يستمر النقاش حول “اليوم التالي” للحرب ضد قطاع غزة في إثارة الجدل منذ شهور، على مختلف الأصعدة داخل حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك في مواقف الأحزاب سواء كانت في الحكم أو المعارضة، خاصة بين القوى اليمينية التي تتبنى أجندة استيطانية ومهووسة بإعادة احتلال غزة.
وفي إطار ردّه على الأخبار حول إمكانية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، جدّد وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، دعوته إلى إعادة احتلال القطاع، مؤكدًا أن “الخطوة الصحيحة” تكمن في السيطرة الكاملة عليه.
تعدّ تصريحات زعيم الصهيونية الدينية استكمالًا لسياق متسلسل يهدف إلى تحويل فكرة السيطرة الإسرائيلية الكاملة على القطاع إلى نتيجة منطقية للعمليات العسكرية الحالية، وضرورة أمنية إسرائيلية حتمية، وذلك بعد فشل محاولات إنشاء نظام محلي متعاون مع الاحتلال.
بين الدعوات والتحذيرات
بدأت الدعوات إلى إقامة حكم عسكري في غزة منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ورغم أن أهدافها المعلنة لا تتضمن هدفًا واضحًا بشأن هذه الجزئية، تفتح طبيعة الصياغة الفضفاضة لأهداف الحرب الإسرائيلية المجال لتعبير مختلف عن الأدوات للوصول إلى النتائج المرجوة.
ينص الهدف الثالث من تلك الأهداف على “ضمان أن غزة لن تشكّل تهديدًا مجدّدًا”، وفي التفسير تبرز أفكار وأطروحات وطموحات إسرائيلية عديدة، ففي الوقت الذي تسوّق فيه الجماعات الاستيطانية لفكرة الاستيطان بوصفها ضامنًا رئيسيًّا للأمن، يروّج أيضًا للحكم العسكري في غزة على أنه الوسيلة الأجدى للتفكيك الكامل البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية هناك وتحقيق تغيير بعيد المدى.
في أواخر يناير/ كانون الثاني 2024، شدّد سموتريتش في مقابلة مع “القناة 12” الإسرائيلية، على أن من يجب عليه إدارة الأمور في غزة الجيش الإسرائيلي، وقال: “سيكون حكمًا عسكريًا في غزة طالما ظلّت حماس موجودة”.
يرى سموتريتش أن على “إسرائيل” تولّي مهمة إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة بنفسها، معارضًا تسليمها إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، واستطرد: “سيكون حكم عسكري في غزة، نحن جميعًا متفقون على أننا يجب أن نبقى في غزة”، وأضاف: “إما أن يتولى الجيش الإسرائيلي إدارة الأمور هناك، وإما أن تتولى حماس إدارة الأمور. الطريقة الوحيدة أن يتحكم الجيش فيما يحدث”.
لم تنحصر الدعوات في تصريحات سموتريتش ووزراء وقادة الصهيونية الدينية، بل روّج لها أيضًا أعضاء بارزون في حزب الليكود ومقرّبون من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، كان أبرزهم رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، الذي قال إن ثمة بدائل عديدة لضمان “اختفاء حماس” من غزة، أبرزها “سيطرة الجيش الإسرائيلي، أو الحكم العسكري، أو الحكم من قبل سلطة محلية أو قوات مشتركة”.
وقال وزير الزراعة في حكومة الاحتلال ورئيس الشاباك السابق من الليكود، آفي ديختر، إنه “لا طرف غير إسرائيل سيدير غزة، وهذا يشمل حكمًا عسكريًّا إسرائيليًّا. بعد تدمير قدرة حماس العسكرية، نواجه مشكلة كبيرة في قدراتها الحكومية، ولإضعافها ليس ثمة خيار آخر: على إسرائيل أن تحكم غزة بكل ما لكلمة “حكم” من معنى”.
وكان سكرتير نتنياهو العسكري، الجنرال رومان جوفمان، رجّح في وثيقة أعدّها أن التوصية الرئيسية لشكل الحكم القادم الأجدى لأمن “إسرائيل” في القطاع، تتمثل بإقامة حكم عسكري.
تبنّى هذا المسار جنرالات وخبراء متعددون، كان أهمهم وزير العدل الإسرائيلي الأسبق حاييم رامون، المعروف بدعمه لنتنياهو، الذي يرى أن الجيش الإسرائيلي حطّم إطار حماس العسكري ونسي سلطتها المدنية، قائلًا إن الحل يكمن في حكم عسكري مؤقّت، فيما اقترح رئيس الإدارة المدنية والمتحدث باسم جيش الاحتلال سابقًا، اللواء احتياط موتي إلموز، الاعتراف بالواقع وإقامة حكم عسكري في القطاع.
