أثار التقرير التقييمي الصادر عن الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، يوم الجمعة 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، جدلًا واسعًا بين المراقبين الحقوقيين محليًا ودوليًا، بعدما أشاد بملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034، مسلطًا الضوء على ما وصفه بـ”الإصلاحات” التي نفذتها المملكة، والتي اعتبرها خطوة نحو “تحقيق تقدم إيجابي في مجال حقوق الإنسان”.
الملفت في التقرير، الذي جاء في 110 صفحات، أن الفيفا منحت السعودية أعلى درجة تقييم في تاريخ العروض المقدمة، متفوقة حتى على العرض المشترك لكندا والولايات المتحدة والمكسيك لاستضافة مونديال 2026، حيث حاز الملف السعودي على 4.2 من أصل 5، مقارنة بـ4 نقاط للعرض الأمريكي الكندي، في مفارقة جمعت بين السخرية والقلق لدى العديد من المراقبين.
وبينما قدم كل من المغرب وإسبانيا والبرتغال ملفًا مشتركًا لاستضافة كأس العالم 2030، بمشاركة رمزية من أوروغواي والأرجنتين وباراغواي للاحتفال بمئوية البطولة، وجدت السعودية نفسها المرشح الوحيد لاستضافة نسخة 2034، بعد غياب أي عروض منافسة، ما أثار جدلًا واسعًا داخل الأوساط الرياضية حول أسباب انسحاب الدول الأخرى وما يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل استضافة البطولات العالمية.
منح السعودية هذا التقييم المرتفع، رغم سجلها الحقوقي المثقل بالانتهاكات الموثقة من منظمات محلية ودولية، أعاد إلى الواجهة اتهامات سابقة تتعلق بمحاولاتها لـ”غسل السمعة” عبر الرياضة والفن والإعلام، فقد وُجِّهت انتقادات للمملكة باستخدام ثرواتها الهائلة للإنفاق بلا حدود على هذه الجهود، في مسعى لصرف الأنظار عن القمع المستمر للمعارضين وكل من يخرج عن الخط الرسمي، ما يعزز الشكوك حول الأهداف الحقيقية وراء هذه التحركات.
تحذيرات أهملها العالم
سبق إصدار الفيفا تقرير تقييم الدول المتقدمة لتنظيم مونديالي 2030 (المغرب والبرتغال وإسبانيا) و2034 (السعودية) تحذيرات مختلفة من عدد من المنظمات الحقوقية التي طالبت بضرورة التأكد من استيفاء المعايير الصارمة التي وضعها الاتحاد الدولي لكرة القدم والتي تتضمن حماية حقوق العمال، ومكافحة التمييز، وضمان الحق في السكن، وحماية حرية التعبير، وغيرها من المبادئ الإنسانية الأساسية.
في 10 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أصدرت منظمة العفو الدولية تقييمًا لخطط حقوق الإنسان المقدمة من الدول المتنافسة لاستضافة المونديال، ومقارنة بمتطلبات الفيفا، وخلص التقييم إلى أن العروض المشتركة من المغرب والبرتغال وإسبانيا لم تُظهر بشكل كافٍ كيفية تلبيتها لمعايير حقوق الإنسان المطلوبة، مطالبًا بضرورة تبني استراتيجية حقوق إنسان أخرى أكثر مصداقية، أما فيما يتعلق بالتقييم السعودي، فقد دعت المنظمة الاتحاد الدولي لكرة القدم إلى تعليق عملية التصويت لاستضافة كأس العالم 2034 حتى تُنفذ إصلاحات جوهرية في المملكة التي تعاني من خروقات فاضحة في هذا الملف.
وقبل عشرة أيام تقريبًا من تقرير العفو الدولية، أصدرت 11 منظمة حقوقية تقريرًا مشتركًا انتقدت فيه التقييم الذي وصفته بـ”المعيب” لسياق حقوق الإنسان بشأن ملف ترشح السعودية لاستضافة كأس العالم لكرة القدم 2034، والصادر عن شركة “آي إس آند إتش كليفورد تشانس” (AS&H Clifford Chance)، التي يقع مقرها في الرياض، وهي جزء من الشراكة العالمية لشركة المحاماة “كليفورد تشانس” (Clifford Chance) التي تتخذ من لندن مقرًا لها.
وفقا للتقرير المشترك، لعب تقييم شركة “كليفورد تشانس” دورًا كبيرًا في تعزيز فرص السعودية في استضافة كأس العالم 2034، إلا أن التقرير أغفل العديد من التجاوزات الحقوقية التي ارتكبتها السلطات السعودية في السنوات الأخيرة، كما تجاهل التقرير أي مناقشة موضوعية للانتهاكات الحقوقية الواسعة التي وثقتها منظمات حقوق الإنسان وهيئات الأمم المتحدة.
