في القرن الواحد والعشرين، أصبحت الصحة واحدة من أكبر هواجس العالم ومحورًا رئيسيًا في قائمة أولويات شركات الغذاء التجارية التي اكتظت رفوف الأسواق بمنتجاتها وأطعمتها المُلصق عليها عبارات مثل صحية وعضوية وخالية من السكر وخالية من الجلوتين ولا تحتوي على مواد حافظة، لتكون جاذبة للبصر ومخاطبة لأذهان المستهلكين الذين يرغبون في الانضمام إلى عالم اللياقة.
في هذا الخصوص تشير التقديرات إلى أن المبيعات العالمية للمنتجات الغذائية الصحية بلغت نحو تريليون مليون دولار لعام 2017 ومن المتوقع أن يستمر هذا الرقم في النمو مع الدراسة التي كشفت عام 2015 أن الناس مستعدون لدفع المزيد من المال مقابل المنتجات التي تدعي أنها تعزز الصحة وفقدان الوزن، لا سيما تلك الخالية من المواد المعدلة والنكهات الاصطناعية.
ومع استمرار المستهلكين في إعطاء الأولوية لصحتهم، تجتهد الشركات التجارية في تلبية متطلباتهم وتوفير بدائل صحية لهم، فكيف نجحت هذه الصناعة؟
سوق الصحة واللياقة البدنية يضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد العالمي
تبلغ قيمة سوق الصحة في الاقتصاد العالمي نحو 4.2 تريليون دولار، مشكلةً 5.3% من الناتج الاقتصادي العالمي، فلقد نمت هذه الصناعة بنسبة 12.8% بين عامي 2015 و2017، من 3.7 تريليون دولار إلى 4.2 تريليون، وتتوزع أرباحها كالتالي: نحو مليار دولار لمنتجات العناية الشخصية والجمال ومكافحة الشيخوخة، ونحو 702 مليار دولار للأغذية الصحية وفقدان الوزن، و639 مليار دولار للسياحة الصحية، وأخرى للياقة البدنية والعقلية بنحو 595 مليار دولار، وغيرها الكثير من القطاعات التي توفر خيارات تتلاءم مع نمط الحياة الصحي.
وإذا أردنا البحث أكثر في اتجاهاتها، يمكننا النظر إلى تقرير اقتصاد السياحة العالمي لعام 2018 الذي من المتوقع أن يبلغ نحو 919 مليار دولار بحلول عام 2022 وذلك نظرًا لبيانات الأعوام السابقة، فعلى سبيل المثال، كان هناك 830 مليون رحلة سياحية لأغراض صحية في عام 2017، أنفق خلالها السياح ألف و528 دولار لكل رحلة، أي أكثر بنسبة 53% من السائح العادي، ما ساهم في تمثيل 17% من إجمالي إيرادات السياحة.
العالم أصبح أكثر وعيًا وانفتاحًا بشأن موضوع الصحة والفضل يعود إلى البرامج التليفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي ساعدت الناس على معرفة طريقة العيش الصحية
أما بالنسبة إلى قطاع العقارات في مجال الصحة، فمن المتوقع أن ينمو من 134 مليار دولار لعام 2017 إلى 180 عام 2022، وأهم أسواق هي الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأستراليا والمملكة المتحدة وألمانيا، في المقابل هناك أكثر من 740 عقارًا تم بناؤه أو قيد الإنشاء في 34 دولة.
جدير بالذكر أن هناك العديد من العوامل التي ساهمت في خلق هذه القطاعات ومنحها أهمية اقتصادية، وأهمها أن العالم أصبح أكثر وعيًا وانفتاحًا بشأن موضوع الصحة والفضل يعود إلى البرامج التليفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي ساعدت الناس على معرفة طريقة العيش الصحية، بعيدًا عن الأفكار النمطية التي انتشرت عن الأطعمة الصحية، فلطالما ارتبط الطعام اللذيذ بأنواع معينة من الأكلات الدسمة التي تحتوي على نسب عالية من الدهون، أما الطعام الصحي فكان يعتبر واحدًا من المأكولات المملة والمحصورة بطبق السلطة.