كما قال أحد المحللين السياسيين في صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، إنه “لن يحقق النصر والاستقرار سوى الحكومة العسكرية الإسرائيلية. لا مفر من حكومة عسكرية لإسقاط الأرض من تحت سيطرة حماس. كل الحلول الأخرى محاولات متعرجة للهروب من الواقع”.
في السياق، تخلل الزيارة الاستعراضية الأخيرة لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، مع وزير حربه يسرائيل كاتس، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى محور نيتساريم، واللقاء مع قيادة فرقة، نقاشٌ لمستقبل الإجراءات العسكرية الإسرائيلية في غزة، ما كشفه الأخير بقوله إن “الحكومة تخطط لإقامة حكم في القطاع لفترة زمنية غير محدّدة”.
في المقابل، كان أول الأصوات المعارضة لهذا التوجه صوت وزير الحرب المقال يوآف غالانت، الذي سبق أن صرّح قبل إقالته بأن “إدارة عسكرية إسرائيلية في غزة ستصبح الجهد الدفاعي الرئيسي لإسرائيل في السنوات القادمة على حساب الساحات الأخرى، وسيترتب على ذلك خسائر في الدماء والضحايا، وثمن اقتصادي باهظ”. وحظي موقفه بدعم وموافقة عضوَي مجلس الحرب المستقيلَين، بيني غانتس وغادي أيزنكوت.
أعاد غالانت تأكيد جوهر هذا التحذير من موقعه بوصفه معارضًا، تعقيبًا على مضيّ خلفه في الوزارة، كاتس، في خطط نتنياهو وسموتريتش المرتبطة بسيطرة الجيش على توزيع المساعدات في قطاع غزة، مؤكدًا أنه سيكون ثمن فكرة تولي “إسرائيل” المسؤولية الأمنية عن ذلك من “أرواح الجنود”، معتبرًا أن مسألة تكليف شركات خاصة بتوزيع الغذاء في غزة بتأمين من الجيش الإسرائيلي “تعبير ملطّف” للإدارة العسكرية في غزة، مؤكدًا أن تلك الإدارة “ليست من أهداف الحرب، بل عمل سياسي خطير وغير مسؤول”.
ويعدّ موقف غالانت تعبيرًا مباشرًا عن رأي المؤسسة العسكرية الإسرائيلية السائد، ما أكده سموتريتش بالحديث عن المعارضة التي يبديها الجيش لتوجهات المستوى السياسي، مضيفًا أن “الجيش رفض بشدة أن يأخذ على عاتقه أي شيء تفوح منه رائحة إدارة عسكرية”.
وأكمل: “في أهداف الحرب يوجد بند التدمير الكامل لحكم حماس في غزة، عسكريًّا ومدنيًّا. نحرز تقدمًا جيدًا للغاية في السياق العسكري، لكن ليس ما يكفي في المدني. إن أردنا إسقاط حكومة حماس، فعلينا أن نبحث عن أحد يوزع المساعدات هناك”.
كما أضاف أنه “لا يمكن عدّ سيطرة الجيش على المساعدات وخطواته للبقاء في غزة لإطاحة حماس حكمًا عسكريًّا”، وأن “الآليات التي تجهّز ستكون بمثابة سيطرة عملياتية على القطاع لسنوات عدة طويلة المدى، لمنع غزة من تشكيل تهديد لمواطني إسرائيل”.
تكتيك قديم بوجه جديد
بدأ الحكم العسكري مع بداية الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، كأداة لإخضاع الفلسطينيين، حيث سعى الاحتلال لإحكام السيطرة على من تبقّى من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وبموجب قوانين الطوارئ المستمدة من القانون الانتدابي البريطاني (1945)، أصبح ذلك الحكم ناظم الحياة العمومية هناك، وبدأ يسيطر تدريجيًّا على المدن الكبرى، مثل اللد والرملة ويافا وعكا، لتقييد الوجود العربي وضبط حركة الفلسطينيين وقمعهم، وأما المناطق الأخرى التي استتبَّ فيها الأمر للمستوطنين أو تحولت إلى “مناطق يهودية طاهرة”، فخرجت من سلطة الحاكم العسكري إلى سلطة الحكومة الاسرائيلية.
