ترجمة وتحرير: نون بوست
في مركز التعليم، ببلدة شولي، وهو مجمّع مكوّن من ثلاثة طوابق ومترامي الأطراف في منطقة سنجان في أقصى غرب الصين، تغطي القضبان الحديديّة نوافذ وأبواب غرف المبيت المشتركة، التي لا تقفل إلا من الخارج. ويوجد داخل هذا المبيت، مئات الأشخاص من الأقلية المسلمة من الأويغور الذين لا يمكنهم الخروج دون حراسة رسمية. لكن المسؤولين الصينيين، الذين أخذوا مجموعة من الصحفيين الأجانب في جولة حول معسكر “التحول من خلال التعليم” هذا الأسبوع، أصروا على أن هؤلاء المسلمين موجودون هناك طواعية.
في المقابل، امتنع مدير مركز شولي التعليمي، مامات علي، عن الإجابة عندما سُئل عما سيحدث إذا رفض أحد الأويغور الحضور. وبعد برهة من الصمت، أردف علي قائلًا: “إذا رفض أحد منهم المجيء إلى معسكرات إعادة التعليم، فسيتعيّن عليه الخضوع للإجراءات القضائية”، وأضاف مدير المركز أن كثيرين منهم يبقون في هذه المعسكرات لمدة لا تقل عن سبعة أشهر.
آلات الخياطة الموجودة في إحدى الغرف في مركز بلدة شولي التعليمي في سنجان
مركز شولي هو واحد من بين عدد غير معروف من معسكرات إعادة التعليم في سنجان التي تمثّل منطقة ذات أغلبية مسلمة تقع في قلب مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، والتي ترمي إلى ربط القارة الآسيويّة بجارتها الأوروبيّة. من جانبها، تقدّر وزارة الخارجية الأمريكية عدد الأويغور المحتجزين في تلك المعسكرات بنحو مليوني شخص، وهو رقم تنفيه الحكومة الصينية، بيد أنها لا تقدم أي رقم رسمي بديل.
خلال هذا الأسبوع، شاركتُ في جولة نظّمتها الحكومة بمشاركة أربع منظمات إعلامية أجنبية أخرى، داخل ثلاث مدن في سنجان. وفي الواقع، كان برنامج الجولة خاضعًا للرقابة المشدّدة، وكانت جميع الأنشطة منظّمة منذ الصباح الباكر وإلى حدود الساعة 11 مساءً. وتضمنت الجولة محطّات توقف في العديد من الأماكن التي زرتها خلال رحلة دامت 10 أيام إلى المنطقة ذاتها في تشرين الثاني/نوفمبر، والتي لم تكن تخضع لأي إشراف.
مركز بلدة شولي التعليمي
من هذا المنطلق، توضّح هذه الرحلة أن بكين أصبحت أكثر قلقًا بشأن ردود الفعل الدولية التي تكثفت في الآونة الأخيرة وأثارت خوف المستثمرين الذين قيّموا بالفعل التداعيات التي قد تخلّفها العلاقة العدائيّة بين الولايات المتحدة والصين. علاوة على ذلك، انضمّت الدول ذات الغالبية المسلمة إلى كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في سعيهما لإدانة ممارسات الصين. وفي شباط/فبراير، وصفت وزارة الخارجية التركية “معسكرات الاعتقال” بأنها “عار كبير على الإنسانية”.
ركّزت معظم المحطات على إبراز التنمية الاقتصادية والمبادرات التعليمية الجديدة، إذ سعت الحكومة لنشر رسالة مفادها أن سياسات الرئيس الصيني تساعد في تهدئة المنطقة وتنمية الاقتصاد
في الأثناء، شكّلت سياسات الرئيس الصيني لتهدئة السكان المحليين، أكبر تحدٍ لسمعة الصين الدولية منذ أحداث قمع احتجاجات ميدان “تيانانمن” قبل ثلاثة عقود. الجدير بالذكر أن الصين أنكرت في البداية وجود تلك المعسكرات، لكنها تراجعت عن أقوالها وعبّرت عن حاجتها الملحّة لها ودافعت عنها واصفة إيّاها بالسلاح الفعال ضد الإرهاب. في هذا الصدد، صرّحت كبيرة الباحثين الصينية في هيومن رايتس ووتش، مايا وانغ، قائلة: “يمكنك أن تلاحظ أن الحكومة الصينية غيّرت موقفها بشكل أساسي مع مرور الوقت، وانتقلت من الإنكار إلى هجوم مضاد”.
أما خلال هذه الزيارة، فقد أفاد مسؤولون صينيون أن وسائل الإعلام الأجنبية أعطت انطباعًا خاطئًا عن الجهود التي تبذلها الحكومة في سنجان. في المقابل، ركّزت معظم المحطات على إبراز التنمية الاقتصادية والمبادرات التعليمية الجديدة، إذ سعت الحكومة لنشر رسالة مفادها أن سياسات الرئيس الصيني تساعد في تهدئة المنطقة وتنمية الاقتصاد.
