بدءًا من عام 2018، تحملت شركة فيسبوك العملاقة “15 شهرًا من الجحيم” بحسب ما وصفته المجلة الأمريكية “ويرد” التي تحدثت في مقال من 10 آلاف كلمة عن الأرباح القياسية والتسريبات والأزمات الداخلية والاستقالات التي عانت منها الشركة طوال هذه الفترة، لا سيما خلال محاولتها إعادة بناء ثقة الجمهور في منصتها، بعدما تزعزعت عقب فضيحة “كامبريدج أناليتيكا” التي حصرت الشركة في خانة التشكيك.
كما طالت سمعة الموقع الذي واجه موجة مستمرة من ردود الفعل العنيفة والاتهامات بسبب دوره في نشر الأنباء المضللة والأخبار الوهمية والتلاعب بالدعاية السياسية وتكريس البروباغاندا الروسية، إضافة إلى فشله عدة مرات في التخلص من خطابات الكراهية والعنصرية وسد الثغرات الأمنية التي تهدد خصوصية المستخدمين.
ولمعرفة تفاصيل الأوقات العصيبة التي مرت بها الشركة، يستعرض مقال “ويرد” أكبر التحولات والصراعات التي حدثت داخل الشركة وما جعلها محاصرة بـ”أمراضها الخاصة”، وذلك بناءً على مقابلات مع 65 من موظفي أكبر شبكة اجتماعية في العالم.
فيسبوك تحاول إصلاح ما تم كسره بعد فضيحة “كامبريدج أناليتيكا”
يبدأ التقرير باقتباس قاله رجل الأعمال الملياردير جورج سوروس، خلال كلمة ألقاها في أثناء العشاء السنوي الذي ينظمه المنتدى الاقتصادي العالمي “دافوس”، الذي شن هجومًا لاذعًا على شركات التكنولوجيا العملاقة، وصب غضبه تحديدًا على شركتي فيسبوك وجوجل، واصفًا إياهما بـ”أكبر تهديد للديمقراطية”، مضيفًا أن أيامهما باتت “معدودة”.
لم ينحصر هذا السخط في المنابر الدولية فحسب، بل تفشى تدريجيًا بين مستخدمي الموقع الذين علموا أن المنصة تلاعبت بالفعل بأصوات الناخبين الأمريكيين وساهمت العشرات من حساباتها في نشر الكراهية والمعلومات الكاذبة بشأن أعمال العنف في ميانمار، ما أثر بشكل سلبي وكبير على سمعتها، ليس فقط على المستوى الخارجي، فلقد واجهت الشركة انتقادات داخلية من موظفيها ذوي الرتب المتوسطة بسبب دورها في تعزيز الكراهية والعنصرية.
وفي محاولة لامتصاص هذا الغضب خوفًا على ثروات وأسهم الشركة، أعلنت الشركة أوائل عام 2018 عزمها إنشاء خوارزمية تروج لـ”أخبار جديرة بالثقة” في الموقع لكي يقيس مدى جودة كل منشور يتم نشره ومنع الروابط التي بها عناوين إخبارية مضللة من الظهور على شريط الأخبار في الصفحة الرئيسية وخاصةً القصص التي تتضمن كلمات مثل الجريمة أو السياسة أو المأساة.
أنشأت فيسبوك نظامًا ذكيًا لتحديد نوعية المحتوى الذي ينطلق من منصتها، ونجحت في تحديد 99% من المحتوى الذي يتم تداوله، ولكنها ما زالت تواجه صعوبة في منع خطابات الكراهية
ورغم اجتهادها في التعامل مع الأزمة ونجاحها في الحفاظ على المعلنين والمستخدمين من الفرار واعتذارها عن خيبة ظن جمهورها وتأسيسها لفريق “إدارة الأزمات”وتوظيفها عدد هائل من المسؤولين والموظفين لمراقبة منشورات المنصة (كان هناك نحو 30 ألف شخص يعملون في هذا المجال، وهو ما يمثل عدد موظفي غرفة الأخبار في جميع الصحف الأمريكية)، فإن أسهم الانتقادات لم تتوقف عن إصابتها وبقيت الكثير من القنابل الموقوتة جاهزة للانفجار في وجهها في أي لحظة.
فتنظيم الشركة اجتماعات أسبوعية لنحو 100 شخص لتحديد ومراجعة سياسة تقييم المحتوى والمنشور، طورت لدى موظفيها آثار ما قبيل الاكتئاب وأعراض الإجهاد اللاحق للصدمة بسبب ظروف العمل البائسة، كما ذكرت مجلة “فيرج” الأمريكية في وقت سابق.
