الصورة: غسان كنفاني .. أحد أعمدة الرواية الفلسطينية
يقولون إن الأديب لا يكون أديبًا إلا بمقدار ما يكون ابن عصره، ويكون ابن عصره بمقدار ما يستطيع تشخيص الحالة التي يعيش في إطارها، والتشخيص ليس مجرد وصف، إنه دراسة معمقة لمكونات الحالة ومآلاتها. وموضوع النكبة كان مُتناولا في الأدب العربي حتى كاد أن يكون “نوعًا أدبيًا” ابتداءً من نكبة الشيعة عام 680 م وحتى النكبة الفلسطينية عام 1948، مرورًا بنكبة الأندلس عام 1492، وغيرها.
وفي وجداننا العربي تبرز النكبة الفلسطينية كأعظم نكباتنا، ربما لأنها أقربها زمنًا، وربما لأنها أعظمها وقعًا.
ويُطلق مصطلح النكبة الفلسطينية على مجموعة الأحداث والمجازر التي قامت بها العصابات الصهيونية بحق الإنسان والأرض في فلسطين عام 1948 وما سبقه.
ومع تفاقم الأوضاع وتطوراتها الدراماتيكية شهدت الثقافة الفلسطينية ميلاد شعراء وكتاب جدد فكتب “جبرا إبراهم جبرا” رواياته عن المنفيين ومعاناتهم، وكتب “غسان كنفاني” عن صراع الفلسطينيين في الشتات من أجل لقمة العيش وعن بهاء الفدائيين وروعة بطولاتهم، وظهر جيل جديد من الشعراء الملهمين في الوطن المحتل وفي الشتات مثل: (محمود درويش، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، وفدوى طوقان، وعز الدين المناصرة، ومحمد حسيب القاضي وغيرهم)، ليغنوا أشعارًا لم تلهب مشاعر من اكتوى بنار الاحتلال فحسب، بل لامست شغاف الملايين من التواقين للحرية في العالم، وكان وقع هذه القصائد أشد تأثيرًا حين غناها كل من (مارسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد قعبور وسميح شقير وسواهم)، فرددها الكثيرون، وحفظها المثقفون والعامة على حد سواء.
وجد الكتاب الفلسطيني من يهتم به، ووجد الواقع المقاوم من يرصده. وقد صنف د. محمد الجعيدي كتاب “مصادر الأدب الفلسطيني الحديث” الأدب على أربع مراحل: الأولى تبدأ مع النهضة الحديثة حتى عام النكبة 1948م.. الثانية من 48 حتى 67.. الثالثة من 67 حتى 87 (حيث بداية انتفاضة الحجر الفلسطيني والتي استمرت لخمس سنوات، لتتجدد في انتفاضة القدس).
وجاء نشر كتاب “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1936- 1948” في 1967م، وقد نشر مرة ثانية بمزيد من الإضافات بعنوان “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968” للكاتب “غسان كنفاني” بمثابة الميلاد لترسيخ مصطلح نقدي جديد، ألا وهو “أدب المقاومة“.
