تحت شعار “العراق… استقرار وتنمية” احتضنت العاصمة العراقية بغداد يوم السبت قمة لرؤساء برلمانات دول الجوار، شارك فيها ممثلون لدول مجاورة على خلاف في جميع أنحاء المنطقة، منها السعودية وإيران، وسعت بغداد عبرها الى إرساء عودتها إلى الساحة الدبلوماسية الإقليمية، وتسويق نفسها كمكان اجتماع محايد للقوى المتنافسة في الشرق الأوسط.
قمة رمزية تجمع الخصوم
جمعت القمة التي استغرقت يومًا واحدًا، واستضافها أصغر رئيس للبرلمان في العراق محمد الحلبوسي (38 عامًا)، كبار المشرعين ورؤساء برلمانات من الدول الستة المجاورة للعراق: سوريا والمملكة العربية السعودية وإيران وتركيا والأردن والكويت.
تكمن رمزية هذه القمة في جمع خصوم سياسيين على الطاولة نفسها، حيث جمعت القمة بين الخصمين الإقليميين المملكة العربية السعودية وإيران لسد العلاقات والاستثمار في العراق
وحضر القمة رئيس مجلس الشورى السعودي عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، ورئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم، ورئيس مجلس الشعب السوري حمودة يوسف الصباغ، ورئيسي البرلمانين الأردني عاطف الطراونة والتركي مصطفى شنطوب، فيما أوفدت إيران النائب علاء الدين بروجردي ممثلاً لرئيس مجلس الشورى الذي اعتذر عن عدم المشاركة.
وتكمن رمزية هذه القمة في جمع خصوم سياسيين على الطاولة نفسها، حيث جمعت القمة بين الخصمين الإقليميين المملكة العربية السعودية وإيران لسد العلاقات والاستثمار في العراق، كجزء من جهد أوسع من جانب القادة العراقيين لتشكيل صورة البلاد كصديق بين الجيران.
ويأتي المؤتمر الأول من نوعه في الشرق الأوسط رغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران في عام 2016 وخوضهما حروب بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، ودعم الأخيرة لنظام دمشق ضد المعارضة المدعومة من السعودية، في حين تدعم تركيا وإيران الأطراف المتصارعة في الصراع السوري، الذي عزل دمشق دبلوماسيًا منذ عام 2011، هذا إلى جانب الأردن حليف الولايات المتحدة، العدو اللدود لإيران.
رئيس البرلمان العراقي يستقبل رئيس مجلس الشورى السعودي
كما يأتي الاجتماع الإقليمي أيضًا بعد أشهر من الدبلوماسية الرفيعة المستوى التي قام بها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي والرئيس برهم صالح للتواصل مع الجيران، حيث قام عبد المهدي مؤخرًا بزيارات متتالية سريعة لإيران والمملكة العربية السعودية.
كانت آخر هذه الزيارات يوم الأربعاء الماضي، حيث ذهب عبد المهدي الذي عُين رئيسًا للوزراء في أكتوبر الماضي إلى الرياض مع وفد كبير بعد أسبوعين من إعادة فتح قنصلية السعودية في بغداد لأول مرة منذ 30 عامًا تقريبًا، ورافق الافتتاح الإعلان عن حزمة مساعدات بقيمة مليار دولار للعراق، في المقابل، لجأت الرياض إلى بغداد كجزء من محاولة لوقف النفوذ المتزايد لإيران.
خلال زيارته لطهران في وقت سابق من هذا الشهر، التقى عبد المهدي بالرئيس حسن روحاني والمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، وأكد أن العراق لن يحبذ أحدهما أو الآخر في التنافس القائم بينهما، علمًا أن العديد من قادة العراق، من أغلبيتهم الشيعية، لهم علاقات وثيقة مع إيران، القوة الشيعية الرئيسية في الشرق الأوسط.
