1959 أثناء حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ومكثت في السجن لمدة 4 سنوات حتى تم الإفراج عنها في 1963، وذلك بعدما تعهدت بالبعد عن العمل السياسي، والركون إلى الفن ورسالته السامية وفقط.
عُرف عنها انتصارها للطبقة الكادحة
فنانة الكادحين
أثرت تجربة الاعتقال على الفنانة الشابة تأثيرًا كبيرًا، حيث تغيرت حياتها بالمرة عقب خروجها، وأصبح الرسم نشاطها الأساسي، وعكفت على رسم الريف والحياة اليومية للمصريين الكادحين، وعندما اقتربت من عقدها السادس، ابتعدت عن الحياة السياسية وأخذت تركز على الفن حتى وفاتها التي صادف اليوم التالي لليوم ولدت فيه، وتحديدا في السابع عشر من أبريل 1989.
تدرجت إنجي في العديد من الوظائف، حيث عملت معلمة رسم بمدارس الليسية الفرنسية حتى عام 1948، ثم صحفية حتى عام 1952، ثم مصورة، ثم حصلت على منحة تفرغ من وزارة الثقافة المصرية عام 1965 ، وكللت مسيرتها الفنية بإنتاج ثلاث كتب، الأول بعنوان “80 مليون امرأة معنا” في عام 1947، وآخر بعنوان “نحن النساء المصريات” في عام 1949، أما الثالث بعنوان “السلام والجلاء” في عام 1951.
في 2014 أهدى ورثة الفنانة إنجي أفلاطون وزارة الثقافة المصرية 60 لوحة من أشهر وأجمل أعمالها لتوضع في متحف الوزارة
كما شاركت في العديد من المعارض الداخلية والخارجية، حيث أقامت ما يقرب من 25 معرضا خاصا، البداية كانت في القاهرة عام 1951، ثم معرض في روما عام 1967، ومعارض أخرى في مدن موسكو، وبرلين الشرقية عام 1970، هذا بخلاف مرض نيودلهي عام 1979 والكويت عام 1981.
كذلك اشتركت في عدة معارض جماعية دولية، منها بينالي ساوباولو عام 1953، وبينالي فينسيا عام 1952، وعام 1968 ، هذا بخلاف مشاركتها مع عدد من الفنانين المصريين في معرض ألاباما، بالويات المتحدة عام 1988، وعقب وفاتها أقيم معرض لإحياء ذكراها في أتيليه القاهرة عام 1989.
حازت فنانة الكادحين طوال مشوار حياتها الممتد طيلة 75 عاما على العديد من الجوائز المحلية والدولية أبرزها جائزتان من صالون القاهرة عامى 1956 ، 1957، والجائزة الأولى في مسابقة المناظر الطبيعية عام 1959، هذا بخلاف الجوائز الدولية على رأسها وسام “فارس للفنون والآداب” من وزارة الثقافة الفرنسية عام 1985، 1986.
بعض اللوحات التي رسمتها
60 لوحة لوزارة الثقافة
في 2014 أهدى ورثة الفنانة إنجي أفلاطون وزارة الثقافة المصرية 60 لوحة من أشهر وأجمل أعمالها لتوضع في متحف الوزارة، وهي المبادرة التي قوبلت بترحاب شديد من قبل وزير الثقافة المصري وقتها جابر عصفور الذي أبدى إعجابه البالغ بتراث الفنانة المناضلة الذي وصفه بالفن الراقي.
عصفور في تصريحاته وقتها أكد على ضرورة أن تضطلع كل فئات الشعب على هذا النوع من الفن، للتعرف على تاريخ الفن التشكيلى المصرى المعاصر الثرى بكنوز الرواد اﻷوائل ، مؤكدًا أن الوزارة ستحافظ على هذا التراث الفنى الغنى بالروائع التى تتميز باللون الشعبى الذى كانت أفلاطون مفتونة به وأبدعت فى تجسيده.
وهكذا استطاعت حفيدة الشاعر الروسي الكبير تولوستوي أن تسطر اسمها في سجلات المدافعين عن الطبقة الكادحة والمعبرين عنها، محولة لوحاتها الفنية إلى قصائد شعر نارية تزأر نصرة للفقراء وأصحاب العوز، متخلية عن حياة القصور، متحملة للثمن الغالي الذي دفعته ثمنا لفكرها وتأييدًا لمعتقداتها.