مع نهاية الثمانينات، شهدت الساحة السياسية العالمية ثلاثة أحداث تاريخية اعتبرت نقاط تحوّل، وهي: انهيار المعسكر الشرقي، نهاية الحرب الباردة والموجة الديمقراطية الثالثة. هذه الأحداث ولّدت تزايد الاهتمام بمسألة العلاقة بين السلطة السياسية والجيش، وبدأ الحديث عن العلاقات المدنية العسكرية، حينها كان يجب التفكير في المصطلح نفسه الذي يتجاوز مجرد فكرة “العسكر والسلطة المدنية”.
بداية، لا يقتصر مفهوم العسكر فقط على الجيش ولكنه يمتد ليشمل كل المؤسسات التي تعمل لصالحه، مثل أجهزة المخابرات والأمن الداخلي وأجهزة الرقابة والمباحث، أما مفهوم المدينة أو المدنية فهو يعني كل مكونات المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية. ووفقاً لما ذكره الفيلسوف السياسي الأميركي صامويل هنتنجتون فإن الدولة المدنية هي الأصل. قائلاً إن وظيفة الجيش محددة ودقيقة وهي تتمثل في إدارة العنف بالمجتمع، الأمر الذي يتطلب منه أن يكون على استعداد دائم لحماية أمن البلاد. وعليه، يجب على الجيش أن يظل بعيداً عن الحياة السياسية، وهو الأمر الذي أكده أيضًا هارولد ترينكوناس الذي وضع نظريته السياسية في الانفصال؛ وتقوم هذه النظرية على فرضية أساسية مفادها أن المؤسسة العسكرية يجب أن تظل منفصلة أيديولوجيًا وماديًا عن المؤسسات السياسية بالدولة.
تجاوزت أوروبا فكرة تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية وأضحت خالية تماماً من الانقلابات العسكرية، فالجيش في الدول الديمقراطية هو مؤسسة سيادية كالبرلمان والقضاء هدفه في النهاية حماية أركان الدولة الديمقراطية وحفظ كيان الدولة من الأخطار الخارجية، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على دول العالم الثالث التي لا يزال أغلبها يرزح تحت وطأة حكم العسكر، وعلى الرغم من ذلك نجحت بعض الدول في إقصاء الحكم العسكري ومنع تدخله في الحياة السياسية فكيف استطاعت فعل ذلك؟
تركيا.. إنهاء تاريخ طويل من الانقلابات العسكرية
تعتبر العلاقة بين تركيا والمؤسسة العسكرية علاقة بالغة التعقيد؛ إذ أن تأسيس الجمهورية التركية الحديثة نفسها جاء على يد العسكر وذلك بعد سقوط الخلافة العثمانية، ومنذ تأسيس الجيش التركي على يد كمال الدين أتاتورك وهو يقود انقلابات على الحكومات المدنية. كان أولها منذ قرابة الستين عامًا، تحديداً في 27 مايو/أيار 1960، حينها نفّذ الانقلاب على حكومة رئيس الوزراء عدنان مندريس، إذ تحرك الجيش التركي وسيطر على الحكم حينها 38 ضابطاً برئاسة الجنرال جمال جورسيل، وتم إعلان الأحكام العرفية وحاصرت الدبابات مبنى البرلمان وتم إيقاف نشاط الحزب الديمقراطي واعتقل رئيس الوزراء مندريس وأرسل إلى السجن قبل أن يحكم عليه بالإعدام.
