أضحت العاصمة الصينية بكين في السنوات الأخيرة، وجهة قرابة نصف القادة الأفارقة الطامعين في الحصول على قروض ميسرة من بنوك البلاد للدفع باقتصاداتهم المتهالكة، ما جعل الصين تمتلك لوحدها ما يقرب من 20٪ من الديون العامة الإفريقية، الأمر الذي يمكّنها من التحكّم في هذه الدول بالصيغة التي تريد.
البنوك الصينية في إفريقيا
عملت الصين الشعبية في العقود الأخيرة، على اتباع سياسة مالية منتظمة، مكّنتها من تعزيز نفوذها في القارة الإفريقية، فقد أقدمت على إقراض العديد من الدول ذات الاقتصادات المتعثّرة، وفرض شروطها عليها بما يخدم مصالح الاقتصاد الصيني.
ضمن هذا التمشي، حاولت الصين الابتعاد عن الشروط الصارمة للغاية التي يفرضها كبار مقرضي الأموال التقليديين في هذا العالم، وهم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، حتى تفتكّ السوق الإفريقية منهم، وهو ما حصل بالفعل في السنوات الأخيرة.
من الآليات التي اعتمدها التنين الصيني، توسيع الاستثمار في البنية التحية في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، حيث قامت بنوك تابعة للحكومة الصينية، بتقديم شروط متساهلة للقروض، وفترات سماح أطول من مؤسسات اقتصادية أخرى، وهو ما جعل القادة الباحثين عن شرعية سياسية في الدول ذات الجذب الاقتصادي الضعيف والغير قادرة على الوصول إلى التمويل التقليدي، يتوجهون إليها.
تعتبر إثيوبيا الوجهة الأولى للقروض الصينية في إفريقيا نتيجة حاجتها إلى التمويل لإنشاء بنية تحتية مهمة للدفع باقتصادها في غياب المواد الطبيعية
في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وعد الرئيس الصيني هو جينتاو، خلال قمة مع قادة أفريقيا في بكين، بتقديم قروضًا للتنمية الاقتصادية بقيمة 60 مليار دولار على الدول الإفريقية على مدى الأعوام الثلاثة القادمة، وهو نفس المبلغ الذي عرضه في فترة الأعوام الثلاثة السابقة.
وسيشمل التمويل 15 مليارًا “كمساعدة مجانية وقروض بدون فوائد” وخطوط قروض واستثمارات شركات صينية، وضمن الستين المليار دولار الموعودة، قروض بقيمة عشرين مليار دولار وصندوقان مخصصان للتنمية وتمويل واردات السلع الأفريقية تناهز قيمتهما 15 مليار دولار.
كذلك، سيتم تشجيع الشركات الصينية على استثمار “عشرة مليارات دولار على الأقل” في إفريقيا خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. وفي القمة الصينية الأفريقية السابقة في جوهانسبورغ في 2015، كان الرئيس الصيني قد أعلن تخصيص ستين مليار دولار من المساعدات والقروض.
وشكَّلت بنوك الصين الحكومية، أكثر من أربعة أخماس عمليات الإقراض المقدّمة من قبل مؤسسات تمويل التنمية في المنطقة الإفريقية. واستأثرت كلّ من كينيا ونيجيريا، بنحو 40% من حجم الإقراض البالغ 19 بليون دولار، لتمويل مشاريع في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى منذ العام 2014.
إثيوبيا.. سعي لقروض جديدة
تسعى العديد من الدول الأفريقية، إلى الحصول على المزيد من القروض الصينية الجديدة. منها إثيوبيا التي تأمل بالحصول على مبالغ هائلة من القروض وخطوط ائتمان جديدة لتمويل خط أديس أبابا – جيبوتي الذي تم افتتاحه مؤخرًا.
ومنذ سنة 2000، تلقت إثيوبيا أكثر من 12 مليار دولار في شكل قروض من البنوك الصينية. وفي سبتمبر/أيلول 2018، تمكّن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد من تمديد فترة سداد قروض السكة الحديد بين أديس أبابا بميناء دورالي في جيبوتي من 10 إلى 30 عامًا.
