في ليلة لا تُنسى من تاريخ الثورة السورية، فتحت مدينة حلب أبوابها يوم الجمعة 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لاستقبال أبنائها الذين عادوا إليها فاتحين، وذلك بعد أن هجّرهم النظام منها قسرًا لسنوات، حاملين لمدينتهم وأهلها أملًا في انفراجة قد تغيّر خريطة الصراع في المنطقة، وتضع حدًا لعهد الحكم الأسدي في المدينة.
أشعل هذا الحدث مشاعر مختلطة في نفوس ملايين السوريين داخل البلاد وخارجها؛ خليطًا من الفخر برؤية أبناء الثورة يحققون تقدمًا ميدانيًا متسارعًا، والخوف إزاء رد فعل النظام المحتمل ضد المدنيين كما دأب خلال السنوات الماضية.
في تلك اللحظات الفارقة، عايشت نساء حلب مشهد التحرير بعيون مختلفة، منهن من أطلت بترقب من خلف شبابيك المنزل، وأخريات تابعن التطورات من المنافي القريبة والبعيدة عبر الشاشات. وبين أمل الشابات في الحرية، وخوف الأمهات من بطش النظام، تظهر حاجتنا الملحة لتوثيق هذه اللحظات التاريخية بلسان نساء المدينة وتسجيل كلماتهن، ليس لمجرد استحضار البعد الإنساني للحدث، بل لسماع صوت يحمل في طياته ألم الماضي وصورة المستقبل.
عودة الحياة للمدينة مبهجة
يُشاع بين الذين لا يتابعون الأوضاع السورية عن قرب، أن الظروف المعيشية تحسنت مع إحكام النظام سيطرته على العديد من المدن، خاصة خلال السنوات الأخيرة عندما بدأت منصات إعلامية موالية للنظام تروج لـ”الحياة البراقة” في سوريا، إلا أن الواقع يتناقض مع الصورة المثالية التي تنشرها الشبكات الاجتماعية، تحديدًا عبر انستغرام ويوتيوب، حيث يروج للسياحة الرخيصة وكأن الحياة عادت إلى طبيعتها، في حين أن المعاناة الحقيقية مستمرة في الخفاء.
تقول سلام (وهو اسم مستعار اختارته حفاظًا على خصوصيتها) من داخل مدينة حلب: “الحياة هنا لا تشبه فيديوهات الانستغرام لا من قريب ولا من بعيد، لحد مبارح (ما قبل تحرير المدينة) كان الناس ينتظرون عند الأفران من ساعات الفجر لشراء ربطة الخبز، بينما العرب والمتغرّبين يأتون في الصيف ليستمتعوا بالرخص والآثار”.
سلام طالبة فنون في سنتها الأخيرة بجامعة حلب، كانت تستعد للامتحانات النهائية وتحلم ببدء حياة جديدة مع خطيبها في أوروبا، لكنها وجدت نفسها مجبرة على النزوح مع عائلتها من حي الحمدانية بسبب قرب منزلهم من أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية، وقبل اتخاذ هذا القرار تصف قائلة: “كنت بغرفتي أعمل على مشروع التخرج حين سمعت صوت رصاص قريب، ولمع بعدها ضوء أحمر من خلف الشباك، ما استوعب شو صار، ويمكن للآن ما حدا بحلب كلها مستوعب اللي صار. مع أذان العصر عرفنا من قرايبنا بتركيا إنه الثوار دخلوا المدينة. وقتها قررت عائلتي مع عائلتين من الجيران نترك البناية ونتفرق”.
بعد نزوحهم من حي الحمدانية، استقرت سلام مع عائلتها و15 شخصًا آخرين من أقاربهم في شقة واحدة، وخلال رحلة النزوح شهدت مشاهد مؤلمة، فقد رأت عناصر من قوات النظام يخلعون بدلاتهم العسكرية ويفرون بعيدًا عن الحواجز خوفًا من تقدم الثوار. هذه اللحظات تركت آثارًا عميقة في ذاكرة سلام، التي كانت في طريقها لبدء حياة جديدة قبل أن تُفرض عليها هذه الظروف القاسية.