وإذا جاز لنا ان نقسّم الأدب الفلسطيني إلى قديم وحديث، فإن القديم هو ما كان قبل النكبة، وقد كتب الروائيون الفلسطينيون منذ النكبة وحتى عام 2010 ما يزيد عن (600) رواية، تناول في نحو 80% منها النكبة وتداعياتها، كان القديم تحذيرًا مما سيأتي، فكان الأدباء الفلسطينيون كخبراء الأرصاد السياسية؛ حيث توقعوا العواصف والزلازل والانهيارات، وكان على رأس هؤلاء من الشعراء “إبراهيم طوقان” في قصيدته التي يخاطب فيها الزعماء ساخرًا حيث يقول:
“وبيان” منكم يعادل جيشًا بمعدات زحفه الحربية
“واجتماع” منكم يرد علينا غابر المجد من فتوح أمية
وخلاص البلاد صار على الباب وجاءت أعياده الوردية
ما جحدنا “أفضالكم” غير أنّا لم تزل في نفوسنا أمنية
في يدينا بقية من بلاد فاستريحوا كيلا تطير البقية
وهذا الشاعر الشهيد “عبد الرحيم محمود” يقف مخاطبًا الملك “سعود بن عبد العزيز” حينما زار فلسطين والمسجد الأقصى، وكأنه كان يقرأ من خلف ستار الغيب عام 1935 قائلاً:
المسجد الأقصى أجئت تزوره .. أم جئت من قبل الضياع تودعه
أما القاصون فكان على رأسهم “إسحق موسى الحسيني” الذي كانت روايته “مذكرات دجاجة” عام 1943، وقبل عامين فقط من نشر رواية “مزرعة الحيوانات” التي اشتهر بها الروائي جورج أورويل، لكن رواية الحسيني تتحدث عن القتال الذي سيحصل، والتسوية التي ستكون أقسى من القتل على أصحاب الأرض، وعندما طفحَ كيلُ الزعيم وكاد أن ينقضّ على كبيرة الغرباء، وقال الزعيم لدجاجته المعتدلة: “نحن بين أمرين: إما أن نتنازل عن مأوانا، أو أن نتمسك به ونطرد الغريبات” ولكن الدجاجة المعتدلة ضاعفت دلالها على الزعيم، وأحاطت عنقه بذراعيها رافضة استعمال القوة، واقترحت أن يخوضوا المعركة إعلاميًا فقط، ويبشروا “لخلقَ بالخضوع للحق وحده، فاستسلم الزعيم لها؛ فتشرّدت الدجاجات (بمن فيهم المعتدلة) والزعيم.
وقبله قدم “خليل بيدس” في رواية “الوارث“، شخصيات يهودية تتصف بالاحتيال والنصب والكذب والتدليس، ولا تتورع عن استخدام أي أسلوب بهدف تحقيق مأربها. وكانت هذه الرواية التي صدرت عام 1920 بمثابة صرخة للعربي بصورة عامة وللفلسطيني بصورة خاصة.
إن تفرد النكبة كان تفرد المحتل، فالاستعمار الصهيوني استعمار متفرد يقوم على الاستيطان وجلب المستوطنين من بلاد أوروبية ليتخذوا من فلسطين وطنًا لهم تحت دعاوي توراتية أسطورية، على حساب شعبها الآمن المستقر في هذا المكان منذ آلاف السنين، وهذا ما يمنح نكبة الشعب الفلسطيني خصوصيتها وتفردها عن غيرها من النكبات التي بُليت بها الأمة العربية في فترات الاستعمار أوائل القرن العشرين، إن جوهرها كان قائمًا على ترحيل شعب وجلب شعب آخر ليحل محله.
وهذه المسألة ـ المأساة – تناولها الروائيون الفلسطينيون كتعبير عن قسوة وظلم ما جرى، وانعكاس لواقع عاشوه أو سمعوا عنه من الآباء والأجداد، فقد جاء على لسان “أحمد” في رواية “الزورق” السؤال الجوهري حول مدى الظلم والاضطهاد الذي حل بالشعب الفلسطيني، فيقول: “… وفي الجغرافيا أيضًا، شيء لم يقع من قبل ولا يبدو أنه واقع من بعد، متى وأين حدث أن تم إجلاء شعب من أرضه بقوة السلاح من أجل أن يقيم في تلك الأرض شعب آخر جاءوا به من مشرق الأرض ومغربها”، وهذا التفرد جعل النكبة تشكل علامة فارقة وذاكرة لا تمحى في حياة الإنسان الفلسطيني، فأصبح “متشائل” أميل حبيبي يؤرخ بهذا العام لحياته، كيف كانت؟ وكيف أصبحت؟.