تقدّم الصين شروط ميسرة للاقتراض
تصل نسبة الديون في إثيوبيا إلى 59% من إجمالي الناتج المحلي، ويعتبر هذا البلد الإفريقي الوجهة الأولى للقروض الصينية في إفريقيا، فبكين هي دائن رئيسي لأديس أبابا، ويرجع ذلك إلى حاجة البلاد إلى التمويل لإنشاء بنية تحتية مهمة للدفع باقتصادها في غياب المواد الطبيعية.
وقد قامت الشركات الصينية ببناء أكثر من ثلثي الطرق في إثيوبيا، كما يعدّ مشروع السكة الحديدية الذي يربط العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بميناء دورالي في جيبوتي، واحدًا من أهم مشاريع الصين في ثاني أكبر دولة مأهولة بالسكان في أفريقيا، وقد انتهت أعماله في يناير/كانون الثاني 2017 بكلفة 4 مليار دولار، منحت منها الصين إثيوبيا 2.49 مليار دولار .
وافتتحت أديس أبابا عام 2015، سكك حديد المترو الذي استفاد منه ملايين الركاب، بفضل قرض صيني بقيمة 400 مليون دولار، كما أصبحت إثيوبيا شريكاً رئيسياً في مبادرة الحزام والطريق الصينية بفضل هذه القروض.
كينيا تسعى لجدولة قروضها للحصول على أخرى
كينيا أيضًا لا تقل عن إثيوبيا، فخلال الخمس سنوات التي تلث عام 2010، قدمت بكين 6.3 مليارات دولار كقروض لنيروبي، ما جعل كينيا أكبر دائن، وتمثّل 57٪ من إجمالي الدين الخارجي البالغ 4.51 مليارات دولار في تلك الفترة. وينتظر أن يذهب الرئيس الكيني أوهورو كينياتا إلى الصين في الفترة القادمة، لإعادة التفاوض على ديون بلاده المذهلة، وبحث سبل الحصول على قرض آخر.
واضطرت كينيا لرهن أكبر وأهم مرفأ بها “ميناء مومباسا” للحكومة الصينية، وذلك بسبب قروضها المتراكمة، مما يضع كينيا ضمن الدول الأكثر عرضة لفقدان الأصول الاستراتيجية لصالح بكين. وتخشى كينيا من مخاطر تهدد هذا الميناء إذا ما تخلفت عن سداد قرض بقيمة 227 مليار شلن كيني (حوالي 2.3 مليار دولار) إلى بنك التصدير والاستيراد الصيني.
وكان القرض قد أبرم في البداية من قبل شركة السكك الحديدية الكينية للمساعدة في بناء السكك الحديدية القياسية مومباسا-نيروبي، والذي دخل الخدمة العام الماضي بشكل كامل، وذلك مقابل استخدام إيرادات هيئة الموانئ الكينية كضمان للدين الحكومي.
يقدر عدد الشركات الصينية أو فروعها في إفريقيا بأكثر من 2000 شركة كلها نشطة في مجال الزراعة والتعدين والبناء والتعمير وقطاعي التجارة والاستثمار ومعالجة منتجات الموارد والتصنيع والدعم اللوجستي التجاري
منذ دخول الصين، استبدلت العاصمة نيروبي ملامحها الإنجليزية ذات الألوان التراثية في المباني إلى الملامح الصينية ذات الألوان الحديثة، فقد عملت الصين على بناء الكثير من مشاريع البنية التحتية والجسور والطرق، عن طريق شركة تابعة لشركة الصين للاتصالات السلكية واللاسلكية المملوكة للدولة.
جيبوتي.. تحت السيطرة الكاملة
بين عامي 2017 و2016، أقرضت البنوك الصينية جيبوتي أكثر من 1.4 مليار دولار، أي أكثر من 75% من ناتجها المحلي الإجمالي، كما مولت عدداً من مشروعات البنية التحتية، بالإضافة إلى خط السكك الحديدية، يتوجه من جيبوتي إلى أديس أبابا عاصمة إثيوبيا.
إلى جانب ذلك، أنشأت الصين منطقة التجارة الحرة الجديدة في ميناء دوراليه والعديد من المشاريع الأخرى عبر قروض ميسرة. ونتيجة هذه القروض المستحقة لبنك “إكسيم” الصيني، قفز الدين العام الخارجي من 50% إلى 85% من إجمالي الناتج المحلي في غضون عامين، وفقًا لصندوق النقد الدولي.
