قبل 29 نوفمبر/تشرين الأول الماضي، كان العالم كله يظن أن الأزمة السورية أصبحت ملفًا باردًا، وأن الجماهير الحالمة بالحرية والكرامة، والتي ملأت ساحات المدن والقرى السورية منذ 2011، بلغ بها اليأس مبلغه، وأن النظام الذي بدأت الدعوات العربية والأوروبية لإعادة التطبيع معه قد انتصر على صوت الشعب ومطالبه، وأن الأمور تتجه إلى التفكير في آليات التعامل مع ما تبقى من الأراضي الخارجة عن سيطرته.
لكم في هذه اللحظة حصلت المفاجأة، معركة شدهت الأبصار، وجعلت العالم يقف على قدم واحدة يترقب.. فما الذي حصل؟ ولماذا حصل؟
الخريطة قبل وبعد المعركة
لأكثر من 4 سنوات بقيت خرائط السيطرة ثابتة في سوريا، دون معارك بين أطراف الصراع، فالمناطق التي بقيت من محافظة إدلب بعد خسارة الخط الممتد من خان شيخون إلى سراقب في معارك 2020، بالإضافة إلى أجزاء من ريف حلب الغربي بقيت تحت سيطرة هيئة تحرير الشام بقيادة أبي محمد الجولاني.
وما تبقى من ريف حلب الشمالي، بعد خسارة المناطق حتى بلدتي نبل والزهراء لصالح قوات النظام، ومناطق منغ وتل رفعت لصالح قوات سوريا الديمقراطية، بقيت تحت سيطرة الجيش الوطني السوري.
أما المساحة الممتدة في ريف حلب الشرقي بقيت تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، في حين بقي كل ما تبقى من حلب تحت سيطرة النظام السوري.
في 29 نوفمبر/تشرين الثاني تغيرت خرائط السيطرة، بعد إطلاق عملية “ردع العدوان” من قبل غرفة عمليات “إدارة العمليات العسكرية” التي تضم هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، وتمكنت خلالها الفصائل من السيطرة على كامل مساحة محافظة إدلب وعدد من البلدات في سهل الغاب وريف حماة الشمالي، في حين تجري معارك عنيفة على مشارف مدينة حماة، ،بعدما حشد النظام قواته وميليشيات محلية سورية وميليشيات إيرانية على أطراف المدينة.
كما سيطرت الفصائل على كامل ريف حلب الغربي، وأجزاء واسعة من ريف حلب الجنوبي، بالإضافة إلى مدينة حلب بالكامل بعد خروج قوات سوريا الديمقراطية من حيي الشيخ مقصود والأشرفية بعد اتفاق مع فصائل المعارضة. كما أتبعتها فصائل الجيش الوطني في شمال حلب بمعركة “فجر الحرية” التي سيطرت فيها على كامل الريف الشمالي وخاصة مدينة تل رفعت الاستراتيجية، إلى جانب أجزاء من الريف الشرقي.
أعداد بشرية هائلة في مساحة ضيقة
بالعودة قليلًا إلى الوراء لفهم الوضع الإنساني في المنطقة التي انطلقت منها عملية “ردع العدوان“، حيث استقبلت محافظة إدلب عددًا كبيرًا من النازحين منذ بدء العمليات العسكرية في سوريا عمومًا في عام 2012، وهم منتشرون بالغالب في مخيمات النزوح المنتشرة على الخط الحدودي بين سوريا وتركيا.
كما كانت إدلب وجهة المناطق السورية التي تعرضت للتهجير القسري منذ تهجير حمص عام 2012، مرورًا بتهجير داريا وحلب عام 2016، وصولًا إلى تهجير الغوطة الشرقية وجنوب دمشق عام 2018، بالإضافة إلى أهالي مناطق كفرزيتا واللطامنة وقلعة المضيق في ريف حماة الشمالي، وخان شيخون ومعرة النعمان وسراقب في ريف إدلب الجنوبي والتي سقطت بيد قوات النظام والميليشيات الإيرانية المدعومين بغطاء جوي روسي خلال معارك عام 2020.
