شهدت الساحة اللبنانية الساعات الماضية موجة تصعيد استثنائية هي الأعنف، منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين “حزب الله” اللبناني والجيش الإسرائيلي، الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حيز التنفيذ، حيث عاود الطرفان تبادل المناوشات بصورة أثارت المخاوف بشأن انهيار الاتفاق الهشّ.
وكان جيش الاحتلال قد شنَّ سلسلة غارات صاروخية على جنوب لبنان مساء الاثنين 2 ديسمبر/ كانون الأول، أسفرت عن استشهاد 9 أشخاص وإصابة 3 آخرين، وذلك للمرة الأولى منذ بدء سريان الاتفاق، ردًّا على قصف “حزب الله” موقع رويسات العلم في تلال كفرشوبا المحتلة، وهو القصف الذي قال الحزب إنه جاء كـ”ردّ فعل” على الخروقات الإسرائيلية المتكررة طيلة الأيام الماضية.
منذ اليوم الأول لدخول هذا الاتفاق حيز التنفيذ، تتراجع معدلات التفاؤل بشأن قدرته على الصمود في ظل البيئة الهشّة التي أُبرم فيها، وغياب الضمانات الإقليمية والدولية، ومقاربات كل من الطرفَين، على الأخص حكومة الاحتلال ورئيسها بنيامين نتنياهو، الذي لم يتوقف عن التحرش باللبنانيين واستفزازهم منذ سريان عمل الهدنة، وسط مخاوف أمريكية من الانهيار، وبذل الجهود الدبلوماسية المكثّفة لاحتواء تلك الخروقات والإبقاء على الاتفاق ساريًا حتى النهاية.
لكن يبقى السؤال: في ظل تلك الأجواء الملبّدة بغيوم التصعيد.. هل يستطيع الاتفاق، مهما وُضع على أجهزة التنفس الصناعي، أن يستمرَّ، ولو على قدم واحدة، حتى الانسحاب الكامل لجيش الاحتلال وقوات “حزب الله” من الجنوب في غضون المهلة المقررة لذلك والمحددة بـ 60 يومًا؟
تصعيد متبادل
منذ دخول الاتفاق حيز التنفيذ لم يتوقف جيش الاحتلال عن التحرش بين الحين والآخر بالجانب اللبناني، فبعد ساعات قليلة من سريان الهدنة بدأت الخروقات الإسرائيلية التي تنوعت بين غارات بالطيران الحربي، وتحليق بالمسيّرات، وإطلاق النار من أسلحة رشاشة وتجريف مدن وطرقات، وصولًا إلى القصف بالمدفعية.
وأمام هذا الخرق الواضح، اضطر “حزب الله” إلى الرد، حيث قصف موقع رويسات العلم في تلال كفرشوبا المحتلة، فيما ذكرت “هيئة البث الإسرائيلية” أن قذيفتين أُطلقتا من جنوب لبنان باتجاه مزارع شبعا للمرة الأولى منذ بدء اتفاق وقف إطلاق النار، وقالت إذاعة جيش الاحتلال أن الحزب أطلق قذيفتين باتجاه منطقة هار دوف، وسقطتا في منطقة مفتوحة ولم تقع إصابات.
الحزب برّر هذا القصف بأنه ردّ على الخروقات المتكررة التي يقوم بها جيش الاحتلال، والتي وصلت إلى انتهاك الطائرات الإسرائيلية للأجواء اللبنانية وصولًا إلى العاصمة بيروت، بينما اتهم رئيس البرلمان نبيه برّي “إسرائيل” بـ”خرق فاضح” لاتفاق وقف إطلاق النار، داعيًا اللجنة المشكّلة لمراقبة الهدنة، والتي تضمّ الولايات المتحدة وفرنسا، إلى “مباشرة مهامها بشكل عاجل وإلزام إسرائيل بوقف انتهاكاتها وانسحابها من الأراضي اللبنانية”.