بعد إعدام مندريس شهدت تركيا فترة مضطربة ساد خلالها الركود الاقتصادي والاضطرابات السياسية والأمنية؛ إذ انتشرت الإضرابات العمالية وتم تشكيل حركات طلابية يسارية بعضها كان مسلحًا، وهو ما عارضته الجماعات الدينية واليمينة القومية، حينها قام هذا التيار اليساري بتنفيذ هجمات تفجيرية وعمليات اختطاف وسرقة، ولم تستطع حكومة سليمان ديمريل، رئيس حزب العدالة الذي وصل إلى الحكم عام 1965 وأعيد انتخابه عام 1969، الصمود في وجه اضطربات البلاد، وعليه أرسل الجيش مذكرة عسكرية إلى ديمريل مطالبًا إيام بالتنحي، فيما عُرف باسم “انقلاب المذكرة” عام 1971.
وخلال عام 1980 قاد الجنرال كنعان إيفرين انقلاباً عسكرياً جديداً، وقام مجددًا بتعليق العمل بالدستور وإصدار الأحكام العرفية وحلّ الأحزاب السياسية، ولكن فاتورة انقلاب 1980 كانت باهظة الثمن إذ كانت محصلتها؛ أحكام بالإعدام على 517 شخصًا و650 ألف معتقل، وفصل 30 ألف من العمال وتجريد 14 ألف شخص من الجنسية التركية وترحيل 30 ألف آخرين ومنع عرض أكثر من 900 فيلم.
وفي عام 1993 وصل حزب الرفاه إلى السلطة بقيادة الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان وهو الأمر الذي أغضب العلمانيين ودعاهم إلى تحريك الأذرع العسكرية ضد رئيس الوزراء ذو التوجه الإسلامي، وفي 28 فبراير 1997 اجتمع مجلس الأمن القومي مقرراً وقف تجربة أربكان عبر انقلاب أبيض لا تتدخل فيه الدبابات العسكرية، وبالفعل تم حظر حزب الرفاه وأودع أربكان السجن مع مجموعة من قادة حزبه منهم الرئيس التركي الحالي، رجب طيب أردوغان.
عدلت حكومة العدالة والتنمية القانون العسكري ليمنع محاكمة العسكريين مدنيًا وألغى حصانة المؤسسة العسكرية، وفي أثناء تنفيذه لتلك الأجندة وضعت الحكومة أمام الأتراك حلمًا جماعيًا تجسد في إعلان رغبة تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي فخلق بذلك قاعدة شعبية جماهيرية أيدت قراراته بتحجيم العسكريين للتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي
حين وصل أردوغان إلى سدة السلطة كانت لديه أجندة سياسية واقتصادية طموحة تصالح من خلالها بذكاء مع علمانية الدولة التركية، ومن هنا اتخذ أردوغان عدة قرارات ساهمت في إقصاء العسكريين عن السلطة السياسية هذه القرارات هي؛ تقليص نفوذ مجلس الأمن القومي عبر تعيين رئيس مدني له وتقليص عدد اجتماعاته إلى مرة كل شهرين، كما وُضعت ميزانية المؤسسة العسكرية تحت رقابة البرلمان وقلّصت مخصصات الجيش لتصبح أقل من ميزانية التعليم للمرة الأولى في تاريخ تركيا.
بالإضافة لذلك، عدّلت حكومة العدالة والتنمية القانون العسكري ليمنع محاكمة العسكريين مدنيًا وألغيت كذلك حصانة المؤسسة العسكرية، وفي أثناء تنفيذه لتلك الأجندة وضعت الحكومة أمام الأتراك حلمًا جماعيًا تجسّد في إعلان رغبة تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي، فخلق بذلك قاعدة شعبية جماهيرية أيدت قراراته بتحجيم العسكريين للتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي، يُذكر أن أردوغان تعرض لمحاولة انقلاب فاشلة خلال عام 2016 ولكن عوامل كثيرة، سياسية واجتماعية وإقليمية، ساعدت في السيطرة على زمام الأمور مجدداً وإفشال محاولة انقلاب جديدة.
