ارتفاع في درجات الحرارة، ذوبان الأنهار الجليدية، تصحّر الأراضي وجفاف غير مسبوق في كل مكان تقريبًا، أنواع من الكائنات الحية معرّضة لخطر الانقراض، انتشار الأوبئة والأمراض الكامنة، تلوّث الهواء وتسمّم المحيطات ونهاية الحياة البحرية، وغيرها من العناوين الرئيسية التي قد تلمحها بشكلٍ يوميّ في المنصّات المختلفة.
لكن ربّما لم نعد بحاجة لمشاهدة نشرات الأخبار وتصفّح المواقع حتى نتأكّد كلّيًا من جدّية التغيّر المناخي والاحتباس الحراري الحاصل. فنحن نستيقظ كلّ يومٍ نسائل أنفسنا منذ متى كان الشتاء طويلًا هكذا، ومتى أصبح بهذه البرودة. وما إنْ يأتي الصيف حتى نُبدي استغرابنا عن هذا الارتفاع الملحوظ بالحرارة ودرجات الرطوبة.
ينظر الكثير من خبراء الصحة النفسية إلى القلق البيئي على أنه رد فعل طبيعيّ ومفهوم نتيجةً للوعي المتزايد بالمشاكل والمخاطر التي يمكن أن تنجم عن تغير المناخ والتهديدات العالمية الأخرى
أيْ أنّنا نجد أنفسنا طوال أيّام العام وقد وقعنا تحت تأثير المناخ والحرارة والطقس ومتأثّرين بدرجات الحرارة، فنتصفّح حالة الطقس عدة مرات في اليوم ونشتهي ظهور الشمس ولو لساعتين. وبكلماتٍ أخرى، تشكّل قضايا التغيّر المناخي والاحتباس الحراري تحدّيات متزايدة للصحة العقلية والنفسية أيضًا.
اضطرابات نفسية جديدة: قلقٌ مناخيٌ وحزنٌ بيئيٌ
“نسبة كبيرة من الناس يعانون من التوتر والقلق بشأن الآثار المحتملة لتغير المناخ. ومستوى القلق يزداد بشكلٍ شبه مؤكّد”، يُخبرنا التقرير الذي أصدرته الجمعية الأمريكية لعلم النفس الأمريكية عام 2017 بعنوان “الصحة العقلية ومناخنا المتغير” مشيرًا لأوّل مرّة إلى مصطلح “القلق البيئي” ومعرّفًا إيّاه بأنه حالة من الخوف المزمن من تدمير البيئة.
يؤكّد التقرير على أنّ جيل الألفية يشعر بالتوتر والعجز نتيجة للحالة الراهنة للكوكب وتحديات إنقاذه، ويواجه حالة من اللايقين وانعدام الجدوى من أيّ محاولة للتعامل مع الوضع. ولا يقتصر ذلك الشعور على الأشخاص في الأماكن المعرّضة للكوارث والمشكلات البيئة الملحوظة وحسب، بل ويهيمن على العالم ككلّ.
يؤدّي التغيّر المناخي إلى زيادة في معدّلات انتشار الاضطرابات النفسية والعقلية التي يتمّ الإبلاغ عنها
وعلى الرغم من أنّه من الصعب تحويل الصحة النفسية والعقلية إلى لغة الأرقام والإحصائيات، إلّا أنّ كلّ زيادة في متوسط درجات الحرارة القصوى بمقدار درجة مئوية واحدة فقط كلّ 5 أعوام سيؤدّي إلى زيادة بنسبة 2% في معدّلات انتشار الاضطرابات النفسية والعقلية التي يتمّ الإبلاغ عنها.
قد تسأل نفسك كيف يمكن لتغيّر درجة الحرارة أنْ يؤدّي إلى تدهور في الصحة العقلية والنفسية. من الزاوية المباشرة هناك الكوارث الطبيعية والمجاعات وأثرها على البنى التحتية وسبل العيش. ومن جهةٍ ثانية، هناك الفقدان والخسارة أو الموت الناجم عن الكوارث والذي قد يؤدي فعليًا إلى الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة وما يرتبط بها من سلوكيّات متعلّقة بالتوتّر مثل تعاطي المخدرات.
