مع تطوّر علوم الدماغ والأعصاب، كشف لنا العلماء الكثير من الأمور المبهمة حول النوم والأحلام ودورهما في الحياة اليومية، لكن لا يزال نوم الأطفال يطرح الكثير من الأسئلة عن دماغ الطفل وما يحدث فيه، لا سيّما وأنّ لأطفال الرضّع والصغار يقضون جلّ وقتهم في النوم، فيما يستيقظون لبضع ساعات فقط.
في الواقع، تشير الأبحاث الحديثة إلى أنّ الأطفال يقضون أكثر من نصف يومهم نيامًا، بدرجاتٍ تتفاوت مع مرحلتهم العمرية. ومن السهل معرفة مدى صعوبة دراسة أحوالهم أثناء النوم، حيث أنّنا كبالغين نستطيع بالنهاية سرد ما يحدث لنا وما نحلم به وما نتذكّره لندعم به الأبحاث والدراسات التي تحاول فكّ ألغاز النوم والأحلام.
جوابٌ لم يحسم بعد.. هل يحلم الطفل؟
واحدة من الأسرار التي لم تكشفها تلك التطوّرات التكنولوجية تمامًا هي ما إذا كان الأطفال يحلمون أثناء نومهم أم لا. ومثله مثل الكثير من الأسئلة التي يطرحها علم النفس، لا تزال الإجابة غامضة ومتفاوتة بين الباحثين والعلماء الذين يختلفون بفرضيّاتهم تبعًا لمنهجهم العلميّ والبحثيّ.
لو عدنا إلى العقود الأخيرة من القرن العشرين، لوجدنا أنّ الرأي السائد آنذاك كان أنّ الأطفال يحلمون لكنّهم غالبًا ما يعجزون عن تذكّر الحلم، عوضًا عن افتقارهم للغة اللازمة للتعبير عنه.
يبدأ الأطفال برؤية الأحلام الحيّة والواضحة في المرحلة التي يكونون فيها قادرين على تخيّل ذواتهم ومحيطهم بصريًا ومكانيًا، أيْ في سنّ السابعة تقريبًا، وهي المرحلة التي يميلون فيها إلى تطوير شعور واضح بهويّتهم الخاصة
فعلى سبيل المثال، افترض عالم النفس والأحلام الأمريكي ديفيد فولكس في ستّينات القرن الماضي أنّ الأطفال نادرًا ما يتذكّرون أحلامهم قبل سنّ السابعة. وعلى مدى السنوات اللاحقة استطاع أنْ يطوّر رؤيته ليخلص عام 2002 في أحد كتبه إلى أنّ البشر قبل ذلك العمر من حياتهم يكونون عاجزين عن رؤية الحلم وليس عن تذكّره وحسب.
يبدأ الأطفال برؤية الأحلام الحيّة والواضحة في المرحلة التي يكونون فيها قادرين على تخيّل ذواتهم ومحيطهم بصريًا ومكانيًا، أيْ في سنّ السابعة تقريبًا، وهي المرحلة التي يميلون فيها إلى تطوير شعور واضح بهويّتهم الخاصة وموقعهم في العالم من حولهم. أمّا الأطفال في عمر الرابعة ولغاية السابعة فعادةً ما يصفون أحلامًا جامدة وبسيطة، بدون شخصيات تتحرك أو تعمل، يتخلّلها جزء قليل من العواطف والانفعالات ولا ترتبط بذكريّات معيّنة.
لاحقًا، تنتقل أحلامهم من الصور الثابتة إلى المزيد من الصور المركّبة والمتحرّكة والتفاعلات الاجتماعية، ثمّ إلى مرحلة انعكاس الذات في الحلم وزيادة التعقيدات السرديّة والتفاعلات الاجتماعية والذكريات فيه. وبتعبيرٍ آخر، فإنّ تطوّر الوعي والقدرة على التفكير الذاتي هي ما يدعم تطوّر الحلم عند الطفل، تمامًا كما يدعم تطوّر مهاراته المعرفية والإدراكية في ساعات اليقظة. جميعنا نعلم أنّ الطفل لا يكون قادرًا على تذكّر سنواته الأولى في الطفولة مثلًا.