كيف أصبح العالم أكثر اقتناعًا بنظام الحياة الصحي؟
وجد تقرير وكالة المعايير الغذائية أن الأجيال الحاليّة تأكل المزيد من الفواكة والخضراوات الطازجة والألبان قليلة الدسم أكثر مما كانت عليه قبل 50 عامًا، بالإضافة إلى ما أشارت إليه أطروحة دكتوراه جديدة من جامعة كوبنهاجن التي أكدت أن العالم أصبح يميل إلى العادات الغذائية الصحية وأن الأغذية التي يشتريها العالم أفضل جودة من قبل، إذ تشير الأطروحة إلى أن العالم يستهلك كميات كبيرة من الفواكه والخضراوات واللحوم والأسماك، وتزيد نسبة البروتين في طعامهم مقابل الكربوهيدرات التي قلت بشكل ملحوظ.
ووفقًا لباحثين في جامعة هارفارد، فإن الناس لا يعيشون فقط لفترة أطول، ولكنهم يعيشون الآن بطريقة أكثر صحية، وقد وجدت الدراسة الأخيرة أنه في العقدين الماضيين، ساعدت التطورات الطبية الناس على البقاء في صحة جيدة لفترة طويلة، فقد ارتفعت نسب مبيعات الفواكه الطازجة بنسبة 20% بالمقابل مع نسبة مبيعات الفواكه المعلبة التي وصلت إلى 5%.
ومع ذلك تشير بعض الأبحاث الأخرى إلى أن التكنولوجيا والأتمتة في مكان العمل ساهمت في جعل الحياة أكثر استقرارًا وانشغالًا في الوقت نفسه، ما يعني أن الساعات التي يقضيها الناس أمام أجهزة الحاسوب والتلفاز تقلل من مستوى نشاطهم البدني الذي تصادف مع ارتفاع عدد البالغين الذين يعانون من زيادة الوزن في العديد من الدول، ما شجع على ظهور تيارات غذائية جديدة مثل الأطعمة العضوية التي ازداد الطلب على منتجاتها في السنوات العشرة الأخيرة بشكل مذهل التي من المتوقع أن تبلغ قيمتها السوقية 212 مليار دولار بحلول عام 2020.
هناك أكثر من 500 مليون نتيجة بحث بشأن موضوع الصحة واللياقة البدنية على موقع جوجل، ما يعني أن الناس يبحثون أكثر وأكثر عن معلومات ثقافية عن الصحة والتغذية
في سياق آخر، لاحظ الخبراء أن منصات السوشيال ميديا واحدة من القوى الدافعة وراء نمو هذه الصناعة وتعزيز العادات الصحية كالأكل وممارسة الرياضة، فعلى سبيل المثال يوجد أكثر من 300 مليون مشاركة بهشتاغ #لياقة أو fitness على منصة إنستغرام، بعبارة أخرى تقنع هذه الحسابات الإلكترونية الناس بممارسة التمرينات الرياضية أكثر، كما تستغل الأشخاص “المؤثرين” أصحاب النفوذ والقبول الاجتماعي لعقد صفقات دعائية وإعلانات على المنتجات والخدمات والمكملات الغذائية التي يستهلكها متابعيهم.
وتعد الأداة الأخير من الأكثر نجاحًا وفعالية، إذ يثق هؤلاء المتابعون عادةً بفئة “المؤثرين” الذين يجسدون تطلعاتهم ورغباتهم ويسعون إلى العيش بطريقة تشبه نظام حياتهم، مع العلم أن انتشار هذا المحتوى ليس حكرًا فقط على إنستغرام، فهناك أكثر من 500 مليون نتيجة بحث عن موضوع الصحة واللياقة البدنية على موقع جوجل، ما يعني أن الناس يبحثون أكثر وأكثر عن معلومات ثقافية بخصوص الصحة والتغذية.
