يعتقد الكثير من الناس أن تاريخ العالم العربي الحقيقي بدأ بعد ظهور الإسلام، ولم تكن هناك حياة سياسية واضحة أو ملامح ملموسة لشكل الحكم فيها، إذا يسود اعتقاد أن حياة العرب كان أساسها البداوة والترحال اللذين لا يساعدان على تأسيس الممالك والحكومات، لكن ما صحة هذا الاعتقاد؟
إن أحوال العرب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في شبه الجزيرة العربية والمناطق التي سكنوها قديمًا قبل انتشار الإسلام، محط اهتمام المؤرخين والمستشرقين منذ عقود طويلة، لكن بدأت الدراسات والأبحاث عن تاريخ العرب القديم في العصر الحديث، في القرن الـ19.
وقد تمكن عدد منهم من ترجمة ونشر عدد كبير من النقوش المكتشفة، وكذلك محاولة صياغة التاريخ بشكل علميّ، معتمدين في ذلك على المصادر الأولية القديمة التي أشارت إلى حياة العرب في تلك الأزمنة، وتبينوا أن شعب الجزيرة العربية كان على هيئة جماعات منظمة تحترف الزراعة والرعي والصيد ذلك حتى منتصف العصر الهيليوسيني (9000-2500 ق.م).
لم يستمر الكيان السامي تحت حكومة موحدة، ويقول الباحثون إن السبب في ذلك هو الاتساع الجغرافي للجزيرة العربية وطبيعة توزع موارد المياه – الشحيحة – فيها
يقول المؤرخون إن سكان الجزيرة العربية شكلوا “العرق السامي”، وبالفعل أظهرت الشعوب السامية احتفاظها بالكثير من الخصائص الدينية واللغوية المشتركة، منها مصطلحات متنوعة إدارية وسياسية كمصطلح “ملك”، وبذلك فقد كان لهم تنظيم سياسي موحد أو على الأقل تنظيمات منحدرة من أصل سياسي مشترك لا يبعد كثيرًا عن فترات التدوين التاريخي (نحو 3500 ق.م).
لم يستمر الكيان السامي تحت حكومة موحدة، ويقول الباحثون إن السبب في ذلك هو الاتساع الجغرافي للجزيرة العربية وطبيعة توزع موارد المياه -الشحيحة – فيها، وبذلك انتشرت الشعوب السامية وتفرق العرب بين شمال المنطقة وجنوبها بحثًا عن الحياة، لتبدأ مرحلة اجتماعية وسياسية جديدة في حياتهم.
ممالك العرب
عرفت بلاد العرب الحياة السياسية المنظمة قبل الإسلام، خصوصًا في اليمن، حيث الزراعة والاستقرار، فقامت فيها دول وممالك كثيرة متعاقبة مثل: مملكة معين ومملكة قُتبان ومملكة سبأ التـي سُميت بها سورة من سور القرآن الكريم ومملكة حمير.
مملكة معين
مملكة يمنية قديمة نشأت في شمال اليمن في الألفية الأولى قبل الميلاد، فتحتها مملكة حمير في القرن الأول قبل الميلاد، عاصمتها معين أو قرناو أو القرن التي تقع شرق صنعاء حاليًّا، بقيت من آثارهم أطلال مدينة يثل الأثرية وبيوت مسورة ونقوش وكتابات، كان الحكم فيها ملكيًا وراثيًا وأُطلق على الملك لقب “مزود” أي المقدس.
ليس هناك اتفاق بين الباحثين في النصوص المعينية واليمنية القديمة بشكل عام، بشأن التواريخ وتسلسل الأحداث المعينية والملوك وعددهم
وفي أقصى اتساع ملك المعنيين امتد حكمهم على دادان ويثرب والعلا وفدك وتيماء كما هو مدون على النقش المعيني وسيطروا على معظم طرقِ التجارة في جنوب الجزيرة العربية.
ومن الجدير ذكره أنه ليس هناك اتفاق بين الباحثين في النصوص المعينية واليمنية القديمة بشكل عام، بشأن التواريخ وتسلسل الأحداث المعينية والملوك وعددهم، ولكن من أشهرهم الملك “اليفع وقه” والملك “تبع كرب” الذي حكم على رأيه من سنة 650 إلى سنة 630 ق.م، والملك “يثع إيل صديق”.