وبدلاً من ذلك، يتطلع العراق إلى توسيع نطاق التجارة مع كليهما بينما يتطلع إلى إعادة بناء نفسه، ويسعى للحصول على مساعدات واستثمارات بمليارات الدولارات – خاصة في الطاقة والكهرباء – لمساعدتها على إعادة الإعمار بعد 16 عامًا من غزو الولايات المتحدة عام 2003، الذي أغرق البلاد في حرب أهلية.
السياسة الخارجية الوسطية
منذ عام 2011، كانت العناصر الرئيسية لسياسة العراق الخارجية هي تعزيز الحياد والحفاظ على علاقات جيدة مع كل من الولايات المتحدة وإيران، وتحسين العلاقات مع الدول العربية الأخرى، وكما قال رئيس البرلمان العراقي الحاليّ، فإن العراق يريد أن يكون “نقطة التقاء للجميع”.
تواصل العراق مع جيرانه الإقليميين يكشف أولويات سياسته الخارجية الأوسع، وهو ما أكده رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي في كلمته خلال المؤتمر
ولتفعيل هذه السياسة الخارجية الوسطية، سعت بغداد إلى إصلاح العلاقات مع الجيران العرب، فكانت أول زيارة لرئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي خارج العراق إلى الأردن، في أكتوبر/تشرين الأول 2014، تلتها زيارة لدولة الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، وفي عام 2017، زار العبادي الرياض.
تواصل العراق مع جيرانه الإقليميين يكشف أولويات سياسته الخارجية الأوسع، وهو ما أكده رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي في كلمته خلال المؤتمر، مشيرًا إلى أن العراق بصدد شراكات إستراتيجية واعدة مع دول الجوار دون أي تحفظات أو تحيز لأي طرف، وهو ما يؤكده القادة العراقيون منذ الانتخابات في العام الماضي، ويقولون إنه من الضروري لأمن العراق واقتصاده تطوير علاقات جيدة مع الجيران.
وأكد الحلبوسي أيضًا أن التعاون بين الدول المشاركة في المؤتمر سينعكس إيجابًا على أمنها واستقرارها، والعراق استعاد مكانته بين دول المنطقة، مشيرًا إلى أن لدى بغداد خططًا اقتصادية واعدة مع أنقرة، ومشددًا على حرص العراق على أمن واستقرار المنطقة.
رئيس البرلمان العراقي في أثناء القمة التي عُقدت في بغداد
لكن قول الحلبوسي لم يخف تأثيرات دول الجوار على بلاده، وهو ما اعترف به المتحدث الرسمي باسم رئيس مجلس النواب شاكر حامد، الذي أقر بتدخل دول الجوار بشؤون العراق إلا أنه في الوقت ذاته قلل من تأثيره، فيما أعلن بلوغ حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا 10 مليارات دولار سنويًا.
كما كان ذلك واضحًا في تصريحات النائب العراقي رحيم الشمري الذي قال: “لا نريد مصلحة الدولة الفلانية والدولة الفلانية. العراق خرج من محنة كبيرة جدًا، وموقف الدول عمومًا كان بسيطًا تجاه العراق. نأمل من الدول العربية والإقليمية أن يكون لها دور إيجابي، لأن البعض كان دوره غير إيجابي بصراحة”.
في المقابل، تناثرت كلمات رؤساء برلمانات الدول المجاورة للعراق وفقًا للأهداف التي تخدم سياسة كل دولة، فكانت كلمة لرئيس البرلمان السعودي عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ أكد فيها أن العراق استعاد عافيته وعاد لمكانه الطبيعي، مضيفًا: “نؤكد على أهمية تكاثف الجهود جميعًا للقضاء على الإرهاب بأشكاله كافة”.
أظهرت القمة الرمزية تطلعات بغداد كوسيط إقليمي، لكنها لم تسفر عن نتائج ملموسة
أمّا رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم فقال: “ننظر الى استقرار العراق ضرورة استراتيجية وندعم عراقًا منفتحا على العالم”، وأضاف: “مستقبل المنطقة قائم بالتكامل مع دول الجوار. اجتماعنا في بغداد يعطي أملاً للمنطقة بأن السلام يعد ممكناً ونحن مع عراق مستقر وآمن وموحد”.