أمّا الآثار غير المباشرة فتشمل الاستجابات وردود الأفعال العاطفية التي يصدرها الناس تفاعلًا مع ما يعيشونه أو يسمعونه من أخبار وقصص عن التغيرات البيئية. لا يختبر جميع الناس مثل تلك الاستجابات بطبيعة الحال، إلا أنّ الكثير منهم يعانون من الضيق والقلق الفعليْين. ترتبط بذلك عدّة أعراض، منها نوبات الهلع والتهيج والتفكير الهوسيّ وانخفاض الإنتاجية واضطرابات النوم والأكل مثل فقدان الشهية.
شعور الذنب: هل نستحقّ النجاة بعد ذلك؟
تؤكّد جميع الدراسات والأبحاث هذه على أنّ التغيّر المناخيّ ليس مجرد مفهوم علمي مجرد يخصّ علماء البيئة والطبيعة ويؤثّر على الاقتصاد والسياسات وحسب، وإنّما هو مصدر للكثير من المشكلات النفسية والعاطفية التي قد تتفاقم أكثر مع الوقت. تكشف دراسة منشورة في مجلة “نيتشر كلايمت تشينج” إلى أنّ ارتفاع درجة الحرارة والجفاف يزيدان من مخاطر الانتحار من جهة، ومن ارتفاع مستويات العدوانية والعنف بين الأفراد والمجتمعات.
ينظر الكثير من خبراء الصحة النفسية إلى القلق البيئي على أنه رد فعل طبيعيّ ومفهوم نتيجةً للوعي المتزايد بالمشاكل والمخاطر التي يمكن أن تنجم عن تغير المناخ والتهديدات العالمية الأخرى. فالقلق في نهاية المطاف هو تجربة إنسانية طبيعية قد يمرّ بها الناس لا لمشكلاتٍ طبّية وحسب، بل لأسباب كثيرة منها الخوف من المستقبل وعدم الشعور بالأمان ممّا قد يحمله معه، أو الشعور بالذنب والمسؤولية تجاه الطبيعة وكوكب الأرض نتيجة الخراب الحاصل.
ينشأ القلق البيئي من الخوف وعدم الشعور بالأمان من المستقبل، أو الشعور بالذنب والمسؤولية تجاه الطبيعة والأرض
“اليأس اليومي الذي لا يهدأ والخسارة التدريجية للطبيعة سيؤدّيان إلى بعض العواقب النفسية المزمنة”، تؤكّد جمعية علم النفس الأمريكية في تقريرها الذي أصدرته بمشاركة عددٍ من المنظّمات البيئية. وتستطرد أنّ التغيّرات التدريجية على المدى الطويل يمكن أنْ تبرز عددًا من المشاعر المختلفة مثل، الخوف أو الغضب أو الشعور بالعجز أو الإرهاق.
ولا عجب من محاولات السينما مؤخّرًا من تسليط الضوء على ذلك القلق والشعور بالذنب الملاصِق له. ولعلّ فيلم “أول إصلاح First Reformed” كان أقواها مؤخّرًا بسؤاله إذا ما كانت البشرية تستحقّ النجاة والغفران بعد الذي اقترفته في حقّ الطبيعة والأرض. ولعلّ الفيلم سيصبح يومًا بمثابة عمل فنّي بارز يتناول أزمة وجودنا العالمية في العقود القادمة.
جميعنا نعلم أنّ الطقس يؤثّر على مزاجاتنا وحالاتنا النفسية. يبدو ذلك جليًّا عند أولئك الذين يعانون من الاكتئاب الموسمي الذي يحدث في فصل الشتاء لغياب ضوء الشمس وتأثر الساعة البيولوجية للجسم، ما يؤدّي إلى الشعور باليأس وانخفاض التركيز والركود والانسحاب الاجتماعي وغيرها من الأعراض.
لذلك، ليس غريبًا البتة أنْ تعمل تغيّرات المناخ والطقس على التأثير على الحالة النفسية والعقلية للأفراد، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. أمّا إنْ سألنا أنفسنا عن إمكانية تجاوز القلق والمشاعر السلبية الأخرى تجاه ما يحدث في العالم والبيئة، فينصح الخبراء بالتكيّف الذي يمكن الوصول إليه من خلال تغيير الحالة العقلية المزاجية للناس وجعلهم أكثر ثباتًا في الظروف المناخية القاسية واستعدادًا للتعامل مع تحدّياتها.