وبما أن الشركة تفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر، أنشأت نظامًا ذكيًا لتحديد نوعية المحتوى الذي ينطلق من منصتها، وكل ما يتعلق به من رسائل غير مرغوب بها أو صور عنيفة أو إباحية أو منشورات تدعم الإرهاب، إذ نجحت في تحديد 99% من المحتوى الذي يتم إنشاؤه وتداوله بشكل يومي على المنصة، ولكنها ما زالت تواجه صعوبة في منع خطابات الكراهية، فهي تجد 52% فقط من هذه المنشورات قبل أن يبلغ المستخدمون عنها.
توترات داخلية واستقالات جماعية.. كيف أثار إنستغرام استياء زوكربيرغ؟
يشير تقرير “ويرد” إلى التغييرات التي أُدخلت على الشركة بعد 4 أسابيع من شهادة زوكربيرغ أمام الكونغرس الأمريكي، وأبرزها التعديلات الوزارية وتسريح عشرات المديرين التنفيذين من وظائفهم وانتقال رئيس قسم المنتجات كريس كوكس إلى الإشراف على منصتي واتساب وإنستغرام، علمًا أنه من أكثر الأشخاص قربًا لزوكربيرغ وهو من دشن خدمة تغذية الأخبار (نيوز فيد).
يعود الكاتب بنا إلى 2010، العام الذي شهد تأسيس منصة إنستغرام من قبل كيفن سيستروم ومايك كريجر، ثم ينتقل بنا إلى 2012 حين أعلنت فيسبوك استحواذها على المنصة مقابل مليار دولار لشركة لديها 13 موظفًا فقط، في وقتها بدا السعر عاليًا بشكل مدهش ولكن الدهشة انتهت حين أصبحت إنستغرام الشبكة الأسرع نموًا في العالم، وتحول كبرياء وفخر زوكربيرغ بهذا الصعود إلى شكوك مع نجاح التلميذ سيستروم، بشكل يفوق توقعات الأستاذ زوكربيرغ.
ففي الوقت الذي ضج به العالم بسبب فضيحة كامبريدج، كان مؤسسو إنستغرام سيستروم وكريجر قلقين بالفعل من أن زوكربيرغ سيزيد الأمور صعوبة عليهم، فلطالما سمح لهم بإدارة شركتهم بشكل مستقل لمدة 6 سنوات، لكن زوكربيرغ مارس عليهم مزيدًا من الضغط وقدم المزيد من الطلبات، لا سيما بعدما بات الناس يستخدمون تطبيق إنستغرام أكثر من تطبيقات فيسبوك الأصلية وليست المتبناة.
وربما يعود ذلك إلى بنية إنستغرام الداخلية التي ساعدتها على تجنب بعض “الشياطين التي تطارد هذا القطاع”، بحسب وصف التقرير، وأهمها المنشورات التي يصعب إعادة مشاركتها، ما يؤدي إلى إبطاء نشاط هذه الخاصية، وذلك عدا عن صعوبة الترويج للروابط الخارجية، ما ساهم أيضًا في تقليل حجم الأخبار المزيفة عليها.
خرج مؤسسو تطبيق واتساب من مظلة فيسبوك وبدآ في محاربتها علنًا بعدما صرحا بمعارضتهما لنهج فيسبوك في اختراق بيانات وخصوصية المستخدمين وطرق جني الأموال
مع العلم أن المنصة تعرضت لانتقادات سلبية بسبب انتشار ظاهرة التنمر والصور المزيفة وتعزيز الشعور بالعار، لكن إدارة سيستروم وكريجر كافحت هذه السموم وطرحت أنظمة جديدة لتنبيه المستخدمين من هذه المنشورات وتذكيرهم بضرورة قضاء وقت مع أصدقائهم وعائلتهم بدلًا من تصفح الصور والحسابات، وقد يكون ذلك وسيلة غير بديهية للنمو، ولكنه ساعد المنصة في كسب ثقة المستخدمين الآن والتضحية بأرقام النمو القياسية من أجل تحقيق أهداف أخرى على المدى الطويل، وهو التكتيك الذي غاب عن عقلية فيسبوك.