اتفق الباحثون على ظهور حكومات صغيرة مستقلة في المدن اليمنية القديمة، خلال الفترة الانتقالية بين زوال دولة معين وتأسيس دولة سبأ، وذلك قبل أن تصبح تحت حكم مملكة سبأ.
مملكة سبأ
وقعت سبأ في الجنوب الغربي لليمن بين 620 ق.م إلى سنة 115 ق.م، وقد تركوا لقب ”مكرب” وعرفوا بـ”ملوك سبأ”، واتخذوا ”مأرب” عاصمة لهم، وتوجد أنقاض مأرب على بعد 192 كيلومترًا شرق صنعاء، وكان أول ملوك سبأ هو المك كرب آل وتر(إيل وتر).
كانت سبأ اتحادًا قبليًا وعلى رأس الاتحاد كاهن يقال له مكرب وتعني “مُقرب” ويراد بها الآلهة، ولكن هناك من اعترض على هذا التفسير وفسره بمعنى موحد، لأن الاتحاد ضم عددًا كبيرًا من القبائل لا يعرف عنها شيء في العصر الحاليّ باستثناء عدد من القبائل ما زالت موجودة باسمها إلى اليوم.
تعتبر مملكة سبأ من أشهر الشعوب التي ذكرت في الأديان السماوية، باعتبارها واحدة من الشعوب الوثنية التي عبدت الأصنام ومجّدتها
أبرز هذه القبائل همدان وكندة مذحج وهي القبائل التي ذكرت صراحة باسمها، أما “الأزد” فلم تذكر بهذا الاسم ولكن وردت أسماء قبائل يعدها أهل الأخبار منهم في نصوص خط المسند أوثق مصادر تاريخ اليمن القديم.
وتعتبر مملكة سبأ من أشهر الشعوب التي ذكرت في الأديان السماوية، باعتبارها واحدة من الشعوب الوثنية التي عبدت الأصنام ومجّدتها، فقد ذكر القرآن الكريم أخبارهم وملكتهم الملكة بلقيس وحالة الترف التي كانوا يعيشون فيها، وكيف عاقبهم الله تعالى بسيل العرم الذي شرّدهم بعد أن دمّر سدهم (سد مأرب الشهير) وزالت جنانهم.
وبعد انهيار سد مأرب وتدهور الحياة الاقتصادية هاجر العرب من اليمن إلى أطراف شبه الجزيرة العربية في الشمال، وأقاموا إمارات عربية، ظلت قائمة إلى ما بعد ظهور الإسلام، فنشأت إمارة المناذرة في العراق، وكانت عاصمتها مدينة الحيرة، وإمارة الغساسنة في جنوب الشام.
مملكة الحيرة
وقعت في جنوب وسط العراق وهي عاصمة مملكة المناذرة، تقع أنقاضها على مسافة 7 كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من مدينتي النجف والكوفة، وتمتد الأنقاض من قرب “مطار النجف” حتى “ناحية الحيرة” التابعة لقضاء المناذرة (أبوصخير).
من أشهر ملوكهم عمرو بن عدي وامرؤ القيس بن عمرو (الثاني) المسمى “محرق الأول”، لأنه أول من عاقب بالنار، والملك النعمان بن امرؤ القيس الذي بنى “قصر الخورنق”
والمناذرة أو اللخميون ينحدرون من سلالة عربية من قبيلة لخم من تنوخ وحكموا العراق قبل الإسلام، وكانوا حلفاء الرومان في البدء ثم تحالفوا مع الفرس واتخذ ملوكهم لقب “ملك العرب” وهو اللقب ذاته الذي كان ملوك الحضر يلقبون به أنفسهم.
ومن أشهر ملوكهم عمرو بن عدي وامرؤ القيس بن عمرو (الثاني) المسمى “محرق الأول”، لأنه أول من عاقب بالنار، والملك النعمان بن امرؤ القيس الذي بنى “قصر الخورنق” وشهدت البلاد ازدهارًا غير مسبوق في عصره.