المزيد من الضغوط على سلاسل مطاعم الوجبات السريعة
المثير للاهتمام بشكل أكبر ليس النمو الهائل للنسب الاقتصادية أو الوعي المجتمعي العام بموضوع الصحة، وإنما الممارسات والاختيارات التي توجه إليها البعض الذين فضلوا الاعتماد على الرعاية الصحية الوقائية كأسلوب حياة عام، بدايةً من الطعام الذي يتناولونه ووصولًا لمستوى نشاطهم، تجنبًا للمرض وكل ما قد يجعلهم عرضة له، ونظرًا للإقبال الشعبي على هذا النوع من الرعاية، ارتفع عدد المتخصصين في الرعاية الصحية من عام 2000 إلى 2010 بنسبة 10%.
ونتيجة لذلك أيضًا، ازداد نمو التخصصات الأخرى مثل اليوغا بنسبة 50% من عام 2012 حتى اليوم، وتضاعفت شعبية الجيمنازيوم منذ عام 2000، على الرغم من أن هذه المرافق لم تكن جزءًا من الثقافة المجتمعية ولا ذات أهمية اقتصادية قبل عقدين من الزمن، فبالإضافة إلى العوامل السابقة التي ذكرناها، لا بد من الإشارة إلى سلوك المستهلك الذي بات يعطي الأولوية لصحته على حساب راحته.
ما يعني أن المستهلك الذي كان يبحث عن وجبة طعام سريعة وسهلة التحضير والأكل، لم يعد منتشرًا مقارنة مع الـ10 سنوات السابقة، فإن وعي المستهلك الحاليّ بالقيمة الغذائية والصحة البدنية أثر بشكل واضح على نمو صناعة الوجبات السريعة التي تكافح للبقاء على قيد الحياة من خلال تقديم أطباق صحية وخالية من المواد الحافظة، ومن أبرزها سلسلة مطاعم “ماكدونالدز” الأمريكية التي بدأت سياستها الغذائية بالتغير منذ عام 2003 حين تم اتهامها بتفاقم المشاكل الصحية بين الأطفال الذين يعانون من السمنة المفرطة.
رغم أن ماكدونالدز حاولت إضافة بعض الخيارات الصحية إلى لوائحها، فإن عام 2017 شهد العالم إغلاق فروع لها أكثر مما افتتحت في السنوات السابقة
علمًا أن هذه التغييرات المتتالية لم تأت فقط نتيجة للضغط الحكومي والشعبي، وإنما مع معاناة ماكدونالدز الربحية، ففي عام 2014 بقيت مبيعاتها تنخفض بشكل ملحوظ بسبب تفضيل المستهلكين للغذاء الصحي، فقد كشفت دراسة استقصائية أن المخاوف الصحية أبعدت جيل الألفية عن الأغذية المنتجة صناعيًا التي تحتوي على مواد حافظة، وبالتالي أدى هذا التوجه إلى إجراء ماكدونالدز أكبر تغيير في قائمتها، والانتقال بعيدًا عن الفطائر المجمدة وإدخال الفطائر الطازجة في البرغر.
إذ يعتقد البعض أن المطاعم المعتمدة في قوائمها على النباتات والخضراوات ستكون المسيطرة ومن الصعب على العلامات التجارية القديمة أن تغير مشروعها بالكامل وتقنع المستهلك بحلتها الجديدة، فعلى سبيل المثال، رغم أن ماكدونالدز حاولت إضافة بعض الخيارات الصحية إلى لوائحها، فإن عام 2017 شهد العالم إغلاق فروع لها أكثر مما افتتحت في السنوات السابقة.
وإلى ذلك، يشهد العالم ارتفاعًا لا مثيل له في قطاع الصحة واللياقة البدنية، ما يمثل دفعة أمل قوية للشركات التجارية والمطاعم التي تقدم بدائل صحية وطبيعية للمنتجات الاصطناعية التي ستجذب المزيد من المستهلكين الذين أصبحوا على وعي متزايد باستخدام المواد الكيميائية ومبيدات الآفات في صناعة الأغذية التي يمكن أن تسبب أمراضًا مزمنة مثل السرطان والعيوب الخلقية.