لقد استخدمت المنظمات الصهيونية المسلحة أسوأ الوسائل الإجرامية في تهجير الفلسطينيين من إطلاق النار على السكان، إلى ارتكاب المذابح، إلى التمثيل بالجثث، إلى إحراق الجثث؛ وخرج الفلسطيني باحثًا عن السلامة والأمان وهربًا من الموت المحقق، وهذا الرعب والخوف جعل الكثير من الناس ينسون حتى أبناءهم، ويحملون بدلاً منهم الوسائد، وصور هذا الجانب بكل معانيه الإنسانية وتداعياته “غسان كنفاني” في روايته “عائد إلى حيفا“.
أما المذابح الأكبر فقد صُورت في العديد من الروايات، لا سيما مذبحة دير ياسين، التي صورها “حسن يوسف” في روايته “الفلسطيني”.
تعد الهجرة ووصف أحوال الناس فيها من أكثر ما تناولت الرواية الفلسطينية التي تطرقت لتصوير النكبة وأحداثها. إن مشاعر الخوف والذعر التي انتشرت في نفوس أهالي القرى بفعل الأعمال الإرهابية والمذابح التي مارستها المنظمات الصهيونية هي التي دفعت أهالي “وادي السلامة” للخروج من أرضهم، بالإضافة إلى أهالي القري المجاورة، وهذا ما وثقته رواية “الخروج من وادي السلامة” للروائي “زيد أبو العلا”.
وفي رواية “بيت للرجم بيت للصلاة” للروائي “أحمد عمر شاهين”، وصف لأحداث الهجرة وتشرد الناس: “قصف مدفعي متواصل أيام الإثنين والثلاثاء وليلة الأربعاء، قصف مروع رهيب بكل أنواع الأسلحة، قنابل مختلفة الأحجام، والأصوات تنفجر فوق حي النزهة في مدينة يافا، فتفجر مواسير المياه في الشوارع وتقطع أسلاك الكهرباء والتليفون، وتهدم وتصدع بيوتًا ومحالاً تجارية كثيرة، ويخيم الهدوء صباح الأربعاء.. ويهرع الجميع إلى كافة أنواع المركبات، يعتلونها ويسوقونها خارج المدينة على أمل العودة بعدما تهدأ الأحوال، ومن لم يجد عربة اندفع إلى شاطئ البحر ليركب مركب صيد، أو سفينة صغيرة ليبتعد عن هذا الجحيم الذي حاصره.. هربوا بأولادهم وبناتهم ونسائهم خوفًا من قصف المدافع ورشق الرصاص والمذابح التي سمعوا عنها، وهتك الأعراض وقتل النساء والأطفال”.
لم تكتف السلطات الصهيونية بتشريد أبناء الشعب الفلسطيني، بل قامت بهدم قراهم ومدنهم؛ لطمس الأثر الوجودي للفلسطينيين، وحتى تقطع عليهم أي أمل بالعودة، وبلغ مجموع القرى التي دمرتها إسرائيل في عام 1948 وبعده حوالي (418) قرية عربية.
وقد أخذ الروائيون الفلسطينيون يعكفون على رسم خريطة أرضهم بالأحداث والرجال، وملامح الطبيعة الثابتة حتى الشجرة والتل والنبع والتربة الحمراء والنباتات الحراجية، ما بين أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وما حولهما، ولم تهمل الروايات بقعة واحدة أو مدينة مهما كان حجمها أو أهميتها، وذلك في محاولة للوقوف في وجه الممارسات الإسرائيلية التي تسعى لفرض سياسة التجهيل، وقطع جذور الإنسان الفلسطيني بأرضه، والعمل على تثبيت ملامح الأرض والمكان حتى تبقى حية في الذاكرة.