خارج المسجد الرئيسي في كاشغار، حيث تم تثبيت كاميرا مراقبة
تعكس هذه الأوضاع ثقة الرئيس الصيني المتزايدة على الساحة العالمية، إذ أنه تحدّى الديمقراطية على النمط الغربي بشكل مباشر، من خلال تقديم نموذج حكومة مركزي يستخدم التكنولوجيا المتطوّرة لمكافأة سلوك مواطنيه ومعاقبتهم والتحكم فيهم في نهاية المطاف. ولكن من أجل إنجاح هذا النموذج، هناك الكثير من الأمور على المحك من قبيل الحدّ من المخاطر التي قد تهدّد سلطة الحزب الشيوعي. وخلال الجولة، لم يكن مسموحًا لي بالتحدث بشكل مستقل مع أي من المقيمين في المعسكر، أو التجوّل في المكان دون حراسة. في المقابل، سُمح للمجموعة بطرح الأسئلة التي اختارها المسؤولون، بما في ذلك بعض الأسئلة المتكررة التي أغضبت مضيفينا في بعض الأحيان.
كانت الزيارة إلى أورومتشي وكاشغر وهوتان متناقضة بشكل تام مع الرحلة التي قمت بها في تشرين الثاني/نوفمبر. ففي ذلك الوقت، تبعنا الحراس عن كثب، وفتّشونا مرارًا وتكرارًا وطلب مني المسؤولون حذف الصور التي قمت بالتقاطها على هاتفي المحمول. وبالتالي، لم أتمكن إلا من إلقاء نظرة من مسافة بعيدة على تلك المخيمات ذات الحراسة المشدّدة.
لكن خلال هذه الزيارة، تحرّكت المركبات الحكومية بحريّة عبر نقاط التفتيش المختلفة، وأزيلت أجهزة الكشف عن المعادن من الأماكن العامة، واختفى ضباط الشرطة الذين كانوا قد احتشدوا في شوارع المدينة سابقًا. مع ذلك، باءت محاولاتي للتجوّل دون مرافقة بالفشل على نحو متكرر. وبعد رؤية المعسكر الأول، أخذنا المسؤولون لتناول الغداء، حيث كانت النساء ترقصن مرتديات الفساتين الملونة على ألحان أغنية بعنوان “سنجان السعيدة”. لكن، ما إن حاولت التجوّل بعيدا عن هذا المشهد، حتى تبعني أحد المسؤولين قائلًا: “أعتقد أنك تهت بحثاً عن المرحاض. فلتسمح لي أن أدلّك على الطريق”.
حملة تضييق الخناق التي شنتها الصين على المنطقة بدأت عقب سلسلة من الضربات التي نفذها الأويغور على المدنيين ابتداء من سنة 2013
قمنا بزيارة معرض لرسوم بيانية مناهضة للإرهاب في مدينة أورومتشي، حيث تضمّنت مشاهدًا لجثث مقطوعة الرأس ومقطّعة الأوصال. وفي وقت لاحق، وداخل المسجد الرئيسي في كاشغر، حيث أُزيلت لوحة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، التي سبق أن علقت في واجهة المسجد، أفاد الإمام أن والده قد لقي حتفه في هجوم من قبل الأويغور ما دفعه إلى “الحقد على الإرهابيين”.
تجدر الإشارة إلى أن حملة تضييق الخناق التي شنتها الصين على المنطقة بدأت عقب سلسلة من الضربات التي نفذها الأويغور على المدنيين ابتداء من سنة 2013، بما في ذلك هجوم باستخدام سيارة ملتهبة في ساحة تيانانمن. وقد أثار هذا التصعيد قلق السلطات التي حاولت مرارًا تهدئة منطقة سنجان، لا سيما إثر أحداث الشغب التي شهدتها أورومتشي في سنة 2009 والتي أودت بحياة حوالي 200 شخص. وكان معظم القتلى من شعب الهان، الذين يشكّلون أكثر من 90 بالمئة من سكان الصين والغالبية العظمى من قيادات الحزب الشيوعي. وفي كاشغر، سألتُ أحد المرشدين المسؤولين على اصطحابنا في جولة، عن وجود إطار أو مسؤول رفيع المستوى في سنجان يؤمن بالدين الإسلامي نظرًا لأنه أمر يتعارض مع قواعد الحزب الشيوعي الملحد رسميًا.