تحدثت لسلام مرتين، الأولى ليلة تحرير المدينة يوم الجمعة، وقد سألتها عن شعورها إزاء استيلاء فصائل المعارضة على المدينة: “ماني خايفة من شي غير من ردّ النظام. كل شي رح يكون أحسن بكرة لو النظام ما قرر يبيدنا متل ما عمل قبل كم سنة. ورغم إنه حياتي شخصيًا رح تتعطل لفترة، ويمكن يتأخر تخرجي اللي أصلًا متأخر بسبب الحرب الماضية. بس بعتقد إنه التغيير رح يكون أفضل من البقاء على هالحال. وأفضل قطعًا من اللجوء مرة ثانية لتركيا، لأني سبق ولجأت مع عائلتي لسنتين بمدينة مرسين، ورجعنا لحلب بـ2016 على أساس إنه كل شيء تغير للأحسن، بس كل شي كان عم ينتقل من سيء لأسوأ”.
والمرة الثانية بعد مضي 5 أيام على تحرير المدينة، وعودة الحياة للشارع، حينها قالت لي: “الأوضاع هادئة وتبشّر بخير، بالأخص مع عدم وجود حالات تعرض فيها مدنيين للأذى”. أما عن المنظمات الإغاثية وفرق الدفاع المدني، فتقول: “مشاهدة فرحهم بلقائنا وحماسهم للعمل وخدمة المدينة مبهجة ومريحة جدًا، وأعتقد إنه حلب ذاتها تشعر بهذه المحبة أيضًا”.
أمل يبدد المخاوف
في اليوم التالي لدخول فصائل المعارضة إلى مدينة حلب، شهدت المدينة حركة غير معهودة؛ حيث عاد المئات من الثوار لزيارة بيوتهم التي هُجروا منها قبل سنوات، واجتمعوا مع عائلاتهم بعد فراق طويل. في الوقت نفسه، بادرت فرق الإغاثة والدفاع المدني (الخوذ البيضاء) لتأمين احتياجات السكان الأساسية من غذاء وماء، خاصة لكبار السن حتى لا يضطروا لمغادرة منازلهم.
كما عاد التيار الكهربائي إلى العديد من الأحياء بشكل غير متوقع، ما أضاء بارقة أمل في نفوس السكان بتحسن الأوضاع المعيشية، ولو بشكل مؤقت. ووسط هذه التحولات المتلاحقة والمشاعر المختلطة، بدأ النظام بشن قصف جوي على أحياء متفرقة من المدينة، ما أجج مخاوف السكان مجددًا من بطش الأسد وحلفائه.
كانت لبنى (اسم مستعار)، خريجة حديثة من كلية الهندسة بجامعة حلب، تتابع باهتمام أخبار تقدم الثوار من المدينة، وتنقلت بين إعلام المعارضة وإعلام النظام، في محاولة لفهم صمت النظام المريب بشأن ما يجري، ورغم أنها تعتبر نفسها “محايدة وغير مؤيدة لأي طرف”، فإن الأيام الأولى لاستعادة حلب وتحريرها جلبت نوعًا من الطمأنينة غير المتوقعة، فلم تُضطر هي وعائلتها للنزوح من منزلهم في وسط المدينة، كما لم يتعرض لهم أحد.
تتحدث لبنى عن ليلة تحرير المدينة بحذر شديد، مشيرة إلى أن ما حدث “كان متوقعًا إلى حد كبير”، لكن ما فاجأها هو السرعة التي جرت بها الأحداث، والتي كانت “كثيفة وسريعة بشكل لا يُصدق”، مشيرة إلى أنها لم تستطع التفكير في أي شيء ليلتها سوى الرغبة بالنجاة.
وفي تعليق عما رأته بعد خروجها للشارع بأيام من تحرير المدينة، قالت إنها “أكثر اطمئنانًا بالنظر إلى أن الأيام الأصعب قد مرّت بأقل خسائر ممكنة”، كما أنها سعيدة بشكل خاص لعدم تعرّض آثار المدينة لتدمير أو تخريب متعمد، فهي تعمل على مشروع يوثق عمارة المدينة، وتسعى من خلاله إلى “أرشفة جمالها وتاريخها قبل أن يمحيها الإهمال أو التغيير”.