وبناء على ما سبق، فإن المساحة المتبقية من المنطقة التي لا تمتلك موارد اقتصادية أصلًا، أصبحت مكتظة بأعداد بشرية هائلة أكبر من قدرتها على الاستيعاب.
لكن الظروف التي كانت سائدة في المنطقة والأوضاع الاقتصادية واستمرار القصف من قبل النظام السوري وميليشياته، ظهرت بوادر “المأسسة” في أغسطس/آب 2017 عندما أطلق مجموعة من الأكاديميين مبادرة تحت اسم “الإدارة الذاتية في المناطق المحررة” بهدف تأسيس حكومة مدنية تدير المنطقة الخارجة عن سيطرة النظام.
وأنتجت المبادرة “المؤتمر السوري العام نحو إدارة مدنية في المناطق المحررة”، وتأسست على إثره حكومة الإنقاذ التي كانت تتلقى دعمها من هيئة تحرير الشام التي سلمت جهاز الشرطة لديها إلى الحكومة، واكتفت بمهام الإشراف عليها.
عملت حكومة الإنقاذ على تمكين حكمها مجتمعيًا من خلال إنشاء المشروعات الاستراتيجية مثل المدينة الصناعية وتنظيم الاتصالات والمياه، وإصلاح بعض الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي وتقديم القروض الزراعية، وتنظيم العسكر عبر ألوية، وإنشاء كلية عسكرية، وضبط فرق العمل ومنظمات المجتمع المدني واستخراج التراخيص لمزاولة العمل. في محاولة لإثبات نفسها كجهة حكومية قادرة على إدارة المنطقة، ليس على المستوى الدولي فقط وإنما المحلي أيضًا.
وإن كان قد يبدو أن هيئة تحرير الشام امتداد للتنظيم الجهادي جبهة النصرة باعتبار أن قائد الكيانين هو أبو محمد الجولاني، إلا أن ذلك ليس صحيحًا تمامًا، فقد مرّ التنظيم بهزات عنيفة أدت إلى تحول كبير في خطابه، وانتقاله من الخطاب الجهادي إلى الخطاب الثوري، ومن كونه تنظيمًا عسكريًا جهاديًا عابرًا للحدود، إلى تنظيم محلي بخطاب معتدل، ابتعد عن شؤون الناس اليومية وشكل حياتهم، إذ أحالها إلى حكومة الإنقاذ، والتفت إلى تنظيم هيكليته عسكريًا، وتطوير مجموعاته على أكثر من صعيد، بين التصنيع العسكري والطائرات المسيرة، وإعداد كتائب النخبة من المقاتلين، على غرار العصائب الحمراء.
لماذا “ردع العدوان”؟
لحظة إطلاق المعركة، تحت مسمى “ردع العدوان” قد يبدو للقارئ أنها معركة محدودة جغرافيًا وزمنيًا، فالاسم يوحي بأنها تهدف إلى رسم خطوط تماس جديدة مع قوات النظام والميليشيات الرديفة، وتأمين عمق المنطقة من التهديدات، وتوسيع مساحة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وأكد ذلك فيديو الإعلان عن المعركة للمتحدث باسم غرفة العمليات المقدم حسن عبد الغني الذي أوضح أن هدف المعركة “إبعاد نيران العدو عن أهلنا”.
لكن الحقيقة كانت أبعد من توسيع خطوط التماس إلى سيطرة واسعة على مناطق ممتدة، بلغت ضعف المساحة التي كانت قبلها، حيث تمت السيطرة عليها خلال أيام قليلة وسط انهيار معنوي كبير لدى قوات النظام والميليشيات التي تدعمها.