وعلى الجانب الآخر، وجدت “إسرائيل” في الرد اللبناني فرصة مناسبة لمزيد من التصعيد والخرق، حيث شنّت عدة غارات استهدفت بلدتَي حاريص وطلوسة جنوب لبنان، أسفرت عن سقوط 12 شخصًا بين شهيد ومصاب، فيما قال الجيش اللبناني إن جنديًّا أُصيب بجروح في غارة من مسيّرة إسرائيلية على جرافة للجيش في منطقة حوش السيد علي في البقاع شرقي البلاد.
وأعلن جيش الاحتلال في بيان له أنه هاجم “عشرات المنصات الصاروخية والبنى التحتية التابعة لحزب الله في أنحاء لبنان”، مضيفًا أنه مستعدّ لمواصلة الهجمات حسب الحاجة، فيما قالت “القناة 12” العبرية إن الجيش الإسرائيلي أغار على 30 هدفًا في لبنان في ليلة واحدة رغم الاتفاق المبرم مع الجانب اللبناني.
وتشير مصادر لبنانية إلى أن قوات الاحتلال ارتكبت أكثر من 50 انتهاكًا وخرقًا للاتفاق منذ سريانه، وهو التصعيد الذي أثار المخاوف بشأن صمود الهدنة واستمرارها وفق ما هو مخطَّط لها، الأمر الذي دفع كلًّا من الولايات المتحدة وفرنسا لتكثيف حراكهما الدبلوماسي لإبقاء الاتفاق على قيد الحياة أطول فترة ممكنة، خشية ما يمكن أن يترتب عن انهياره في هذا التوقيت الذي يشهد تطورات جيوسياسية مستجدة قد تلقي بظلالها على المشهد.
مساعي إنقاذ الاتفاق
تبذل الولايات المتحدة مساعيها المكثفة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بشأن هذا الاتفاق، والوصول به إلى نهاية مهلة الـ 60 يومًا، معتبرة أن ما يحدث من خروقات وتصعيد متبادل بين الحزب وجيش الاحتلال، إنما يأتي في سياق حق الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي، كما جاء على لسان المتحدث باسم خارجيتها ماثيو ميلر، الذي يرى أن الاتفاق صامد ولم يشهد انهيارًا رغم وجود بعض الانتهاكات للاتفاق.
وفي مؤتمر صحفي اعتبر ميلر أن الاتفاق نجح حتى الآن في وقف القتال والتحرك إلى الطريق الذي لا يشهد الخسائر اليومية في الأرواح التي شهدناها على مدار الفترة الماضية، مضيفًا: “نحن في مرحلة مبكرة في هذه العملية التي تتطلب نحو 54 يومًا من الآن لتنفيذ الاتفاق بالكامل، حيث ستسحب إسرائيل جميع قواتها ونحن لم نصل بعد إلى هذه المرحلة”.
وعن رؤية واشنطن لمسألة خرق الاتفاق المتكرر بين الحين والآخر، أشار المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أن بلاده وضعت آلية مع حكومة فرنسا للنظر في تلك الانتهاكات والتعامل مع بقية الأطراف لضمان عدم تكرارها، وأن هناك تحركات خلال الفترة المقبلة لضبط الوضع على الساحة اللبنانية بما يبقي على الاتفاق ساريًا.
وتشير مصادر داخل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إلى أن إدارة بايدن على اتصال وثيق بالمسؤولين الرفيعين في لبنان و”إسرائيل” بشأن وقف إطلاق النار، حسبما ذكر مراسل “الجزيرة” الذي نقل عن المصادر قولها إن الطرفين -“حزب الله” وجيش الاحتلال- كررا الالتزام بتطبيق اتفاق وقف اطلاق النار، وعدم وجود أي نوايا مسبقة في خرقه.
هل للمشهد السوري من أثر؟
لا يمكن قراءة التصعيد والتصعيد المتبادل على الجبهة اللبنانية بمعزل عن التطورات التي تشهدها الساحة السورية، حيث انهيار جيش نظام بشار الأسد أمام المعارضة المسلحة التي نجحت في تحقيق إنجازات ميدانية غير متوقعة تُوِّجت بالسيطرة على حلب، وعدد من المدن والمناطق اللوجستية التي كانت خاضعة للنظام المتلعثم عملياتيًا بشكل مثير للجدل.