بعد استقرار الأوضاع وفرض دولة الاحتلال ركائز حكمها، تقرّر أن يكون الحكم العسكري، وتقرّر تثبيته وفرضه على مئات آلاف الفلسطينيين لأهداف متعلقة بقضايا أمنية حدودية من منع عودة اللاجئين، وخطر الفدائيين، وحظر التواصل في جميع أشكاله، وشمل ذلك التهريب عبر الحدود.
وخلال سنوات الحكم العسكري، صادرت سلطات الاحتلال أراضي القرى العربية المتبقية، وفرضت قيودًا على حركة الفلسطينيين، ودمّرت قراهم المهجّرة، وأنشأت على أنقاضها المستوطنات، ومنعتهم من دخول المناطق العسكرية المغلقة، واعتمد الحكم العسكري على مبدأ المراقبة اللصيقة للفلسطيني، وتقويض كل المقومات التي يمكن أن تزيد ارتباطه بالأرض.
في أعقاب حرب 1967، خضع قطاع غزة والضفة الغربية للحكم العسكري الإسرائيلي ذاته، وكانت مهمته التحكم بالسكان في الضفة والقطاع وسيناء والجولان من قبل “هيئة الحكم العسكري”.
أُنهي هذا الحكم وأُعيدت سيناء إلى السيادة المصرية في العام 1982 ضمن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، فيما حوّلت غزة والضفة إلى الإدارة الأمنية الإسرائيلية في العام 1981، وضم الاحتلال الجزء الغربي من الجولان في العام ذاته، ما ألغى أيضًا نظام الحكم العسكري كليًّا.
وبمقارنة سريعة بين أهداف الحكم العسكري في كل حقبة، تهدف حاجة الاحتلال لإخضاع الفلسطينيين وخوض مسارات التغيير بعيد المدى، وخلق وقائع جديدة تمهّد لخطط جوهرها استكمال مخططات السيطرة على الأرض، وخلق فرص لتعزيز الاستيطان وتطبيق مخططات الترانسفير.
في سنوات النكبة، شكّل تهجير الفلسطينيين وتعزيز الاستيطان أحد أهم أهداف ذلك الحكم، فيما كانت “هيئة الحكم العسكري” المظلة الرئيسية التي أُنشئت تحت مسؤوليتها عشرات المستوطنات في الضفة والقطاع وسيناء، والتي تحولت إلى مواقع متقدمة لجيش الاحتلال وأدوات لفرض سيطرة بعيدة المدى.
في خطته لحسم الصراع، يرى بتسلئيل سموتريتش أن الخطأ التاريخي الذي وقع فيه ديفيد بن غوريون وقادة “إسرائيل” الأوائل، كان أنّ تهجير من تبقّى من الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة لم يستكمل، وهو خطأ يتطلب في نظره خطوات كبيرة لإصلاحه لاستكمال إقامة “الدولة اليهودية الخالصة”.
وبالتالي يتمثل جوهر دعمه المطلق لفكرة الحكم العسكري -وإن غلّفت آنيًّا بالحاجة للإجهاز على حكم حماس- بالتمهيد العملي للاستيطان في غزة، والقضاء على أي أفق لحكم فلسطيني يثبت أهالي القطاع على أرضهم، ما يمهّد لما روّج له إيتمار بن غفير كثيرًا في الآونة الأخيرة، وهو دفع الفلسطينيين إلى “الهجرة الطوعية” بعد فشل آلة الحرب والقتل في مهمة التهجير القسري.
ثمن الاحتلال: أعباء اقتصادية وبشرية
يُرجع معارضو فكرة الحكم العسكري موقفهم إلى عدة اعتبارات تعكس تخوفات تمسّ في غالبها الجوهر الاستراتيجيّ لمثل هذه الخطوة، ففي الوقت الذي يسوّقها فيه أنصار اليمين الديني بوصفها جوهر المصلحة الاستراتيجية الصهيونية، يرى جنرالات وقادة عسكريون وخبراء أن الأضرار الاستراتيجية الناتجة عن حكم قطاع غزة عسكريًّا كبيرة ومتعددة الجوانب.
سواء على صعيد التكلفة، أو تعزيز المخاطر الديموغرافية على تركيبة السكان داخل الأراضي المحتلة، في حال انهيار التمثيل السياسي للفلسطينيين وتحوّلت هذه الكثافة السكانية إلى قنبلة ديموغرافية ملقاة في حضن “إسرائيل”، أو من حيث الخوض في مسار طويل يعيد “إسرائيل” قانونيًّا إلى القطاع بصفتها سلطة احتلال تتحمل مسؤولية السكان وتلبية احتياجاتهم.