آمال حذرة
أثار تحرير حلب تباينًا في آراء السوريين، حيث يرى البعض أن الحدث لا يعتبر تحريرًا حقيقيًا وكاملًا، بل مجرد كسر لسيطرة النظام المحكمة على المدينة، وقد يوقف بطشه بحق سكانها، ويتطلعون إلى حكم ديمقراطي وشامل يضمن حقوق الناس، كما يأملون أن يجلب هذا التغيير معه تحسينات ملموسة على حياة الناس، أهمها إنهاء الاعتقالات العشوائية والتجنيد الإجباري، إلى جانب رفع مستوى المعيشة في المدينة التي أنهكتها سنوات الحرب.
من جهة أخرى، تابعت علا، طالبة جامعية لاجئة في هولندا، أخبار التحرير والتقدم السريع لفصائل المعارضة إلى مدينتها، حلب، التي خرجت منها في عام 2014 مع عائلتها، ومع ذلك ظلت محافظة على ارتباطها بمدينتها، وتقول إنها لا تزال مذهولة مما حدث وغير متفائلة تمامًا، بسبب انعدام ثقتها بمعظم الفصائل المعارضة. ومع ذلك، لم تستطع إخفاء سعادتها الغامرة بخروج النظام من المدينة، خاصة مع مشاهد الإفراج عن المعتقلين، والتي تصفها بأنها لحظات تستحق الفرح والاحتفاء، رغم كل شيء.
تعكس مشاعر علا حالة الأمل الحذر بين السوريين وحيرتهم بين التفاؤل والقلق، فبينما تحمل خطوة تحرير حلب آفاقًا للتغيير الإيجابي، تظل التحديات كبيرة والمخاوف قائمة، فهي على سبيل المثال ترى أن كسر شوكة النظام ليس سوى بداية الطريق الطويل نحو بناء دولة حقيقية تقوم على العدالة والديمقراطية، ورغم شكوكها الكثيرة، ستبقى هذه اللحظة بالنسبة لها بارقة أمل في إمكانية استعادة سوريا، ولو ببطء.
الأمل أساس الاستمرار
تابعت النساء الحلبيات المهجرات منذ الثمانينيات ما يحدث في حلب بقلق يفوق الجميع، إذ إن تحرير المدينة بالنسبة لهن، يعني استعادة حتمية لذكريات مؤلمة، وجروح قديمة اجتهدن في تجاوزها ونسيانها، وذلك بعد أن تذوقن المرارة والمعاناة على يد النظام خلال فترة حكم حافظ الأسد، التي انتهت بتهجيريهن عن وطنهن وأسرهن.
ورغم معرفتهن الوثيقة بوحشية النظام، كان الخوف من رد فعله الإجرامي حاضرًا بقوة، حيث التوجس من أن يستخدم النظام وسائله الوحشية للانتقام، إذ تقول أم حسن، سيدة حلبية تعيش في بريطانيا منذ 1980، نجت من حملة أمنية شنها النظام ضد عائلات متهمة بالانضمام لجماعة الإخوان المسلمون: “فرحت لما سمعت خبر دخول المعارضة لحلب، لكن خوفي كان ولا يزال أكبر من فرحتي”.
تخشى أم حسن أن يلجأ النظام إلى أساليبه الدموية المعتادة، مثل القصف الجوي واستخدام الأسلحة الكيميائية، خاصة أن شقيقتها تعيش وحدها في حلب دون معين، وذلك رغم ارتياحها لعودة الكهرباء وتوافر الأغذية الأساسية بطريقة أسهل مما سبق.
رغم مشاعرها وأفكارها المشوشة، تؤكد أم حسن على أهمية التمسك بالأمل كوسيلة للاستمرار، وكشرط أساسي للنصر، فتقول: “الخوف طبيعي، لكن ما لازم يسيطر علينا. إذا ما أبقينا أملنا بالله كبير، وصدقنا إننا قادرين ننتصر، ما في شيء بيخلينا نكمل هالمعركة”.