كانت عناصر “حزب الله” بجانب أخرى من الحرس الثوري الإيراني وثالثة من الروس ورابعة من بعض المرتزقة من الجنسيات الأخرى، تشكّل العصب الأساسي لقوات النظام السوري خلال جرائمها المرتكبة بحق المدنيين من أبناء الشعب السوري على مدار 10 سنوات تقريبًا، ما منحها -آنذاك- الزخم والقوة التي أهّلتها لفرض السيطرة وقتل مئات الآلاف من السوريين.
وبعد دخول “حزب الله” على خط جبهة الإسناد في غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بدأ في سحب عناصره من سوريا -أو على الأقل تقليلها- لدعم بنيته العسكرية والبشرية في مواجهة جيش الاحتلال، خاصة بعد الضربات التي تعرّض لها مؤخرًا وأحدثت شروخات غائرة في جداره، على المستوى الهيكلي القيادي التنظيمي والتسليحي.
وهو ما ساعده لاحقًا في استعادة توازنه بشكل سريع، وعزز من حضوره الميداني في مواجهة الجيش الإسرائيلي، الذي وجد نفسه مضطرًا نهاية الأمر للجلوس على مائدة المفاوضات والقبول بإبرام لوقف إطلاق النار، حتى لو كان مؤقتًا وهشًّا.
ومع التقدم الذي أحرزته المعارضة السورية التي استغلت عسكريًا حالة الضعف التي بات عليها جيش النظام (بعد انسحاب أضلاعه الرئيسية: “حزب الله” والحرس الثوري والقوات الروسية التي انشغلت بما لديها من أزمات داخلية)، وتقدُّمها في مناطق لوجستية هامة، وتهديدها للمكتسبات التي حققتها تلك الأجندات من خلال تواجدها في الساحة السورية خلال السنوات التسعة الماضية، يدور تساؤل هل يدفع الحزب بقواته مجددًا إلى سوريا؟
حسب ما نقلت وكالة “رويترز” عن مصادر لبنانية فإن حزب الله سحب كبار ضباطه وعناصره من سوريا في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي بعد الهجوم الإسرائيلي، وأكدت أن “الحزب غير مستعد لإرسال قوات إلى سوريا لمساندة الأسد بسبب انشغاله بالصراع مع إسرائيل”، خاصة بعد الحديث عن انهيار الاتفاق.
مخاوف الانهيار.. هل تصمد الهدنة؟
حسبما نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي عن مصادر مطّلعة، فإن إدارة جو بايدن أعربت سرًّا للإسرائيليين عن قلقها من احتمال انهيار وقف إطلاق النار، وأنها ترى أن حكومة نتنياهو تمارس ما وصفتها بـ”لعبة خطيرة” الأيام الأخيرة، فيما أبلغ المبعوث الأمريكي إلى لبنان آموس هوكشتاين، تل أبيب بأنه يتعيّن عليها إفساح المجال لآلية مراقبة وقف إطلاق النار، معربًا عن قلقه بشأن ضرباتها المستمرة في لبنان.
وفي السياق ذاته، نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية عن مصادر مطلعة أن الولايات المتحدة حذّرت “إسرائيل” من انتهاكها بنود اتفاق وقف إطلاق النار، لافتة أن هناك انتهاكات وخروقات بالجملة منذ دخول الهدنة حيز التنفيذ، أبرزها عودة مسيّرات إسرائيلية للنشاط في سماء بيروت، وقصف عدة مواقع وإيقاع خسائر في الأرواح.
كما أعربت باريس هي الأخرى عن قلقها من انهيار الاتفاق والعودة للمربع صفر مرة أخرى، حسبما نقلت الصحيفة العبرية عن مسؤول فرنسي، مضيفًا أن بلاده على اتصال مستمر مع قائد الجيش اللبناني ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي، وأنهم ملتزمون بالعمل على الحفاظ على وقف إطلاق النار.