مملكة حمير
الحميريون بالأصل قبائل سبئية اعتنقت الديانة اليهودية، كانت تنتشر في مناطق ريمة وتعز وإب وذمار وأجزاء من صنعاء ومأرب، وعاصمتهم ظفار في محافظة إب، وامتدت دولتهم لفترتين:
الأولى منذ سنة 115 ق.م إلى سنة 300م، وعرفت بالدولة الحميرية الأولى، لأن قبيلة حمير غلبت واستقلت بمملكة سبأ، وعرف ملوكها بـ”ملوك سبأ وذي ريدان”، وهؤلاء الملوك اتخذوا مدينة ”ريدان” عاصمة لهم بدلًا من مأرب.
يقول المؤرخون إن هذا العهد شهد السقوط والانحطاط، فقد فشلت تجارتهم إلى حد كبير لبسط الأنباط سيطرتهم على شمال الحجاز أولًا، ثم لغلبة الرومان على طريق التجارة البحرية بعد نفوذ سلطانهم على مصر وسوريا وشمال الحجاز ثانيًا، ولتنافس القبائل فيما بينها ثالثًا، لتتسبب في تفرق آل قحطان وهجرتهم إلى البلاد الشاسعة.
عام 523م قاد ذو نُوَاس اليهودي حملة منكرة على المسيحيين من أهل نجران، وحاول صرفهم عن المسيحية قسرًا، ولما رفضوا خدّ لهم الأخدود وألقاهم في النيران
أما الفترة الثانية منذ سنة 300م إلى أن دخل الإسلام اليمن، وعرفت بالدولة الحميرية الثانية، ولُقب ملوكها بـ”ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت”، وقد توالت على هذه الدولة الاضطرابات والحوادث التاريخية الفارقة، وتتابعت الانقلابات والحروب الأهلية التي جعلتها عرضة للاحتلال الأجنبي.
ففي هذا العهد دخل الرومان في عدن، وبمعونتهم احتلت الأحباش اليمن لأول مرة سنة 340، مستغلين التنافس بين قبيلتي همدان وحمير، واستمر احتلالهم إلى سنة 378، ثم نال اليمن استقلاله، ولكن بدأت تقع الثلمات في سد مأرب، حتى وقع السيل العظيم الذي ذكره القرآن بسيل العرم في سنة 450، أو 451 وكانت حادثة كبرى أدت إلى خراب العمران وتشتت الشعوب.
عام 523 قاد ذو نُوَاس اليهودي حملة منكرة على المسيحيين من أهل نجران، وحاول صرفهم عن المسيحية قسرًا، ولما رفضوا خدّ لهم الأخدود وألقاهم في النيران، وهذا الذي ذكره القـرآن في سـورة الـبروج بقـوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} الآيات [البروج:4].
تسببت فعلة ذي نواس في نقمة الحركة النصرانية إلى الفتح والتوسع تحت قيادة أباطرة الرومان من بلاد العرب الذين بدورهم حرضوا الأحباش وهيأوا لهم الأسطول البحري، فنزل 70 ألف جندي من الحبشة، واحتلوا اليمن مرة ثانية، بقيادة أرياط سنة 525.
بقي حكم اليمن بأيدي الحبش قرابة 70 عامًا، حتى تزعم الملك سيف بن ذي يزن الحميري المقاومة ضدهم وطردهم من اليمن
ظل أرياط حاكمًا من ملك الحبشة حتى اغتاله أبرهة بن الصباح الأشرم ـ أحد قواد جيشه ـ سنة 549، ونصب نفسه حاكمًا على اليمن بعد أن استرضى ملك الحبشة وأرضاه، وهو أبرهة نفسه الذي جند الجنود لهدم الكعبة، وعرف هو وجنوده بأصحاب الفيل.
وبقي حكم اليمن بأيدي الحبش قرابة 70 عامًا، حتى تزعم الملك سيف بن ذي يزن الحميري المقاومة ضدهم وطردهم من اليمن – الذي قال بعض المؤرخون إن أبرهة الحبشي اغتصب أمه وأنجب منها سفاحًا -، مستعينًا في ذلك بالفرس، فمدوه بالمقاتلين المحكوم عليهم بالإعدام ممن كانوا في السجون، فخرج بهم إلى اليمن ولما انتصروا على الحبشة، بقي الفرس في اليمن كمستشارين وأعوان لسيف بن ذي يزن، فلما قتل سيف بن ذي يزن استولى الفرس على حكم اليمن.
وكان أولهم وهرز ثم المرزبان بن وهرز ثم ابنه التينجان ثم خسرو بن التينجان ثم باذان، وكان آخر ولاة الفرس، فاعتنق الإسلام سنة 628، بعد أن دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، لينتهي نفوذ فارس على بلاد اليمن.