مصر.. بحث عن تمويلًا جديدة
الغزو الصيني وصل مصر كذلك، فبحسب تقارير إعلامية يسعى البنك المركزي المصري للحصول على قروض تقترب قيمتها من مليار دولار من بنك التنمية الصيني. وسبق أن كشف البنك الصيني أن حجم القروض التي وفرها المصرف منذ بدء عمله في مصر إلى الآن بلغ 4 مليارات دولار، منها 2 مليار منها لصالح البنك المركزي، والباقي لصالح بنوك محلية.
ووقع البنك الصيني مع البنك المركز المصري في شهر سبتمبر/أيلول 2018، اتفاقية لإتاحة 7 مليارات يوان صيني، في ظل قيام شركات صينية بتنفيذ توسعات في المنطقة الاقتصادية بقناة السويس باستثمارات 2 مليار دولار.
وأشار تقرير صادر عن مؤسسة «بيكر مكنزي» العالمية، أن إجمالي قروض مصر من الصين في مجال الطاقة فقط وصل إلى 890 مليون دولار في شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي. كما كانت هناك قروض متعددة أخرى حيث قامت مصر باقتراض 1.8 مليار دولار في يناير/كانون الثاني عام 2016، لمساندة احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي.
تسعى الصين إلى الحصول على الموارد النفطية والمعدنية التي تمتلكها بعض الدول الإفريقية، كنيجيريا والجزائر والكونغو وغيرها من الدول الإفريقية
كما اقترضت القاهرة من بكين في أواخر نفس العام مرة أخرى حوالي مليار دولار، إسهاماً في تحقيق الشروط المقدمة من صندوق النقد الدولي، لتقديم الشريحة الأولى من قرضه لمصر، ويليها حصول الشركة المصرية للاتصالات على 200 مليون دولار من مؤسسات صينية في 2018، ومؤخراً قرض بقيمة 1.2 مليار دولار لتمويل قطار كهربائي لربط مدينة العاشر من رمضان بالعاصمة الإدارية الجديدة.
السيطرة على القارة الموعودة
هذه القروض الكبرى التي تقدّمها بنسبة فائدة تتراوح بين 10% و15% خلال خمس سنوات (أي ما يتراوح بين 2% إلى 3% سنوياً)، تسعى من خلالها الصين إلى بسط يديها على القارة السمراء وإحكام السيطرة عليها وعلى مدخراتها الطبيعية ومسالكها التجارية البرية والبحرية.
وتسعى الصين للحصول على الموارد النفطية والمعدنية التي تمتلكها بعض الدول الإفريقية، كنيجيريا والجزائر والكونغو وغيرها من الدول الإفريقية. وتمتلك القارة الإفريقية التي ينمو اقتصادها بمعدل 5.8% سنويًا، نحو 124 مليار برميل من احتياطي النفط، وهو ما يشكل ما يقارب 12% من الاحتياطي العالمي.
وتتركز الثروة النفطية في دول نيجيريا والجزائر ومصر وأنجولا وليبيا والسودان وغينيا الاستوائية والكونغو والجابون وجنوب إفريقيا، فيما تبلغ احتياطاتها من الغاز الطبيعي نحو 10% من إجمالي الاحتياطي العالمي، حيث تملك نحو 500 تريليون متر مكعب من احتياطي هذه المادة.
تضاعف عدد الشركات الصينية في إفريقيا
لفرض تواجدها هناك، عزّزت الصين من عدد شركاتها العاملة في إفريقيا، إذ يقدر عدد الشركات الصينية أو فروعها بأكثر من 2000 شركة (كان عددها 700 عام 2005)، كلّها نشطة في مجال الزراعة والتعدين والبناء والتعمير وقطاعي التجارة والاستثمار ومعالجة منتجات الموارد والتصنيع والدعم اللوجستي التجاري، هذا بالإضافة إلى العمال والخبراء الصينيين.
نتيجة ذلك، عرفت التبادلات التجارية بين الطرفين قفزة كبيرة، إذ انتقلت من 12 مليار دولار أمريكي عام 2000 إلى أكثر من 200 مليار في نهاية عام 2012، لتتبوأ الصين بذلك المرتبة الثالثة ضمن الشركاء التجاريين لإفريقيا، بعد الاتحاد الأوروبي (439 مليار دولار)، وأمام الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2012. ووفق البنك الدولي، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا في 2014، نحو 222 مليار دولار، ومن المنتظر أن يناهز الـ400 مليار دولار بحلول عام 2020.