450 صفحة تقريبًا ضمن نتائج تحقيق خارج عن المألوف استغرق عامين تقريبًا، إنه الوثيقة التي كان خصوم ترامب يأملون أن تقتله سياسيًا، لكن ذلك لم يحدث بعد، فيما بدا الرئيس ترامب سعيدًا بتقرير المدعي الخاص مولر مؤكدًا براءته من تهمة التواطؤ مع روسيا، يجد الديمقراطيون في التقرير أدلة مقلقة على “أفعال لا أخلاقية” قام بها ترامب منها السعي لطرد العاملين في التحقيق.
“لا تواطؤ ولا عرقلة“
“أنا أعيش يومًا جيدًا، لقد أُعلن أنه لا تواطؤ ولا أي إعاقة للعدالة، لم يكن ولن يكون”، يقول ترامب ذلك، ثم يظهر على “تويتر” في صورة تُظهره من الخلف مرتديًا معطفه الأسود والضباب يحيط به، ويكتب تغريدة متباهية ومستوحاة من مسلسل “صراع العروش” -مع إطلاق الموسم النهائي منه- تردد نفس الرسالة الموجهة “للكارهين ومتطرفي اليسار الديمقراطي “.
قال بار إن مولر “لم يعثر على أي مؤامرة لاختراق القانون الأمريكي فيما يخص الأشخاص المرتبطين بروسيا وأي شخص مرتبط بحملة ترامب”
وسبق لترامب أن استخدم صورًا من المسلسل الشهير لحشد الدعم لمشروع بناء جدار حدودي مع المكسيك والتلويح بإعادة فرض عقوبات على إيران، والآن يعود ترامب مجددًا الى استلهام مشهدية المسلسل لإعلان انتصاره حتى قبل الكشف عن التقرير.
وقبيل صدور النسخة النهائية للتقرير وصف الرئيس ترامب التحقيق بأنه “أكبر خدعة سياسية على الإطلاق”، واتهم -في سلسلة تغريدات نشرها على تويتر صباح يوم الخميس- خصومه من الحزب الديمقراطي، ومن بينهم منافسته هيلاري كلينتون، بارتكاب جرائم غير محددة.
يدعمه في ذلك وزير العدل وليام بار الذي عقد مؤتمرًا صحفيًا استباقيًا قبل تسليم التقرير للكونغرس ونشره، وأعلن فيه أن التقرير النهائي للمدعي العام روبرت مولر أظهر عدم وجود أي تواطؤ أو تنسيق بين ترامب وأعضاء حملته الانتخابية من جهة والحكومة الروسية من جهة أخرى وذلك خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 2016.
وقال بار إن مولر “لم يعثر على أي مؤامرة لاختراق القانون الأمريكي فيما يخص الأشخاص المرتبطين بروسيا وأي شخص مرتبط بحملة ترامب، هذا هو القول الفصل”، مشيرًا إلى أن الرئيس ترامب تعاون مع لجنة تحقيق مولر ولم يقم بأي جُرم لعرقلة التحقيقات”.
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) April 18, 2019
عقب هذا المؤتمر اتهم الديمقراطيون بار بأنه عقد مؤتمره الصحفي ليؤطر نشر تقرير مولر بطريقة تؤثر على فهم الرأي العام الأمريكي لما جاء فيه، كما اتهموه بتجاوز صلاحياته الدستورية كوزير للعدل ليتحدث باسم ترامب دفاعًا عنه.
الجمهوريون في الكونغرس كان لهم موقف آخر، فزعيم أغلبيتهم في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل رأى فيما قام به بار “عمل مهني ودقيق”، مجددًا دفاعه عن الرئيس ترامب. وقال ماكونيل في بيانه: “إنني ممتن لمواظبة الوزير بار على إصدار ما يمكن نشره من تقرير مولر للكونغرس والشعب الأمريكي المحظوظ بوجود بار الذي عمل على ضمان الشفافية وحماية المعلومات السرية”.
ولم تغب روسيا، المعنية الأبرز، عن الساحة، إذ سارع الكرملين للنفي مجددًا تدخّل موسكو في الانتخابات الأمريكية، كما كتب السيناتور الروسي أليكسي بوشكوف في تغريدة أن “نتائج تحقيق مولر مخزية للولايات المتحدة ونخبتها السياسية”، وأضاف أن هذه النتائج “تؤكد أن كل الاتهامات تم تلفيقها”.