عندما بدأت المحادثات عن إعادة تنظيم هيكلة العمل، جلب سيستروم وكريجر أحد أهم أعضاء دائرة زوكربيرغ الداخلية، آدم موساري، الذي اعتبروه الوسيلة الأمثل لكسب ثقة الشركة الأم مجددًا وإعادة مفاتيح السيطرة والتحكم لديهم من خلال نقله إلى منصتهم كنائب رئيس قسم المنتجات.
في الوقت نفسه، خرج مؤسسو تطبيق واتساب، بريان أكتون وجان كوم من مظلة فيسبوك وبدآ في محاربتها علنًا بعدما صرحا عن معارضتهما لنهج فيسبوك في اختراق بيانات وخصوصية المستخدمين وعدم موافقتهما على خطط جني الأموال، ما جعل أكتون يدعو مستخدمي التطبيق إلى حذفه والتوقف عن استخدامه.
خلق هذا الموجز من المعارك تشنجًا داخل الشركة وفتح المجال مجددًا أمام الصحافة لاستغلال هذه الصراعات للحديث عن سياسات الشركة، ولكن الشركة كانت تركز على أكثر أفكارها وأهدافها طموحًا لعام 2018، وهي جمع كل المنصات التي تمتلكها في واجهة واحدة وجديدة.
شغل نيك كليج، نائب رئيس الوزراء السابق للمملكة المتحدة وظيفة العلاقات العامة، وما جعله مؤهلاً للمنصب أن لديه خبرة واسعة في المفاوضات التجارية، وبالتالي يمكن للشركة أن تستفيد من توصياته في القضايا والتحديات القانونية
تزامنت هذه الأزمة مع حاجة الشركة إلى رئيس تنفيذي في قسم التواصل، بعد أن أعلن إليوت شراج أنه سيترك منصبه كنائب رئيس الاتصالات العالمية، ما دفع الشركة إلى البحث عن بديل له والتركيز في إجراء مقابلاتها مع المرشحين من العالم السياسي مثل دينيس ماكدونو وليزا موناكو، كبار المسؤولين السابقين في إدارة أوباما، لكن موظفة شؤون الاتصالات السابقة لدى شركة أوبر، راشيل ويتستون أعلنت أنها تريد المنصب نفسه، وفي المقابل هدد اثنان من المديرين التنفيذيين بتقديم استقالتهما إذا ظفرت ويتستون بهذا الكرسي.
بالنهاية، تم إحضار مرشح آخر لشغل وظيفة العلاقات العامة في المقر الرئيسي، نيك كليج نائب رئيس الوزراء السابق للمملكة المتحدة، وما جعله مؤهلاً بشكل جيد للمنصب أن لديه خبرة واسعة في المفاوضات التجارية، كونه عضو سابق في المفوضية الأوروبية وعضو في البرلمان الأوروبي، وبالتالي يمكن للشركة أن تستفيد من توصياته في القضايا والتحديات القانونية، لا سيما في خضم مواجهتها للعديد من المشكلات المتصاعدة بشأن الخصوصية والتضليل الإعلامي والتلاعب السياسي.
أعلن زوكربيرغ سحب موارد الدعم من إنستغرام وقرر سد الفتحات التي كانت تسمح لمستخدمي فيسبوك بالتسرب والتوجه إلى إنستغرام
في الجهة المقابلة، كان قسم التواصل يناقش الكيفية التي عليهم اتباعها في الحديث عن نمو إنستغرام المذهل وربط هذا التفوق بعلاقته مع فيسبوك وليس برؤية مؤسسيه، وعلى الرغم من أن البعض نصح زوكربيرغ بعدم ارتكاب هذا الخطأ واستبداله بتهنئة وثناء على الفريق المؤسس للتطبيق، فإن زوكربيرج كتب في النهاية: “نعتقد أن إنستغرام كان قادرًا على استخدام البنية الأساسية لفيسبوك لكي ينمو بسرعة مضاعفة مقارنة مع وتيرة نموه منفصلًا”، مختتمًا هذا النص بتهنئة للفريق ولجميع المساهمين في هذا النجاح.
تلقائيََا، انخفض سهم فيسبوك بنحو 20%، ما دعا زوكربيرج إلى طلب إعداد قائمة بجميع الوسائل والموارد التي يدعم بها الموقع هذه المنصة مثل الإعلانات والسماح لوصول بيانات الاتصال الخاصة بالمستخدم من أجل التوصية بمتابعة أشخاص آخرين، عدا عن توظيفه أفضل المهندسين والمبرمجين في العالم للإشراف عليه، وبمجرد حصول زوكربيرغ على هذه القائمة، أعلن سحبه لموارد الدعم وقرر سد الفتحات التي كانت تسمح لمستخدمي فيسبوك بالتسرب والتوجه إلى إنستغرام.