ورغم تأكيد كل من “إسرائيل” ولبنان على التزامهما بوقف إطلاق النار، رغم الخروقات المتبادلة على الحدود، وإبلاغهما البيت الأبيض بهذا التعهُّد، بحسب “أكسيوس”، إلا أن الأجواء العامة حسب المؤشرات الراهنة تقلّل من مستوى التفاؤل بشأن قدرة الاتفاق على الصمود في مواجهة كل تلك التحديات والانتهاكات التي لم تتوقف طيلة الأيام الخمسة الماضية، هي عمر الاتفاق حتى الآن.
على الجانب الإسرائيلي، يحاول نتنياهو توظيف المشهد السوري، واحتمالات إرسال “حزب الله” لبعض عناصره لمساندة نظام الأسد، من أجل خدمة أهدافه الرامية إلى الإجهاز على ما تبقى من الحزب اللبناني، وهو الهدف الذي كان قد أعلن عنه عند بداية العملية العسكرية البرية في الداخل اللبناني قبل شهرَين، وكانت محل الخلاف مع اليمين المتطرف حين وافق على إبرام اتفاق التهدئة الحالي.
كما يعتبر نتنياهو ويمينه المتطرف أنه نجح إلى حدّ ما في تحقيق جزء كبير من أهداف الاتفاق، والتي تتمحور في أغلبها حول تهدئة الأجواء على الجبهة الشمالية نسبيًا، وتفكيك وحدة جبهات الإسناد، والاستفراد بغزة بعد فصلها عن بقية الجبهات، خاصة جبهة “حزب الله” الأكثر تأثيرًا، ما يمهّد الطريق نحو تنفيذ مخطط فصل الشمال عن بقية القطاع، وهو ما يتم تمريره ميدانيًا منذ أيام.
أما على المستوى اللبناني، فيقبض الحزب على الجمر للنأي بنفسه عن العودة للمربع صفر مرة أخرى، ومعاودة المعركة بزخمها المعتاد مع جيش الاحتلال، متجنّبًا الانجرار نحو أتون الحرب بشكل مباشر ورسمي عبر الخروقات والانتهاكات الإسرائيلية التي لا تتوقف، ومن ثم جاء الرد على مضض للحفاظ على الاتفاق ساريًا من جانب، وبما يحفظ ماء الوجه من جانب آخر.
يؤمن “حزب الله” أن خرق الاتفاق في ظل التصعيد على الجبهة السورية، ولغة التهديد التي يتبناها ترامب مع اقتراب تسلُّمه السلطة رسميًا، بجانب الضغوط الممارسة عليه من الداخل سياسيًا وشعبيًا، سيعمّق من مأزقه الراهن، ويضعه في زاوية ضيقة سيكون لها ارتداداتها على قدراته ومستقبله السياسي والعسكري.
خصوصًا أنه لم يستفق بعد من الهزة العنيفة التي تعرض لها خلال الحرب الأخيرة، ويسابق الزمن لترميمها قبل تلقيه ضربة جديدة تجهز عليه بشكل نهائي، ومن ثم ليس بالمستبعد التزام الحزب الصمت أو غضّ الطرف نسبيًا إزاء ما قد يتعرض له من لكمات تلو الأخرى على أيدي الجيش الإسرائيلي، وإن كان هناك ردّ فسيكون في نطاق الخط الأخضر الذي لا يهدم الاتفاق.
عطفًا على ما سبق، وفي ظل المؤشرات الراهنة والتطورات التي تشهدها الجبهة اللبنانية من خروقات وانتهاكات بالجملة، في ظل مقاربات كل من نتنياهو و”حزب الله” بشأن الهدنة المؤقتة، فإن احتمالات الصمود أضعف بكثير من احتمالات الانهيار، وإن كان الأمر متوقفًا على جدّية كل من الولايات المتحدة وشركائها في إبقاء الاتفاق على قيد الحياة، ولو على قدم واحدة.