كما أبدت مجموعة من المنظمات الحقوقية، بما في ذلك منظمات سعودية في المهجر، ومنظمات خليجية، ومنظمات عمالية، إلى جانب رابطة مشجعي كرة القدم في أوروبا، ومنظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، اعتراضاتها في رسالة بعثت بها إلى الشريك الإداري العالمي لشركة “كليفورد تشانس”. وطالبت المنظمات بضرورة نشر “نسخة مُحدَّثة” للتقرير تأخذ بعين الاعتبار هذه المخاوف الحقوقية.
علقت منظمة فير سكوير (FairSquare)، التي قادت التحرك الجماعي ضد التقييم الصادر عن شركة “كليفورد تشانس”، على لسان مديرها جيمس لينش، قائلة: “لقد كان من الواضح منذ أكثر من عام أن الفيفا مصمم على إزالة جميع العقبات المحتملة للتأكد من قدرته على تسليم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كأس العالم 2034″، مضيفة أنه “من خلال إصدارها تقريرها شديد القصور إلى حد الصدمة، ساعدت آي إس آند إتش كليفورد تشانس، وهي جزء من إحدى أكبر شركات المحاماة في العالم التي تقدم الكثير من خبرتها في مجال حقوق الإنسان، على إزالة عقبة رئيسية أخيرة”.
الحقيقة التي لا تُقال
قبل أيام قليلة من صدور التقرير التقييمي للفيفا، قدم الاتحاد الإقليمي الإفريقي للاتحاد الدولي للنقابات العمالية (ITUC-Africa)، الذي يمثل 18 مليون عامل إفريقي، شكوى إلى الأمم المتحدة ضد ما وصفه بـ”انتهاكات ممارسات العمل” في السعودية، مشيرًا إلى ما يواجهه العمال المهاجرون من تضييقات وتجاوزات في المملكة. وطالب الاتحاد باتخاذ إجراءات فورية لمعالجة الوضع.
التقرير استند في مضمونه إلى شهادات العمال المهاجرين العاملين في المملكة حول ما يتعرضون له من إساءات وسوء معاملة وابتزاز واستغلال وتمييز على مدار اليوم، لافتًا إلى أن “هؤلاء العمال، الذين يلعبون دورًا حاسمًا في اقتصادات بلدانهم الأصلية والسعودية، يواجهون استغلالًا لا هوادة فيه، بما في ذلك سرقة الأجور والعمل القسري وظروف العمل غير الآمنة والانتهاكات الصارخة لكرامتهم وحقوقهم بموجب نظام الكفالة”
حذرت المنظمة من أن عدم اتخاذ إجراءات حاسمة ضد السعودية سيؤدي إلى تفاقم الوضع وزيادة التجاوزات، التي تشارك فيها السلطة إلى جانب المواطنين، ما قد يصعب السيطرة عليه لاحقًا، كما توقعت أن تشهد المملكة ارتفاعًا كبيرًا في عدد الوفيات نتيجة لهذه الانتهاكات، وأكدت المنظمة كذلك أن معاملة العمال المهاجرين الأفارقة في السعودية تشكل انتهاكًا صارخًا لقوانين حقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان.
ووجّه التقرير خطابًا مباشرًا إلى إدارة الفيفا، موضحًا أن العمال الأفارقة في السعودية “يتعرضون لأبشع المعاملة الإنسانية وأكثرها قسوة”. كما دعا باتريس موتسيبي، رئيس الاتحاد الدولي للنقابات في إفريقيا، رئيس الفيفا جياني إنفانتينو، إلى “إجبار الفيفا على احترام التزامها بحقوق الإنسان، كما هو منصوص عليه في أنظمتها الأساسية، وتعزيزه من خلال سياسة الفيفا لحقوق الإنسان”.
وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كشفت صحيفة “تلغراف” البريطانية أن الأوضاع السيئة داخل السجون السعودية لم تتغير عما كانت عليه قبل سنوات، رغم تصريحات مسؤولي المملكة بشأن إجراء بعض الإصلاحات إزاء هذا الملف الذي ظل لفترات طويلة محط انتقادات إقليمية ودولية.
قبل 4 سنوات، أجرت صحيفة “تلغراف” البريطانية تحقيقًا وثقت من خلاله الانتهاكات الواسعة داخل السجون السعودية، حيث أظهرت أدلة قوية على انتشار التجاوزات بشكل ملحوظ، مما أثار موجة من الانتقادات الدولية، وعلى إثر ذلك، وعدت السعودية باتخاذ إجراءات لتحسين الأوضاع، إلا أن الصحيفة نفسها، عبر لقطات جديدة تم تهريبها من داخل مراكز احتجاز الأشخاص المقرر ترحيلهم، أكدت أن الأوضاع لم تتغير، وأن الانتهاكات لا تزال مستمرة.