بيان الوداع بين مؤسسي إنستغرام وفيسبوك
كانت تلك الخطوة من أهم حلقات التوتر التي شهدتها الشركة في الداخل، إذ عززت مشاعر عدم الرضا بين الشركة الأم والشركة المتبناة، حيث تُركت منصة إنستغرام في مهب تدخلات زوكربيرغ اليومية التي يُقال إنها كانت تهدف إلى دفع سيستروم للاستقالة من منصبه، وهو ما حدث بعد ذلك حين غادر سيستروم في إجازة الأبوة وعاد ليجد أن المؤسسين قرروا منحه إجازة دائمة، لتنتهي هذه التوترات بإعلان سيستروم وكريجر استقالتهما، وحالما تسربت الأخبار إلى صحيفة نيويورك تايمز، أجبر فريق التواصل زوكربيرغ على كتابة بيان يودع فيه الفريق المؤسس للتطبيق، قائلًا: “كيفن ومايك، قادة منتجات استثنائية، ويعكس إنستغرام مواهبهما الإبداعية، لقد تعلمتُ الكثير من العمل معهما وأتطلع لرؤية ما يبنيانه بعد ذلك”.
يرى النقاد أن فيسبوك تحاول الاستجابة لجميع الانتقادات وتسعى لإصلاح سياساتها لكنها جهود خادعة ومضللة، وقد تكون إعدادات خصوصية الشركة أكثر وضوحًا منذ عام، ولكن تعديلها كان تحت تهديد السلاح والضغوط الدولية
الخلاصة، أن شركة إنستغرام التي لم يكن لديها سوى 13 موظفًا فقط و30 مليون مستخدم، أصبحت منصة مفتوحة لأكثر من مليار مستخدم شهريًا مع قيمة سوقية تبلغ أكثر من 100 مليار دولار، بعدما نجحت في استقطاب عدد كبير من مستخدمي السوشيال ميديا الذين سئموا من سياسات الخصوصية والأخبار المزيفة في موقع فيسبوك وهربوا منه إليها، ليزيد نموها كواحدة من أقوى العلامات التجارية في قطاع التكنولوجيا.
إلا أن ذلك لم يثر إعجاب زوكربيرغ، رغم أن شبكته الاجتماعية لا تزال الأقوى في العالم، ويستخدمها خُمس سكان العالم كل يوم، حيث بلغت إيراداتها نحو 55.8 مليار دولار في ذاك العام مع ركود طفيف في عدد المستخدمين في الولايات المتحدة الأمريكية.
في سياق آخر، يرى النقاد أن فيسبوك تحاول الاستجابة لجميع الانتقادات وتسعى لإصلاح سياساتها لكنها جهود خادعة ومضللة قائمة على اهتماماتها بالنمو وجني الثروات، وقد تكون إعدادات خصوصية الشركة أكثر وضوحًا منذ عام، ولكن تعديلها كان تحت تهديد السلاح والضغوط الدولية لأن زوكربيرغ لا يزال مهووسًا بالمضي قدمًا نحو أهدافه، فقد تم سؤاله ذات مرة عن مستقبل فيسبوك بعد 10 سنوات، وأجاب أنه يعمل على تطوير خدمة تمكن المستخدم من الكتابة عبر التفكير.
بمعنى آخر، إنه يسعى لإنشاء مشروع تكنولوجي يسمح لفيسبوك بقراءة عقول الناس، ولكنه أدرك في اللحظة الأخيرة من الحديث أن ظروف الشركة الحاليّة لا تسمح له بالحديث عن هذا الموضوع، ما جعله يتدارك هذا الخطأ، ويقول: “من المفترض أن تكون هذه التقنية شيئًا يختاره الشخص للاستخدام، لا أعرف كيف توصلنا لهذا الاختراع”.
ختامًا، كانت هذه نظرة خاطفة خلف كواليس مكاتب فيسبوك، بدايةً من فضيحة كامبريدج وتداعياتها وصولاً إلى صراع المديرين التنفيذيين مع تدخلات زوكربيرغ في فرض سياساته وما نتج عنها من فضائح واستقالات والعديد من الأصوات التي ترى هذه الشركة المعنى الحقيقي لانتهاك الخصوصية الرقمية والديمقراطية في العالم.