ترجمة حفصة جودة
في يوم 15 من أبريل اشتعل حريق هائل بكاتدرائية نوتردام الشهيرة في فرنسا، دمرت النيران برج الكاتدرئية الذي يعود إلى العصور الوسطى ويبلغ طوله 93 مترًا وثلثي السطح، ولولا جهود رجال الإطفاء الفرنسيين الذين قاتلوا يومًا وليلة لإخماد الحريق، لكانت الأضرار أكبر بكثير.
تصدرت القصة عناوين الصحف الغربية لعدة أيام وامتلأت وسائل الإعلام بتحليلات الخبراء عن تاريخ الكاتدرائية وهندستها المعمارية وأهميتها.
رمز الهوية الوطنية
لا شك أن نوتردام التي يعود تاريخها لعام 1163 تحفة قوطية ومعلم فرنسي مهم، فهي رمز لفرنسا والكاثوليكية الرومانية، رغم أن فرنسا دولة علمانية بشكل رسمي وتفخر بتلك العلمانية، فقد تم فصل الكنيسة عن الدولة رسميًا عام 1905.
لكن ذلك لم يمنع الحشود من غناء التراتيل بالقرب من الكاتدرائية المنكوبة والخروج في مسيرات لأجلها، كما انضم نائب عمدة باريس للسياحة والرياضة لسلسلة بشرية من أجل الحفاظ على الآثار القديمة داخل الكاتدرائية.
واليوم لا تعد نوتردام أثرًا دينيًا فقط، لكنها رمز للهوية الوطنية الفرنسية، ولهذا السبب أسرع الرئيس الفرنسي بإعلان مسؤوليته عن إعادة إنشاء وترميم الكاتدرائية، وتبرع مليارديرات فرنسا وشركاتها التجارية بأكثر من 700 مليون يورو (787 مليون دولار) لهذا الهدف.
يمثل المكان أهمية روحية بالغة للمسلمين، فالقدس قبلة المسلمين الأولى للصلاة
واعترافًا بالرابطة القومية أرسلت العديد من الدول الغربية من أستراليا وأوروبا تعازيها للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكذلك فعلت اليابان ومصر ولبنان والأردن، وفي الولايات المتحدة أضاء برج مركز التجارة العالمي وبرج “إمباير ستيت” بألوان العلم الفرنسي، بينما أعلن عمدة نيويورك تضامنه مع الشعب الفرنسي.
رمز مقدس
ماذا لو أصاب المسجد الأقصى ما أصاب نوتردام؟ فهذا البناء أقدم من نوتردام بكثير، فقد بناه الخليفة الأموي في القرن الثامن وله تاريخ طويل، فضربته الزلازل عامي 746 و1033 وكان يُعاد بناؤه في كل مرة، وفي عام 1099 استولى عليه الصليبيون ثم أعاده صلاح الدين عام 1187، وظل تحت حكم المسلمين حتى حرب 1967 وعندها أصبح تحت سيطرة “إسرائيل”.
يقدس المسلمون هذا المسجد فهو ثالث أقدس مكان بعد مسجدي مكة والمدينة، ونظرًا لأن المسجد ورد ذكره في سورة الإسراء بالقرآن، فقد أصبح رمزًا مقدسًا وهو مرتبط بمعجزة النبي محمد ورحلته الليلية إلى القدس ومنها إلى السماوات، فيمثل المكان أهمية روحية بالغة للمسلمين، فالقدس قبلة المسلمين الأولى للصلاة ومنذ ذلك الحين يحج الناس إليها.
بالنسبة للفلسطينيين فالمسجد الأقصى ملك لهم، وهو رمز استمرار التاريخ العربي في مدينة يطالب بها غير العرب، ويؤكد الهوية العربية في بيئة معادية للعرب، ورغم أنه يقع بجوار ما يدعي اليهود أنه موقع لمعبد اليهود الثاني المختفي الآن، فإن المسجد هو البناء التاريخي الحقيقي الوحيد الموجود بالمكان.
الفلسطينيون يصلون داخل المسجد الأقصى في مايو 2018
لا يمكن لاعتداءات المتدينين اليهود التي تطالب بحقهم في المسجد أن تغير الواقع، ولم تتمكن عمليات التنقيب الإسرائيلية المستمرة لكشف أثر التاريخ اليهودي في المكان منذ عام 1967 عن الوصول لأي دليل.
حريق الأقصى عام 1969
ماذا لو استسلم هذا المبنى الفريد الذي يشكل أهمية بالغة لأكثر من 1.8 مليار مسلم في جميع أنحاء العالم، للحريق الذي أصابه عام 1969؟ أو ماذا لو انهار نتيجة التنقيب الإسرائيلي المستمر الذي أدى لضعف أساساته القديمة؟
هل كان العالم العربي والإسلامي سينهض كيد واحدة؟ وهل كانت “إسرائيل” ستتعرض للمساءلة بصفتها الوصي على الأماكن المقدسة في القدس؟ وهل كان قادة العالم سيسارعون لإعادة بناء المسجد ومساعدة الشعب الفلسطيني؟
هناك إجابة سابقة فيما يتعلق بحريق المسجد الذي تسبب في احتراق منبر صلاح الدين داخل المسجد عام 1969، وذلك عندما أشعل الإنجيلي المسيحي الأسترالي دينيس مايكل روهان النيران في المسجد في محاولة لتدميره لتمهيد الطريق أمام إعادة بناء المعبد اليهودي في المكان وبذلك يسرّع من القدوم الثاني للمسيح.
هذا الرمز الإسلامي الفريد مثل الفلسطينيين يتيم في عالم بلا حلفاء
أدى الحادث إلى تأسيس منظمة التعاون الإسلامي، وقدم ممثل الأردن في الأمم المتحدة خطابات من 17 دولة بشأن الحريق، بينما جاء 58 خطابًا آخر من منظمات غير حكومية وهيئات إسلامية وجماعات إسلامية وأفراد مسلمين من جميع أنحاء العالم، وطالبوا الأمم المتحدة بالتدخل لحماية المكان المقدس من الاحتلال الإسرائيلي.
يتيم بلا حلفاء
لم يقدم الغرب أي رد أو استجابة لحريق الأقصى ولم يعلنوا تضامنهم مع الفلسطينيين والمسلمين، ولم تتخذ الأمم المتحدة أي إجراء فعال، وخلال الـ50 عامًا التي تلت الحريق ازدادت سيطرة “إسرائيل” على الأماكن المقدسة في القدس، وفي عام 2017 ركبت بوابات دوارة وأجهزة كشف المعادن على مدخل الحرم الشريف بشكل غير قانوني، لكن تم إزالتهم بعد ذلك، والآن تم السماح للمستوطنين المتدينين بالدخول بانتظام إلى حرم المسجد وتهديد المصلين المسلمين وأداء الشعائر اليهودية.
لا يقل المسجد الأقصى في رمزيته الدينية والقومية للعرب والمسلمين عن نوتردام للفرنسيين، لكنه إذا احترق اليوم في هذا العالم الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة ويعاني فيه العرب والمسلمون من الضعف، فلن يدافع أحد عن قضيته سوى الفلسطينيين الذين يعيشون هناك، فهم وحدهم سيقاتلون للدفاع عنه، فهذا الرمز الإسلامي الفريد مثل الفلسطينيين؛ يتيم في عالم بلا حلفاء.
المصدر: ميدل إيست آي