رئيس البرلمان الأردني عاطف الطراونة أشار بدوره إلى أن العراقيين تصدوا ببسالة للمجاميع الارهابية بوحدتهم وتكاتفهم، ليؤكد أخيرًا مصطفى شنطوب استعداد بلاده لتقديم كامل الدعم للعراق والتعاون في المجالات كافة.
البحث عن دور جديد
بعد أن خضع لأكثر من ثلاثة عقود من الحرب، يعيد العراق صياغة نفسه كوسيط بين الجيران الذين غالبًا ما يكونون على خلاف بشأن القضايا ذات الثقل، بما في ذلك الحرب الأهلية في سوريا والعقوبات الأمريكية ضد إيران.
وتؤكد القمة على تحول في السياسة الخارجية للعراق تجاه الدول المحيطة بها، فقد تزينت العاصمة بغداد بأعلام الدول على الرغم من الخصومة بين البعض منها مقابل التحالف بين البعض الآخر، وأظهرت القمة الرمزية تطلعات بغداد كوسيط إقليمي، لكنها لم تسفر عن نتائج ملموسة.
كجزء من دورها الإقليمي الجديد، يقود العراق أيضًا مبادرة إقليمية لاستعادة عضوية سوريا – التي تم تعليقها في 2011 – في الجامعة العربية
ومنذ دحر الجهاديين في نهاية العام 2017، يراهن العراق الذي يشهد تجاذبًا بين إيران والولايات المتحدة، على موقعه الجغرافي في قلب الشرق الأوسط، فبعد إعلانه “النصر” على تنظيم الدولة، انفتح العراق مجددًا على دول الجوار من أبواب الحدود البرية، أولاً مع الأردن غربًا عبر منفذ طريبيل التجاري، وقريبًا في الجنوب عبر المنافذ السعودية المغلقة منذ غزو الكويت قبل 30 عامًا رغم تحسن العلاقات بشكل كبير.
وبالنسبة إلى الحدود الغربية الصحراوية المتاخمة لسوريا، فإن بغداد اليوم هي العاصمة العربية الوحيدة التي تتواصل علنًاً مع جميع الأطراف في الداخل السوري، من روسيا مرورًا بالتحالف الدولي والأكراد، وصولاً إلى المعارضة ودمشق التي طلبت رسميًا من العراق شن ضربات جوية على أراضيها ضد تنظيم الدولة.
العراق الشامخ الأبي المنتصر على الإرهاب يتشرف بحضور جيرانه في بغداد العروبة والإسلام والسلام #قمةبغداد_استقراروتنمية #هلا_بيهم
— محمد الحلبوسي (@AlHaLboosii) April 19, 2019
كجزء من دورها الإقليمي الجديد، يقود العراق أيضًا مبادرة إقليمية لاستعادة عضوية سوريا – التي تم تعليقها في 2011 – في الجامعة العربية، وسبق لرئيس البرلمان السوري حمودة الصباغ أن شارك في بداية مارس/آذار وللمرة الأولى منذ بداية الأزمة السورية في العام 2011، باجتماع الاتحاد البرلماني العربي في عُمان.
وغرد رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي عبر صفحته على تويتر عقب لقائه مع نظيره السوري حمودة الصباغ الجمعة قائلا إن “العراق الشامخ الأبي المنتصر على الإرهاب، يتشرف بحضور جيرانه في بغداد العروبة والإسلام والسلام”.
وبينما يظل العراق حليفًا وثيقًا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أوضح القادة العراقيون أنهم لن يكونوا مقيدين بأهداف السياسة الأمريكية لعزل إيران وسوريا، فالعراق يريد الآن بحسب قول عبد المهدي علاقات جيدة مع كل من إيران والولايات المتحدة.