ومن أكثر الروائيين الذين تتميز رواياتهم بالتركيز على المكان، الروائي “أميل حبيبي”، حيث نجد أن المكان لديه ممتد ومرسومة ملامحه، ليستوعب كل أرض فلسطين: مدنها وقراها وعيونها وطرقها وجبالها وسهولها، وكل ما تحوي تلك الأماكن من بشر وشجر وماء وقنن وخمائل وبيارات، حتى يمكننا اعتمادًا على رواية (المتشائل) أكثر من غيرها أن نستخلص تقويمًا جغرافيًا تاريخيًا لفلسطين، ففي هذه الرواية يورد عددًا من أسماء القرى التي هدمها الاحتلال وشرد أهلها بكل وحشية وقسوة، وذلك حين التقى الراوي بالأشباح الهائمة في فناء مسجد الجزار بعكا، انهالت عليه الأسئلة المتشابهة، “نحن من الكويكات التي هدموها وشردوا أهلها …، أنا من المنشية، لم يبق فيها حجر على حجر سوى القبور، نحن هنا من عمقا ولقد حرثوها ودلقوا زيتها .. نحن هنا من البروة، لقد طردونا وهدموها”.
ويقدم “سميح القاسم” في “الصورة الأخيرة في الألبوم” إحصائيات عما كان لليهود من أرض، وما صار لهم من نهب لأراضي العرب، وهو يحاول أن يقدم الصورة الحقيقية للاحتلال أمام حبيبته اليهودية “روتي” الصورة التي تناقض وتخالف ما لقنوه لها في المدارس والصحف الإسرائيلية.
أما الدور البريطاني المخجل، فقد أشارت إليه رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” فقد جاء ذلك على لسان الراوي الذي اعتقد أن الإنجليز ما زالوا يسيطرون على المدينة، وأن الأحداث في شكلها النهائي كان مقدّرًا لها أن تقع بعد ثلاثة أسابيع تقريبًا، حين يشرع البريطانيون في الانسحاب حسب الموعد الذي حددوه، إلا أنه اكتشف مدى التعاون البريطاني ـ الصهيوني في ترحيل العرب، فبعد اشتداد القصف، استطاع أن يميز جنودًا بريطانيين يسدون بعض المنافذ ويفتحون منافذ أخرى، وكانت كل المنافذ المفتوحة تؤدي إلى الميناء ـ البحر.
لقد توزع الفلسطينيون وتشتتوا في كافة الأصقاع ، وكانت جموع اللاجئين مثل القطار، كما شبه “حسن يوسف” في رواية “الفلسطيني” رحلتهم المأساوية، فيقول: “.. بعد الرعب كان قطار، وكان لاجئون، أما اللاجئون فلاشك في أنهم أبناء فلسطين، وأما القطار فلا أعرف هويته، ولا أعرف في أية أرض كان يتدحرج: في لبنان، في سورية، في الأردن؟ لا أعرف”. وهو ما تحدثت عنه كذلك “رضوى عاشور” في روايتها “الطنطورية”.
ومع قطار الفاجعة بدأ الحد الفاصل بين الزمنين الفلسطينيين، زمن الوطن وزمن الشتات، وأخذ عمق المأساة يتضح من خلال التفريق الذي أحدثته النكبة بين الأهل: الأخ وأخيه، والزوج وزوجته، والابن وعائلته، فيذكر أميل حبيبي في “السداسية”، كيف أن أولاد الحارة كانوا لا يعرفون لـ “مسعود” أعمامًا وأخوالاً ويتصورون أنه مقطوع من شجرة، هي عائلة طالعة من الحيط لا خال ولا عم، لأن عائلته مهاجرة وتعيش بين عائلات من حمولة واحدة، لهذا كانت الدهشة والاستغراب حين عرف الأولاد أن لمسعود أقارب يسكنون الضفة الغربية”. وفي “طبرصف والزينبية” للروائي “عدنان عمامة” يشير إلى افتراق الزوجة عن زوجها، يقول على لسان إحدى الشخصيات عندما عادت من الناصرة إلى طبرصف لأخذ بعض الأغراض: “لا أنسى حبوبة عام 48 عام الخروج إلى بلاد الله الواسعة، هرعت إلي وصاحت، أين .. أين حمودة (زوجها)؟ .. ظلت حبوبة تسأل كل واحد تراه من أهل طبرصف وهو مغادرها، أين حمودة .. أين حمودة .. لا أحد يعرف أين حمودة”.