مملكة الحجاز “مكة” وشبه الجزيرة العربية
كان يعيش أهالي شبه الجزيرة العربية حياة قبلية، حيث يحكم كل قبيلة شيخ هو صاحب الكلمة النافذة والأمر والنهي فيها، وهو الذي يشرع القوانين كذلك.
فيما يرجع تاريخ تأسيس مكة إلى أكثر من 2000 سنة قبل الميلاد، لكن بدأ الناس في التوافد عليها والاستقرار بها في عصر النبي إبراهيم والنبي إسماعيل (عليهما السلام)، وبعد ذلك جاء ركب من قبيلة جرهم فسكنوا مكة، وكانوا أول أناس يسكنون مكة.
لم يكن الحكم في مكة مركزيًّا ديكتاتوريًا، بمعنى أنها لم تكن تعرف الحاكم المطْلق ولم تكن مملوكة لفرد ولا لقبيلة
تولت قبيلة جرهم الحكم في مكة حتى نهاية القرن الـ3 الميلادي عندما استطاعت قبيلة خزاعة السيطرة عليها وتولي أمرها وطرد قبيلة جرهم منها، التي استمرت في مكة ما يقارب 300 سنة، وعبد سيدها عمرو بن لحي الأوثان، فكان أول من غيّر دين النبي إبراهيم عليه السلام وعبد الأوثان في جزيرة العرب.
انتقل أمر مكة بعد ذلك من يد خزاعة إلى قريش وهي إحدى القبائل العربية التي تنتسب إلى قبيلة كنانة إحدى قبائل مضر، تحت أمرة قصي بن كلاب جد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الرابع، وبنى دار الندوة ليجتمع فيها مع رجال قريش.
وقسم ابن كلاب قبل وفاته أمور الحرم على أولاده الأربع، فكانت سقاية البيت والرفاة والقيادة من نصيب ولده عبد مناف بن قصي الجد الثالث للرسول، وبعده تولى ابنه هاشم بن عبد مناف، وبعد وفاته تولى القيادة وسقاية الحرم عبد المطلب بن هاشم الذي قام بحفر بئر زمزم مرة أخرى.
وبذلك لم يكن الحكم في مكة مركزيًّا ديكتاتوريًا، بمعنى أنها لم تكن تعرف الحاكم المطْلق، ولم تكن مملوكة لفرد ولا لقبيلة، بل كان يحكمها مجلسٌ كبير يضمُّ عشرة نواب يمثلون عشر قبائل، فهو يُشبه – إلى حدٍّ ما – الحكم الديمقراطي.
أفادت بعض القوانين الوضعية في مكة، الرسول الله صلى الله عليه وسلم، كقانون “الإجارة” وهو يقضي أنه إذا أعلن أحد زعماء القبائل أو كبار الأشراف، حمايته لشخص ما فإن جميع أهل مكة لا يستطيعون إيذاءه وإلا اعتُبر هذا خرقًا للقانون.
الاعتقاد بأن المجتمع العربي كان مجتمعًا همجيًا قبل الإسلام، يجهل أمور الحكم والتنظيم السياسي والإداري، خاطئًا وليس دقيقًا، فبلاد العرب شهدت ازدهارًا حضاريًا على أيدي حكوماتها وملوكها اللذين أحدثوا علامات فارقة في تاريخ البشرية
فيما تعامل صلى الله عليه وسلم كذلك بقانون “القبليَّة” في ظل نظام الحكم في مكة، حيث قامت قبيلة بني هاشم بحماية عصبية له، خاصةً في أثناء حياة أبي طالب، مع كونهم جميعًا – بما فيهم أبو طالب نفسه – على الشرك، كما قبِل بفكرة الأحلاف مع المشركين إذا كان الحلف يهدف إلى أمر نبيل ولا يتعارض مع الدين الإسلامي.
وبذلك فإن الاعتقاد بأن المجتمع العربي كان مجتمعًا همجيًا قبل الإسلام، يجهل أمور الحكم والتنظيم السياسي والإداري، خاطئًا وليس دقيقًا، فبلاد العرب شهدت ازدهارًا حضاريًا على أيدي حكوماتها وملوكها الذين أحدثوا علامات فارقة في تاريخ البشرية.