وعود بلا ضمانات
استقرار المنطقة ودعم دور العراق إقليميًا كان أهم ما نوقش من قضايا تعهدت البلدان بدعم الاستقرار ووحدة أراضيه وعمليته السياسية إلى جانب دعم عمليات البناء والإعمار والتنمية والاستثمار فضلاً عن دعم الاعتدال ومحاربة التطرف بجميع أشكاله، خاصة وأن سكان المنطقة هم الذين يدفعون ثمن التطرف في بلد خربته عدة عقود من الصراع، بما في ذلك معركة استمرت 3 سنوات ضد تنظيم الدولة “داعش”.
الملتقى ذهب من خلال مخرجاته للشروع نحو تأسيسي عمل برلماني مشترك على المستوى السياسي، أمَّا فيما يخص الأمن فقد حظي برؤية لإعادة النظر في الترتيبات التي تضمن استقرار دول المنطقة ككل، بهدف الوصول إلى مزيد من التعاون والانفتاح على جميع الأصعدة.
أكد المجتمعون على “دعم عملية البناء والإعمار والتنمية في العراق، رغم أن الـ30 مليار دولار التي وعدت بها الدول المانحة في مؤتمر الكويت بداية العام 2018، لم تصل حتى الآن
الملف الاقتصادي كان حاضرًا بقوة في أعمال هذا المؤتمر الذي أنتج تأسيس اتفاق مبدئي للذهاب نحو تحقيق تكال اقتصادي مشترك يخدم جميع الدول المشاركة، ومن مخرجات المؤتمر أيضًا إيجاد إمكانية الاتفاق على تنسيق الجهود بين العراق ودول جواره، ووضع مصلحة الجميع في ترسيخ دعائم السياسة والأمن فوق كل خلافات.
في البيان الختامي، أجمع رؤساء البرلمانات والمجالس التمثيلية لدول جوار العراق على أن “استقرار العراق ضروري في استقرار المنطقة ويسهم في عودته بكل ثقله السياسي والاقتصادي وموارده البشرية الإبداعية في بيئته العربية والإقليمية”، وشدد على “أهمية دعم الاعتدال ومكافحة التطرف
ودعوا العراق إلى “الحفاظ على علاقات الجوار بمسافة واحدة مع الجميع ومن دون التدخل في شؤونه الداخلية”، رغم أن السياسيين في البلاد يتقاذفون الاتهامات بالولاء لدول ذات مصالح مختلفة، وخصوصًا الولايات المتحدة وإيران وتركيا والسعودية.
وأكد المجتمعون أيضًا “دعم عملية البناء والإعمار والتنمية في العراق، وتشجيع فرص الاستثمار فيه بمختلف المجالات”، رغم أن الـ30 مليار دولار التي وعدت بها الدول المانحة في مؤتمر الكويت بداية العام 2018، لم تصل حتى الآن.
هذا ورغم إعلان العراق في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي عن استعادته السيطرة على كامل أراضيه وهزيمة “داعش”، لا يزال نحو مليوني عراقي نازحين، يقيم معظمهم في مخيمات منتشرة بأرجاء البلاد، من أصل 5.8 مليون تركوا منازلهم في خضم الحرب بين القوات العراقية ومسلحي “داعش”، بين عامي 2014 و2017، وتقول بغداد إنها بحاجة إلى نحو 88 مليار دولار على المدى القصير، لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
كما رفضت الدول المشاركة “التدخل” في الشؤون الداخلية للعراق، رغم أن معظمهم لديهم مصالح سياسية واقتصادية عميقة في البلاد، كذلك لم يعلن الحاضرون عن أي اختراقات دبلوماسية، على الرغم من النجاح الرمزي للقمة في جمع الدول المتنافسة حول طاولة واحدة.
ولتنفيذ ما خرج به المؤتمر، طلب نواب في البرلمان العراقي بوضع آليات قانونية وخطط زمنية وسط وعد بتكرار أعمال المؤتمر سنويًا، ورغم أن حاجة العراق قد يكون أكبر من مؤتمر برلمانات دول جواره، إلا أن مراقبين يرون فيه نقله إيجابية نوعية لعلاقاته بمحيطه التي طالما شهدت توترات سياسية وأمنية.