في هذا السياق، كشفت الحسابات الحقوقية على منصات التواصل الاجتماعي حجم الانتهاكات المستمرة بحق المعارضين السعوديين، من دعاة وعلماء ونشطاء، بسبب مواقفهم وآرائهم السياسية والفكرية، حيث تتواصل موجات الاعتقالات، وتتبنى السلطات سياسة “التدوير” للإبقاء على المعارضين في السجون.
كما يُفتقد إلى معايير التقاضي ونزاهة المحاكمات، فضلاً عن الأحكام التعسفية الصادرة بحق أفراد، مثل رسام الكاريكاتير السعودي محمد بن أحمد بن عيد آل هزاع الغامدي، الذي صدر بحقه حكم بالسجن بسبب اتهامه بالتعاطف مع قطر خلال الأزمة الخليجية 2018، حيث كان يعمل في صحيفة “لوسيل” القطرية، وفقًا لمنظمة سند الحقوقية.
الانتهاكات ذاتها تعرضت لها الناشطة السعودية في مجال حقوق المرأة مناهل العتيبي، التي صدر بحقها حكمًا بالسجن 11 عامًا، بسبب نشاطها في مجال حقوق المرأة عبر الإنترنت، وفي اتصال بعائلتها في 29 سبتمبر/أيلول الماضي أخبرتهم بأنها تعرضت للهجوم في وجهها وتلقت غرزًا للجرح قبل أسبوعين، هذا بخلاف ما تعرضت له من تحرشات جنسية واعتداءات جسدية ظاهرة للجميع، بحسب مركز الخليج لحقوق الإنسان.
غسل العار بالرياضة
منذ صعود محمد بن سلمان وليًا للعهد، حاولت المملكة قدر الإمكان غسل سمعتها الحقوقية التي تشوهت بحملات الاعتقال المسعورة ضد رجال أعمال وشخصيات عامة سعودية عام 2017، بزعم مكافحة الفساد، وكانت هذه الحملة تهدف إلى تقليم أظافر النخبة وإنعاش خزائن المملكة بمئات المليارات من أموال وثروات قيادات الصف الأول للسعودية.
تدهورت السمعة السعودية أكثر بعد اغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، حيث واجه ابن سلمان انتقادات حادة بعد الكشف عن تورطه في الجريمة، وصلت إلى حد المطالبة باعتقاله وتقديمه للمحاسبة، وهي الضربة التي زلزلت أركان ولي العهد ودفعته إلى فتح خزائن المملكة لتحسين تلك الصورة مهما كان الأمر مكلفًا.
كانت الرياضة أحد وسائل “غسل السمعة” التي استخدمتها السعودية لتحسين صورتها وترميم الشروخ التي أصابتها على المستوى الدولي، إذ بدأت المملكة تعزيز نفوذها الرياضي خارج حدودها، حيث كانت البداية في مصر بشراء نادي “بيراميدز”، ثم توسعت إلى إسبانيا عبر شراء نادي “ألميريا” أحد أندية الدرجة الثانية، وبعد ذلك، استمرت السعودية في استثماراتها الرياضية العالمية من خلال شراء حصة من أسهم نادي “نيوكاسل يونايتد” الإنجليزي.
أعقب ذلك استضافة المملكة للعديد من الفعاليات والبطولات الرياضية في مختلف الألعاب، لتأتي رغبتها في استضافة كأس العالم 2034 كخطوة متوقعة لتتويج هذا التوجه، على غرار ما فعلت قطر بتنظيمها الناجح للبطولة في 2022، فقدمت المملكة عرضها لاستضافة المونديال دون أن تواجه منافسة من أي دولة أخرى.
لكن تقييم الملف الحقوقي كان يشكل العقبة الأبرز أمام قبول العرض السعودي، في ظل الانتقادات المستمرة التي تواجهها المملكة في الداخل والخارج، وفجأة، ودون مقدمات، أصدرت الفيفا تقريرها التقييمي، متجاهلة تحذيرات المعارضين من الجمعيات والمنظمات الحقوقية التي طالبتها بالتروي ودراسة الوضع بعمق قبل إصدار التقييم الرسمي والنهائي.
يذكر أنه في يناير/كانون الثاني 2020 وصفت منظمة العفو الدولية مساعي ابن سلمان شراء أندية كروية أوروبية بأنها “محاولة لغسل العار عبر الرياضة“، فيما قال رئيس حملات بريطانيا في المنظمة، فيليكس جاكنز، إن السعودية معروفة بتلك المحاولات باستخدام بريق ومكانة الرياضة العليا كأداة للعلاقات العامة لتشتيت الانتباه عن سجل حقوق الإنسان السيئ لديها.