فيما اعتبر السيناتور الروسي كوستانتين كوساتشيف، حسب وكالة “ريا نوفوتسي” للأنباء، أن هذه الخلاصات تتيح لموسكو وواشنطن “الانطلاق من الصفر في مجالات عدة”، كما رأى النائب الروسي ليونيد سلوتسكي أن هذه الخلاصات هي “نوع من إعادة اعتبار سياسية للرئيس الأميركي”. ونقلت وكالة “ريا نوفوتسي” عنه أيضًا أن “من غير المرجّح أن تتمكن هذه الخلاصات من تغيير أي شيء في لحظة في الحوار بين روسيا والولايات المتحدة”.
ما الجديد في التقرير؟
كان مولر قد أنهى في مارس/آذار الماضي 22 شهرًا من التحقيقات التي تخللها توجيه الاتهام إلى 34 شخصية روسية وأمريكية بينهم 6 من المساعدين المقربين من الرئيس ترامب. وعمل كل من فريقي روبرت مولر ووزير العدل الأمريكي معًا خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، لتنقيح المعلومات التي تندرج ضمن المعلومات السرية بحسب القوانين الأمريكية.
يكشف التحقيق أن ترامب اتصل بالمحامي سابق في البيت الأبيض دون ماغان، في يونيو/حزيران 2017 في محاولة لإقالة مولر نظرًا لما قال إنه “تعارض في المصالح”
نُشر التقرير “منقوصًا” يوم الخميس الماضي، إذ تم حجب فقرات منه لحماية أشخاص وتحقيقات أخرى مستمرة بحسب وزير العدل، لكن ما نُشر أفصح عن نقاط كانت جديدة أو أثبت تكنهات وتقارير إعلامية مثل صدمة ترامب عندما عُين مولر في منصبه ومحاولة الرئيس الأمريكي إزاحته من منصبه خشية من نتائح التحقيق.
في تقريره، يتحدث مولر عن سلسلة من الضغوط الشديدة التي مارسها ترامب ومحاولاته تقويض التحقيق حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية خوفًا من أن “ينهي” ذلك رئاسته، بدءًا بإقالة المدير السابق لمكتب التحقيقات الفدرالي “إف بي آي” جيمس كومي الذي كان مكلفًا بالتحقيق، في أيار/مايو 2017، وبعد الاستياء الذي أثارته إقالة كومي، عُين روبرت مولر -الذي كان في الماضي مديرًا لمكتب التحقيقات الفدرالي أيضًا- مدعيًا خاصًا.
ترامب (يمين) ومولر (يسار) ووليام بار (وسط)
ويشير التقرير الذي خلص إليه التحقيق إلى أن ترامب قال “قُضي الأمر” بعد هذا التعيين، وصرَّح حينذاك “إنه أمر رهيب، إنها نهاية رئاستي”، وليحل هذه المشكلة، أمر بإقالة مولر، لكن مستشاريه القانونيين في البيت الأبيض اعترضوا على ذلك، كما ورد في تقرير المدعي الخاص.
يكشف التحقيق أيضًا أن ترامب اتصل بالمحامي سابق في البيت الأبيض دون ماغان، في يونيو/حزيران 2017 في محاولة لإقالة مولر نظرًا لما قال إنه “تعارض في المصالح”، ما دفع ماغان للاستقاله نظرًا لشعوره “أنه محاصر لأنه لا يعتزم اتباع توجيهات الرئيس”، ولم يكن يعرف كيف سيرد على ترامب إذا اتصل به مجددًا، بحسب ما قال ماغان لمولر.
وكتب مولر في تقريره أنه اعتبارًا من تلك اللحظة، بدأ ترامب “يهاجم التحقيق علنًا وحاول التحكم به وبذل جهودًا في السر والعلن لتشجيع الشهود على الامتناع عن التعاون”، لكن المدعي الخاص لم يورد أي توصيات في هذا الشأن.
كما كشف التقرير أيضًا أن المحققين كانوا ينظرون إلى ردود ترامب الكتابية على أسئلتهم على أنها “غير كافية”، ولكنهم قرروا عدم خوض معركة قد تكون مطولة لتوجيه الأسئلة له وجهًا لوجه.
في مساء الخميس، دافع الرئيس ترامب عن نفسه قائلاً في تغريدة: “كان بإمكاني إقالة الجميع، حتى مولر، كنت أملك سلطة إنهاء حملة الاضطهاد هذه، لكنني اخترت ألا أفعل ذلك”.