وظهر أن الهدف منها ليس فقط تأمين المدنيين في مناطق السيطرة، وإنما إعادة المهجرين إلى مدنهم وقراهم، والأهم من ذلك، تقديم إثبات أن القدرة على تقديم نموذج إدارة فريد في المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام موجود، ويمكن تطبيقه في مساحة أوسع من إدلب، وفي مدينة معقدة وصعبة مثل حلب، فيها تعدد طائفي وإثني وعرقي، وثبت وجود هذه القدرة، بعدم حدوث تجاوزات في المدينة، ولا اعتداءات على الممتلكات والمؤسسات الحكومية، بل على العكس، حمل الخطاب الرسمي للمعركة تطمينات لكل المكونات، وشعارات مثل حفظ الحقوق والعيش المشترك.
قرار داخلي أم خارجي؟
غالبًا ما يتم تداول تحليلات من قبيل أن المعركة ليست قرارًا داخليًا، وأنه من بعد التدخل الدولي المتشابك في سوريا، وتحول القرار السوري إلى دول إيران وروسيا من طرف النظام، والولايات المتحدة وأمريكا من طرف الثورة، لم يعد هناك قرار سوري، ويذهب أصحاب هذه الأقوال إلى أن المعركة جاءت بقرار ودعم تركي، وبضوء أخضر أمريكي، في تجاهل كامل للفواعل المحلية، وقدرتها على التغيير.
هذه الفواعل ذاتها التي هي امتداد للفواعل التي ضعضعت أركان الدولة السورية منذ أول هتاف في درعا في مارس/آذار 2011، وصولًا إلى السيطرة على ما يزيد على 70% من مساحة سوريا في 2013.
جاء قرار المعركة في لحظة ملائمة جدًا، وهو قرار درس على مدى وقت طويل، فالولايات المتحدة الآن في مرحلة انتقالية بين إدارتين، والإدارة الجديدة ستستلم الملفات بوضعها الراهن وتتعامل معها كأمر واقع.
أما تركيا فقد استمرت لأكثر من عامين تحاول التقارب مع النظام لإعادة العلاقات، ولولا تعنت النظام لربما كانت قد أعادت العلاقات، وبالتالي فإنها تتعامل مع المعركة بالترقب لما سيحصل، فإن حققت مكاسب، فهي مكاسب لأوراقها التفاوضية مع النظام ومن خلفه الروس والإيرانيين، وإن لم تحقق، فتستمر بخطابها التقاربي ذاته.
وبالنسبة لروسيا، فهي منشغلة بشكل كبير بمعاركها مع أوكرانيا، التي احتدمت مؤخرًا بشكل كبير، وكانت قد خفضت وجودها العسكري في سوريا بشكل كبير، بحسب تقارير.
أما إيران، فهناك اتفاق دولي، ربما حتى الأسد يريده، على ضرورة التخلص من وجودها المهيمن في سوريا، وهذا كان شرط بعض دول الخليج على الأسد للبدء بدعم عملية إعادة الإعمار، كما أن ذراعها الأقوى في المنطقة، “حزب الله” اللبناني، قد تعرض لضربة قوية في جنوب لبنان قام على إثرها بتوقيع اتفاق استسلام مع “إسرائيل”.
كان هذا ظرفًا استثنائيًا لبدء المعركة، فالنظام خسر أهم داعميه وإن كان ليس بشكل كليّ، والقوى الأخرى الفاعلة في الملف السوري تنتظر النتائج لتقرر خطوتها التالية، وتقدم مقاتلو “ردع العدوان” مستغلين هذا الظرف، أمام انهيار قوات النظام.
أبناء المدن والقرى يقاتلون من هجرهم منها ومنعهم من العودة إليها في مقابل إحلال الميليشيات الأجنبية الطائفية مكانهم، هكذا كانت المعركة، وحقق فيها أبناء الأرض انتصارًا، سيكون نقطة مفصلية في السياق السوري لأنه حرّك المياه الراكدة، وقلب الموازين، ودفع الجميع لإعادة حساباته.