الأرجنتين.. الوصول للديمقراطية للمرة الأولى بعد عهد طويل من الحكم العسكري
منذ بداية ثلاثينات القرن العشرين وحتى النصف الأول من السبعينات توالى على الأرجنتين أكثر من عشرة انقلابات عسكرية، كان من ضمنها الإطاحة بحكم الرئيس العسكري “خوان بيرون” في انقلاب قام به الجيش والأسطول في سبتمبر 1955، ورغم أن بيرون كان حاكمًا دكتاتوريًا أذاق شعبه الذل والقمع والرقابة المتشددة عبر وقف إصدار الصحف والمجلات وسجن وتعذيب الكثير من الشخصيات المعارضة، إلا أن شعب الأرجنتين كان مفتوناً به أو هكذا بدا.
وبعد ثمانية عشر عاماً من الانقلاب على بيرون، وتحديداً في أكتوبر 1973، عاد بيرون من منفاه في إسبانيا إلى الأرجنتين ليعاد انتخابه رئيساً بأغلبية كبيرة، وتُنتخب زوجته الثالثة وراقصة الملاهي الليلة السابقة “إيزابيل بيرون” نائباً له، ولكن في عام 1974 اعتلت صحة بيرون وتصدرت إيزابيل المشهد السياسي، وبعد وفاته صارت إيزابيل بيرون رئيسة الأرجنتين دون أي معارضة تُذكر، ورغم أن الأرجنتينيين توقعوا انقلاباً عسكرياً بعد وصول إيزابيل للحكم وشاركهم في توقعهم صحفً وأحزاب وبرامج التلفزيون، إلا أن إيزابيل كانت الوحيدة في الأرجنتين التي لم تكن تصدق أن الجيش سينقلب عليها!
وفي صباح 24 مارس/آذار من عام 1976 قام العسكر بقيادة الجنرال خورخي رافائيل فيديلا بالانقلاب المنتظر على حكم إيزابيل، وتميزت دكتاتورية فيديلا بدرجة عالية من الوحشية حيث نفّذ جنوده عمليات خطف لأكثر من 500 طفل من مواليد المعارضة ومنحوا بالتبني إلى مسئولين مقربين من النظام.
وبعد سنوات من الحرب القذرة من قبل فيديلا نشأ تنظيم ثوري مسلح في الأرجنتين سمي “المونتونيروس”، وفي يوم 13 ديسمبر 1976 وقعت مذبحة “مارجريتا بيلين” حيث قام العسكر بقتل 22 من رجال ونساء التنظيم الثوري. لكن بعد 5 سنوات من الكفاح والمعارضة حكم على فيديلا مع ثمانية عسكريين آخرين بالسجن مدى الحياة ليموت وحيداً في زنزاته عام 2013.
قام ألفونسين أيضاً بإعادة هيكلة الجيش عبر عدالة انتقالية صارمة تضمنت خفض ميزانية المؤسسة العسكرية واقتطاع 25% من مرتبات الضباط، وخفض عدد الجنود بنسبة 45% في أقل من أربعة أعوام، وعلى الرغم من أن التوترات بين العسكريين والمدنيين لم تتوقف بعد انتهاء مدة حكم ألفونسين في عام 1989 إلا أن قاعدة الحكم المدني كانت قد ترسخت بالفعل
وبعد 25 عاماً من سيطرة العسكريين على الحكم، دخلت الأرجنتين مرحلة جديدة للمرة الأولى في تاريخها الحديث، وبدأ الرئيس المنتخب ديمقراطياً “راؤول ألفونسين” فترة حكمه بعدة إجراءات ضمنت انتقال الأرجنتين إلى الديمقراطية وهذه الإجراءات كانت: إعادة ترتيب قطاع الأمن من شرطة وقوات مسلحة واستخبارات وإقالة أكثر من 70 جنرال مؤيد للحكم العسكري، وتعيين وزير دفاع مدني للمرة الأولى، ووضع جهاز الاستخبارات تحت الإدارة المدنية بعد أن كان تابعاً لمؤسسة الجيش.