“Donald Trump was being framed, he fought back. That is not Obstruction.” @JesseBWatters I had the right to end the whole Witch Hunt if I wanted. I could have fired everyone, including Mueller, if I wanted. I chose not to. I had the RIGHT to use Executive Privilege. I didn’t!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) April 18, 2019
مطاردة ترامب
أثار ما كشفه التقرير حول تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ردود فعل متضاربة. فمن جانب، بدا الرئيس ترامب سعيدًا وأكد أنه تمت تبرئته، وكتب الملياردير الجمهوري في تغريدة “كما قلت دائمًا: لا تواطؤ ولا عرقلة لعمل القضاء”، قبل أن يؤكد في تغريدة لاحقة أن التدخل الروسي “لم يغير” نتيجة الاقتراع الرئاسي.
أنصار ترامب يظهرون مثله الثقة بأن القضية انتهت، وهو ما عبرَّت عنه مستشارة البيت الأبيض كايلين كونواي بقولها إن “التقرير واضح في أن البيت الأبيض أو الرئيس وقف في طريق مولر”، وهي نفس اللهجة التي تحدث بها ترامب حينما ظهرت النتائج الأولية للتقرير منذ أسابيع، لكن أمورًا كثيرة حصلت منذ ذلك الحين.
يأمل الديمقراطيون من استدعاء مولر للشهادة أمام الكونغرس في أن يتحول الزخم السياسي الناتج عن نشر التقرير لصالحهم أو على الأقل ألا يتحول ذلك لصالح ترامب
أمَّا المعارضة الديموقراطية، فقد أشارت إلى وجود “أدلة مقلقة” على “أفعال لا أخلاقية” قام بها ترامب في التقرير، ووعدت باستخدام كل صلاحياتها – وخصوصًا هيمنتها على مجلس النواب – لمعرفة المزيد، خاصة بعد أعلن وزير العدل أنه ليس هناك أي دليل على تواطؤ، وبرّر على ما يبدو هجمات الرئيس المتكررة على بعض أعضاء فريق مولر.
كلام يشكك الديمقراطيون به وبصاحبه، وعلى إثره واجه بار انتقادات حادة لكيفية تعامله مع التقرير، وأغضب رد فعله أعضاء بارزين في الحزب الديمقراطي، وأعربوا عن تشككهم في استقلاليته وموضوعيته، وقالوا إنه يحاول أن يخلق رواية معينة، ويحاول أن يعيق وصول الأمريكيين إلى الحقائق والمعلومات في تقرير مولر.
واتهمت المعارضة الديمقراطية على الفور بار بالتصرف “كمحام للرئيس”، وطالب الديموقراطيون الحريصون على الاطلاع على التحقيقات بأكملها، بالحصول على النسخة الكاملة من تقرير مولر، إذ إن النسخة التي نشرت الخميس حجبت فيها معلومات سرية كثيرة.
حتى أن بعض الأصوات في يسار الحزب لوحت مجددًا بإقالة للرئيس ترامب، لكن القادة الديمقراطيون يرفضون “في هذه المرحلة” هذه الفرضية التي تنطوي على مجازفة مع اقتراب حملة الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في 2020، وستبوء بالفشل في غياب أغلبية موصوفة في الكونغرس.
تم حجب فقرات من تقرير مولر
وفي بيان مشترك، رأت الرئيسة الديمقراطية مجلس النواب نانسي بيلوسي ورئيس الأقلية الديموقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر أن النسخة التي نُشرت من تقرير مولر تقدم “صورة مقلقة لرئيس نسج شبكة من الخداع والأكاذيب والتصرفات غير السليمة وتحرك كما لو أن القانون لا يطبق عليه”، وأضافا أنه “من الضروري وضع بقية التقرير والوثائق الملحقة به في تصرف الكونغرس”.
كما طلبوا من المدعي الخاص المثول أمام الكونغرس للإدلاء بإفادة في موعد أقصاه 23 أيار/مايو القادم، ويأمل الديمقراطيون من استدعاء مولر للشهادة أمام الكونغرس في أن يتحول الزخم السياسي الناتج عن نشر التقرير لصالحهم أو على الأقل ألا يتحول ذلك لصالح ترامب.
جولات جديدة
تحقيق المدعي الأمريكي يضع حدًا لمسلسل سياسي قضائي طويل تسبب في إثارة الجدل داخل البيت الأبيض وخارجه، بالسنتين الأولى والثانية من ولاية ترامب، لكن خصوم ترامب يرون في صدور التقرير بداية لجولات جديدة من بحثهم عن حقائق قانونية تدين ساكن البيت الأبيض.