ويعني هذا أنّ الأطفال يطوّرون فهمًا ووعيًا واضحًا لهويتهم الخاصة في عمر السابعة أو الثامنة، الأمر الذي يمكّنهم من إدخال ذواتهم إلى أحلامهم وإدراكهم أنّها ستبقى ثابتة مهما كانت أحداث الحلم. أيْ أنّ الأحلام الحيّة ذات السردية المنظّمة تبدأ في تلك المرحلة العمرية.
تطوّر الوعي والقدرة على التفكير الذاتي هي ما يدعم تطوّر الحلم عند الطفل
يُرجع البعض ذلك إلى أنّ النوم عند الأطفال يؤدّي دورًا مختلفًا عمّا يؤدّيه عند البالغين؛ فهو يسمح لأدمغتهم ببناء مسارات ووصلات عصبية ودمجها ببعضها البعض لتجهيزها في وقتٍ لاحق لتعلّم المهارات المعرفية مثل الذاكرة واللغة والقدرة على اتّخاذ القرارات وحلّ المشكلات. أيْ أنّ الدماغ يكون مشغولًا تمامًا عن التخيّل والحلم لحفظ طاقته لأغراض أكثر أهمّية في المراحل القادمة.
في المقابل، يرفض عدد من الباحثين هذا التفسير، ويرون أنّ الأطفال يحلمون بالفعل لكنّهم لا يمتلكون اللغة التي تمكّنهم من إيصال ذلك. يعتقد بعضهم أنّ الأحلام تخدم كآلية غريزية للجسم لتجهيز نفسه للواقع وحمايتها من الأخطار والتهديدات الافتراضية. أيْ أنها تحمل وظيفةً بيولوجية استعان بها أسلافنا لمحاكاة الأحداث المهدّدة ووضع السيناريوهات لتجنّبها والتعامل معها في الواقع. وهذا هو السبب ربّما في أنّ الأطفال يرون كوابيسَ أكثر من البالغين. بالنهاية، تُشير بعض الدراسات إلى أنّ الثدييات الأخرى تحلم أيضًا نتيجةً للانتقاء الطبيعي.
ماذا يحدث داخل دماغ الطفل أثناء النوم؟
بالرغم من صعوبة الوصول إلى إجابة واحدة وموحّدة فيما إذا كان الأطفال يحلمون أمْ لا. إلا أنّه مما لا شك فيه أنّ التجارب المبتكرة التي تقوم على التطوّرات التكنولوجية الحديثة ساعدت في إلقاء نظرة أقرب على الدماغ الصغير للطفل وفهمه بطريقةٍ أفضل لكشف الأسرار والألغاز التي لطالما حُبست فيه دون أنْ تخرج للعالم الخارجيّ. فبفضل تلك التطوّرات، أصبحنا نعرف أنّ النوم ضروريّ لنموّ الطفل ووعيه. وكما هو الحال مع البالغين، يساعد النوم الطفل في تطوير الذاكرة وتعلّم اللغة وتعزيز النموّ الجسديّ الصحي، هرمون النموّ يتمّ إطلاقه أثناء النوم على سبيل المثال.
كتبت أنجيلا سيني في مقالٍ لها نشر عام 2013 بعنوان “التسلّل إلى داخل رأس طفل” أنّ الكثير من الباحثين لا يحبّون العمل مع الأطفال لأنه أمر بالغ الصعوبة في معظم الأحيان. يمكنك أنْ تطرح الأسئلة والطلبات مع البالغين، وأنْ تملي الأوامر على الحيوانات وتجعلها تفعل أشياء محدّدة، لكن لا يمكن أنْ تفعل أيًّا من ذلك مع الأطفال. لكن من يدري، لعلّنا نصل إلى الوقت الذي نستطيع فيه التسلسل إلى دماغ الطفل والإجابة على الكثير من الأسئلة التي لا يطرحها علماء النفس والأعصاب وحسب، بل والكثير من الآباء والأمّهات أيضًا.