قام ألفونسين أيضاً بإعادة هيكلة الجيش عبر آليات عدالة انتقالية صارمة تضمنت خفض ميزانية المؤسسة العسكرية واقتطاع 25% من مرتبات الضباط وخفض عدد الجنود بنسبة 45% في أقل من أربعة أعوام، وعلى الرغم من أن التوترات بين العسكريين والمدنيين لم تتوقف بعد انتهاء مدة حكم ألفونسين في عام 1989 إلا أن قاعدة الحكم المدني كانت قد ترسخت بالفعل.
نيجيريا ومسار التحول نحو الديمقراطية
شهدت نيجيريا ثمانية انقلابات عسكرية 1966 و1993؛ حيث بدأ الانقلاب العسكري الأول في يناير/كانون الثاني 1966 أي بعد حوالي ست سنوات من الاستقلال عن بريطانيا، وقد قاد هذا الانقلاب اللواء جونسون أغويي إيرونسي الذي أمر بقتل رئيس الوزراء رئيس الوزراء أبو بكر باليوا وذلك في ظل صراعات عرقية تحولت بعد ذلك إلى حرب أهلية في عام 1967 بسبب محاولات ولايات شرق البلاد الانفصال.
نجحت نيجيريا في إقصاء المؤسسة العسكرية من خلال عدة عوامل شملت تقوية منظمات المجتمع المدني التي تكرس وجودها من أجل تعزيز قيم الديمقراطية، وتقليص ميزانية المؤسسة العسكرية إلى 40% وإحالة أكثر من مائة وخمسين من كبار جنرالات المؤسسة العسكرية إلى التقاعد الإجباري المبكر منعاً لمحاولة أي تغيير سياسي
لم يستقر اللواء إيرونسي في سدة الحكم سوى سبعة أشهر إذ لقي مصرعه في انقلاب مضاد بقيادة اللواء ياكوبو غون الذي ظل يحكم نيجيريا حتى أزاحه عن الحكم مورتالا محمد عام 1975 في انقلاب عسكري ثالث، وقد لقي مورتالا مصرعه إثر محاولة انقلابية فاشلة في عام 1967 بعدها حل محله نائبه قائد الأركان أولسيغون أوباسانجو الذي سلم سلطته السياسية طواعية إلى أول رئيس منتخب في نيجيريا الحاجي شيحو شغاري، وتجددت الانقلابات العسكرية مرة أخرى بنيجيريا في ديسمبر/كانون الأول 1983 وذلك باستيلاء اللواء محمد بخاري على السلطة في انقلاب أبيض تلاه انقلاب أبيض آخر بعده بعامين نفذه إبراهيم بابنجيدا، وفي عام 1993 حدث في نيجريا آخر انقلاب عسكري بقيادة الجنرال ساني أباشا.
نجحت نيجيريا في إقصاء المؤسسة العسكرية من خلال عدة عوامل شملت تقوية منظمات المجتمع المدني التي تكرّس وجودها من أجل تعزيز قيم الديمقراطية، وتقليص ميزانية المؤسسة العسكرية إلى 40% وإحالة أكثر من مائة وخمسين من كبار جنرالات المؤسسة العسكرية إلى التقاعد الإجباري المبكر منعاً لمحاولة أي تغيير سياسي.
بالفعل نجحت نيجيريا في إقصاء المؤسسة العسكرية عن الحكم وذلك بقيادة الرئيس أوليسغون أوباسانجون، مع ذلك فقد بقي أمامها عدد كبير من التحديات، مثل النعرات الطائفية والعرقية والدينية التي كانت تتصاعد يوماً بعد يوم مؤثرة بقوة على الاستقرار السياسي والاقتصادي، مما دفع الولايات المتحدة إلى مساعدة نيجيريا لأنها لا تريد بأي حال من الأحوال أن يصبح النصف السفلي من قارة أفريقيا مرتعًا للتطرف ومعقلاً للجماعات المسلّحة.