حتى النسخة غير الكاملة من تقرير مولر تشير إلى أدلة مقلقة حول أن الرئيس ترامب قام بإعاقة العدالة
في البداية يريد الديمقراطيون بسلاح غالبيتهم في مجلس النواب كشف المساحات القاتمة في التقرير، كما يريدون التقرير كاملاً وكل الملحقات والأدلة التي وصل إليها واستخدمها مولر، وكل تلك أشياء حجبها وزير عدل ترامب وليام بار الذي يتهمه الديمقراطيون بـ”الانحياز والتسييس والتضليل”.
خصوم ترامب مقتنعون بأن الرئيس أعاق العدالة، وهي التهمة التي لم يبرِّأه التقرير منها، وإن لم يدنه، ففي أول تعليق للمحقق روبرت مولر، قائد ملف التحقيق في التدخل الروسي، قال إنه “غير قادر” على تبرئة ترامب من تهمة عرقلة التحقيق بشأن تواطؤ حملته الانتخابية مع روسيا.
وبحسب ما كشف التحقيق، أملى ترامب ردًا مضللاً بشأن فحوى الاجتماع في يونيو/حزيران 2016 بين وسطاء روس ومسؤولين في حملة ترامب في “ترامب تاور”، وهو ما نفاه في وقت سابق محامي ترامب والمتحدثة باسم البيت الأبيض سارا ساندرز.
ولم ينتظر الديمقراطيون طويلاً فنفذوا تهديدات طالما رددوها في الأسابيع التي سبقت نشر النسخة المنقحة من التقرير، بل إن ظنونهم بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عمل على عرقلة سير العدالة قد ترسخت أكثر على ما يبدو.
هذا ما أكده رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب جيري نادلر لشبكة ABC”” الأمريكية، بقوله: “قرار وزير العدل بحجب التقرير الكامل قرار مؤسف، لكنه ليس مفاجئًا”، مضيفًا أنه “بسبب تضليل وزير العدل لبلدنا سوف يتم التعامل مع كل القضايا ومع الطريقة التي يدير بها الموضوع حينما يمثل أمام اللجنة في الثاني من الشهر المقبل، فلدينا أسئلة كثيرة له، وكذلك من آخرين، فيما يتعلق بقضية عرقلة سير العدالة”.
الديمقراطيون يدركون فعليًا أن انتصار الرئيس في هذه القضية سيُسقط الورقة الأقوى التي لطالما استعملوها في وجهه منذ وصوله للسلطة
وعلى الرغم من أن الديمقراطيون قد يتجهون لفتح معركة سياسية جديدة لدفع وزير العدل لنشر تقرير مولر كاملاً، عسى أن يجدوا فيه شيئًا يسمح لهم بمواصلة التشكيك بترامب، إلا أنهم يدركون فعليًا أن انتصار الرئيس في هذه القضية سيُسقط الورقة الأقوى التي لطالما استعملوها في وجهه منذ وصوله للسلطة، وبالتالي سيكون عليهم البحث عن ملفات أخرى لمواجهة الرئيس الجمهوري مع اقتراب الانتخابات القادمة.
برز هذا الأمر في تحول سياسيين ديمقراطيين بارزين عن مسار تكثيف التحقيقات بحق ترامب، إلى المطالبة بمناقشة القضايا الداخلية الأساسية، فقد دعا حكيم جيفريز، الذي يتزعم كتلة الديمقراطيين في مجلس النواب، “الرئيس لترك ملعب الغولف وأن ينهي إجازاته المتواصلة، فيما الديمقراطيون في مجلس النواب في واشنطن يكافحون لتقليل كلفة الرعاية الصحية وإصلاح بنيتنا التحتية المتداعية”، كما تركزت تغريدات ديمقراطيين آخرين على الحاجة إلى الحد من أعمال العنف باستخدام الأسلحة النارية وفرض قيود أكثر صرامة على التنقيب عن النفط في البحر.
وفي كل الأحوال، خرج التقرير الذي أصبح الآن علنيًا -ولو في نسخة منقحة- من حلبة القانون ودخل حلبة السياسة، وأجَّج حالة الاستقطاب القائمة بين ترامب ومعارضيه خاصة الديمقراطيين، وهو استقطاب حاد يُرجَّح أن يستمر إلى أن يصوت الأمريكيون مجددًا في انتخابات رئاسية جديدة منتظرة العام المقبل.