زوار يضعون أغطية أحذية ويتجوّلون داخل المسجد الرئيسي في كاشغر إلى جانب شخص من الأويغور
قال أحد القادة المحلّيين للحزب في المدينة، ويدعى وانغ كويبن: “لم نكتشف وجود أي قائد مسلم إلى حد الآن، وفي حال حدث ذلك، فسيتعرّضون إلى عقاب شديد”. وأشار القائد المحلي إلى أنه قد سأل ذات مرة مسؤولًا أوروبيًا عن كيفية سيطرة بلاده على الإرهاب، فأجاب بأن السلطات “تتخذ تدابير معينة لمكافحة هذه الظاهرة طالما أنها تضمن أن حقوق الإنسان محمية”. وفور سماع هذه الإجابة، تبادر إلى ذهني هذا السؤال: “إذن كيف يمكنكم مكافحتها؟”. وأضاف الزعيم الملحد أنه “لم يعد هناك حاجة للدعوة للصلاة طالما أن الجميع يملكون ساعات. إن الشباب الأويغور الذين يطلقون لحاهم، يتحدّون السلطات المحلية تماما كما تحدّى المحتجون المناهضون للحكومة من السترات الصفراء الحكومة الفرنسية”.
نُسخ من كتاب “حوكمة الصين” في فندق في خوتان
يعرض مسجد آخر في خوتان نسخًا من كتاب شي جين بينغ بعنوان “حوكمة الصين” بعدد مساوٍ لعدد كتب القرآن الموجودة هناك. وقد وُضعت هذه الكتب في الفنادق التي أقمنا فيها، إلى جانب مطويات تحمل وجه جين بينغ. في هذا الصدد، قالت رئيسة قسم الدعاية في خوتان، غو ينغ سو: “في بلدنا، يستحيل وضع الدين فوق القانون”.
“أنا هنا بمحض إرادتي”
سعت الصين إلى جعل بقية دول العالم تتقبّل معسكرات إعادة التعليم في سنجان، حيث قال شون تشانغ، وهو طالب صيني يدرس في كندا ويقوم بتحليل صور الأقمار الصناعية للمخيمات في سنجان، إنه “في وقت سابق من هذه السنة، أزالت السلطات أبراج المراقبة والأسلاك الشائكة المحيطة بمنشأة شولي”.
على اليمين، صورة بالأقمار الصناعية لمنشأة شولي التقطت في 13 آب/ أغسطس 2018، وعلى اليسار، صورة للمنشأة نفسها التقطت بتاريخ 15 آذار/ مارس 2019.
عند وصولنا إلى معسكر ثانٍ لإعادة التعليم والمعروف بمركز التدريب المهني في مقاطعة مويو في خوتان، استقبلنا أفراد من الأويغور مرتدين ملابس تمثّل مجموعتهم العرقية. وقد عُلّقت لوحة جدارية كبيرة الحجم تُصوّر سور الصين العظيم بجوار السلالم وكُتب عليها: “حلم الصين”. وقد لاحظنا وجود صف يضمّ رجالًا يقومون برسم المشهد الطبيعي ذاته. في الأثناء، لُقّن آخرون مهارات عملية على غرار تقنيات التدليك الصيني، فضلًا عن تلقّيهم تعليمًا ليصبحوا نُدلًا أو مربيين للأطفال. كما كان هناك صف لتدريس علم النباتات.
مجموعة من الأويغور بصدد رسم مشاهد طبيعية في مركز التدريب المهني في مقاطعة مويو في خوتان
في الحقيقة، لم يُسمح لنا بالتحدث إلى المحتجزين إلا بحضور المرافقين. ولم يبدُ وكأن أي من المحتجزين قد تعرض لأذى جسدي. كما تجنّب موقع “بلومبرغ” الكشف عن هوية الأويغور الموجودين في المعسكرات أو نشر صور تظهر وجوههم نظرًا لأنه من غير الواضح ما إذا كانوا يشاركون في الأحداث بملء إرادتهم. وكلما حاولنا الاستفسار عن ماهية الجرائم التي ارتكبوها، تلقيّنا إجابات مماثلة تحمل العبارات الرئيسية ذاتها؛ لقد تأثروا “بالفكر المتطرّف” وسعوا إلى “نشر” هذا الفكر لدى الآخرين قبل أن يدركوا خطأهم عند قدومهم إلى المعسكرات. وقد استخدم العديد منهم عبارة: “أريد أن أقول إنني هنا بمحض إرادتي”. ومن المثير للدهشة أن المحتجزين يقومون بتكرار إجاباتهم بحذافيرها كلّما طُلب منهم ذلك.
روزنامة أسبوعية لنظام الوجبات، وكاميرا مراقبة، معلقتان على حائط بمركز التعليم في مقاطعة شولي
سألتُ المرافقين عن السبب وراء التشابه الشديد في الإجابات، لكن المسؤولة غو فضّلت التزام الصمت. في المقابل، حاول أحد زملائها نفي حقيقة أن المحتجزين قد حفظوا الإجابات ذاتها. في هذا الشأن، قال نائب رئيسة قسم الدعاية في سنجان، شو غوي شيانغ، إنه “من الطبيعي أن يقدموا الإجابات ذاتها لأنهم سُئلوا عن المسألة نفسها. ربما يعود هذا الأمر إلى شعورهم بالتوتر أثناء التحدث مع شخص أجنبي، ويُرجح أنه من الصعب عليهم التعبير عما يريدون قوله باللغة الصينية باستخدام لغة أجنبية”.
المصدر: بلومبرغ