أما مخيمات اللاجئين فقد كان لها نصيب كبير لدى الروائيين الفلسطينيين، فترصد رواية “يت للرجم بيت للصلاة” للروائي “أحمد عمر شاهين” أحوال اللاجئين بعد لجوئهم إلى الخيام، قائلة: “كان الجامع الوحيد في خان يونس ممتلئًا بالعائلات فذهبنا إلى مدرسة في شمال البلدة، وجدنا في كل غرفة خمس عائلات أو أكثر يفصل بين كل عائلة وأخرى كيس من الخيش، فرد على شكل ملاءة ومعلق على حبل، وحول المدرسة وفي حوشها تكدست خيام صغيرة كأخمام الدجاج فأكبر خيمة كانت في اتساع كيسين من الخيش وفي علو متر، أحد أطرافها مربوط بمسمار مدقوق بحائط المدرسة الخارجي أو دورة المياه، والطرف الآخر مربوط بوتد مدقوق في الأرض، يدخلها الناس زحفًا كالحيوانات.. خرجت أتفقد المكان وأبحث عن طعام، عائلات بأكملها تقيم تحت الشجر، وكثيرون يتسولون، كانوا يوزعون عليهم بمعدل رغيف واحد للفرد كل أربع وعشرين ساعة، رأيت مناظر أبكتني وأوجعت قلبي، صغار وكبار يأكلون قشر البطيخ، كقوتهم الوحيد، وينامون في العراء دون غطاء.. قرب المدرسة كان هناك معسكرًا آخر من الخيش، تصليه الشمس نارًا حامية، يعجنون بعض الطحين ويخبزونه على نار الحطب التي يتصاعد دخانها إلى عنان السماء يعمي البصر ويزيد من حرارة الجو.. حتى الخيش الذي أعطوه لهم ليجعلوه ستارًا لدورات المياه وجدوا أن دفع غائلة الموت عنهم أولى من ستر العورة، فصنعوا من الخيش فراشًا وأغطية لأطفالهم ونسائهم ويقضون حاجتهم في العراء”.
وترصد رواية “الطوق” للروائي “غريب عسقلاني” الصورة الواقعية لمخيمات اللاجئين من خلال نموذج مخيم الشاطئ في قطاع غزة: “… وبيوت المخيم المتراصة كعلب الكبريت غيبت الآدميين في جوفها حتى الانتفاخ، فيما راحت رياح تشرين تصفر جدران الأزقة الضيقة، تصفر … تتلوى أصوات شيطانية حول السقوف الواطئة، تغربلها شبابيك الزينكو وفرجات القرميد فحيحُا جليديًا، يجثم على الأجساد المحشورة في الغرف، تتلوى الأجساد وتتقلص على ذاتها.. تقنع الرب الذي في السماء.. بإمكانية تحولها إلى ديدان تجيد الاختفاء في عروق الأرض”.
هذه الأوضاع البائسة والمزرية من الطبيعي أن تخلق مشاكل وقضايا اجتماعية عديدة سببها الفقر والأوضاع المعيشية الصعبة في المخيمات، فإذا كان “الغاوي” في “الطوق” طلب من زوجته “إلقاء الأولاد في الشارع نتيجة ضيق المكان وإحساسه بأنه يعيش في سجن لا بيت”، إلا انه شعر بمرارة الواقع الذي يحياه، حين أراد أن يعزل ابنته سعدية عن أخواتها فلم يجد لها مكانًا إلا غرفة المطبخ”.
لكن ثمة من يتغلب على قسوة الواقع الاجتماعي ويحاول أن يحقق وجوده الإنساني بطرق إيجابية كالمقاومة أو التعليم أو العمل الشريف، وثمة من ينهزم أمام هذا الواقع القاسي ويلجأ إلى أساليب غير شريفة ليحقق وجوده كالعمالة أو السرقة أو الخيانة، وهذا ما استعرضته رواية “الذين يبحثون عن الشمس” للروائي “عبد الله تايه”.
وفي محاولة لمقاومة التهويد، أصرّ الروائي الفلسطيني على تحدي الإجراءات الصهيونية التي تسعى بكل جهدها إلى تهويد المكان وتغييب الهوية الوطنية والحضارية للشعب الفلسطيني، إلى تسجيل التغيرات التي أحدثتها الصهيونية على المكان الفلسطيني وإبراز الاسم العربي الفلسطيني للمكان ليبقى خالدًا في الذاكرة؛ فيعيد “أميل حبيبي” في “المتشائل” للمكان هويته الفلسطينية، ويصر في رواية “أخطية” على استعادة كل ما يتعلق بحيفا قبل عام 1948، وينطلق في هذه الاستعادة من حنين كبير إلى حيفا أيام العرب، بسبب إحساسه بالفارق الكبير بينها وبين حيفا اليوم، والتي يغير فيها الاحتلال كل شيء: من الشكل حتى الأسماء، وحتى المعالم التاريخية والدينية والطقوس الاجتماعية”. وكذلك قرية “أم العين” الواقعة على الحدود، والتي احتلها الإسرائيليون عام 1948 وأخرجوا سكانها منها أبدلوا اسمها، فأصبح “رامات يوسيف” هذا ما يشير إليه “جبرا إبراهيم جبرا” في “البحث عن وليد مسعود”.
يبقى حنين الفلسطيني إلى العودة لأرضه متواصلاً لم ينقطع حتى وقت الهجرة والفعل القسري، لذلك يحاول دائمًا العودة إذا ما سنحت له فرصة، وكانت سلطات الاحتلال تقتل كل من يحاول العودة، أو تعيده ثانية خارج الحدود، يذكر أميل حبيبي على لسان “المتشائل” عندما خرج مع الحاكم العسكري إلى عكا في سيارة الجيب، ما وجدوه في الطريق الترابي بين أعواد السمسم، يقول: “وما إن مرت بضع دقائق حتى أوقف الجيب فجأة، وانطلق منه كالسهم، وقد أشرع مسدسه ثم اخترق أعواد السمسم وكشفها ببطنه، فإذا بامرأة قروية مقرفصة ووليدها في حجرها وقد رأرأت عيناه، فصاح: من أية قرية؟ فظلت الأم مقرفصة تطل عليه بنظرات شاخصة مع أنه كان واقفًا فوقها كالطود، فصاح: من البروة ؟ فلم تجبه بعينيها الشاخصتين، فصوب مسدسه نحو صدغ الولد، وصاح: أجيبي أو أفرغه فيه ..، وأما المرأة فقد أجابته هذه المرة: نعم من البروة، فصرخ: أعائدة أنت إليها؟ فأجابته: نعم عائدة، فصرخ: ألم أنذركم أن من يعود إليها يقتل؟ ألا تفهمون النظام؟ أتحسبونها فوضى قومي أجري أمامي عائدة أي مكان شرقًا، وإذا رأيتك مرة ثانية على هذا الدرب، لن أوفرك”، وإذا لم تستطع ابنة البروة العودة إليها، فهذا العجوز ابن قرية دير سنيد يوصي حين موته أن يدفن في تراب قريته، كما جاء في “الآخرون” لـ “أحمد عمر شاهين”، فالحنين إلى الأرض يبقى مشتعلاً، ولعل الدفن تحت رمالها يطفئ لهيب الحرقة والألم.