يرى رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) السابق ومدير معهد دراسات الأمن القومي، الجنرال احتياط تامير هايمان، حاليًّا أن “الحكم العسكري خطة ناجعة تكتيكيًّا، لكنها سيئة جدًّا من سياسيًّا واستراتيجيًّا، وثمنها هائل من حيث الميزانية ومن حيث رصد قوى بشرية لتنفيذها”.
يضيف هايمان أن “مغزى الحكم العسكري في غزة يتمثل بوجود دائم للجيش الإسرائيلي بحجم كبير جدًّا ولوقت طويل، وستكون لذلك تداعيات سلبية دوليًّا، وإزاء الدعم الأمريكي للحرب، وسيؤثر في الاقتصاد الإسرائيلي جراء توسيع تجنيد الاحتياط في الجيش والاحتكاكات الدائمة مع الفلسطينيين”.
وأما رئيس قسم القانون الدولي في النيابة العامة العسكرية الإسرائيلية، والمستشار القانوني لوزارة خارجية الاحتلال، يوئل زينغر، فيحذّر في تقرير في صحيفة “هاآرتس” العبرية، من تبعات الحكم العسكري الإسرائيلي الكامل أو الجزئي للقطاع، والتكلفة الباهظة التي ستدفعها “إسرائيل” من حيث الموارد البشرية والاقتصادية.
وأضاف أنه لا يمكن للحكومة الإسرائيلية في حال تمسكت بذلك الخيار التنصل من مسؤوليتها القانونية الناتجة عن ذلك، المتمثلة بـ”رعاية السكان” المدنيين في غزة، مؤكدًا أنها لن تتمكن “من دفن رأسها في الرمال”، وأنها إن فعلت فـ”لن يكون بعيدًا اليوم الذي سيأتي فيه الحساب، سواء في المحكمة العليا الإسرائيلية أو في واشنطن أو لاهاي”.
وسبق أن بيّنت وثيقة أعدّتها المؤسسة الأمنية، نشرتها “يديعوت أحرونوت”، لتحليل التبعات المالية لتشكيل حكومة عسكرية في غزة، أن تكلفة السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع ستصل إلى 20 مليار شيكل سنويًّا، وأنها ستعني أزمة غير مسبوقة في الميزانية، ستثقل كاهلها وستضرّ كثيرًا بالخدمات المقدمة للمواطن الإسرائيلي.
ووفقًا للوثيقة، سيكلف إنشاء ممر إضافي لدخول قوات الجيش إلى هناك نحو 150 مليون شيكل، لا تشمل تكلفة التشغيل الجاري، وستكون ثمة تكلفة إضافية لإعادة إعمار القطاع (بنية تحتية، ومستشفيات، ومدارس، وطرق، وإنشاء بنية تحتية للحكومة العسكرية.. إلخ)، وستتطلب السيطرة الأمنية تشغيل 5 إدارات هناك وفقًا لعدة معايير.
ومن حيث القوة العسكرية، قالت إنه ستكون ثمة حاجة إلى 4 فرق هجومية وفرقة دفاعية، وإن نقل القوة البشرية إلى القطاع سيتطلب تقليص عدد الكتائب في القيادة الشمالية والقيادة الوسطى، وزيادة كبيرة في نطاق الاحتياطيات للتوظيف العملياتي، ما سيشكّل ضررًا على القدرات الدفاعية على بقية الجبهات.
ولرغم أنه لا يوجد موقف نهائي في الحكومة الإسرائيلية من فكرة الحكم العسكري، يتمسك نتنياهو بأن الهدف بسط “السيطرة العسكرية” للجيش الإسرائيلي على غزة، لا فرض حكم عسكري، وبين السيطرة والحكم تكمن طبقات مأسسة عديدة لشكل وطبيعة إدارة شؤون السكان في القطاع.
يبحث نتنياهو عن أقل الخيارات تكلفة، وهو سيطرة عسكرية وأمنية، وحرية عمل لجيش الاحتلال داخل القطاع، وتمركز محدود للقوات في محاور عسكرية تمثّل مراكز للسيطرة والقيادة ورؤوس جسور للقوات للإغارة على مناطق القطاع وتقسيمه وتسهيل السيطرة عليه، دون أن تتورط مباشرة في المسؤولية عن إدارة شؤون السكان مدنيًّا وتحمل كلفة هذه الإدارة.
يستثمر سموتريتش وبن غفير فكرة “السيطرة العسكرية” بوصفها خطوة أولى يمكن المراكمة عليها، تمهيدًا للدفع تدريجيًّا بإقامة الحكم العسكري الإسرائيلي في القطاع، والخوض بعمق أكبر في سياسات تعزيز الترانسفير الجديد.
لقد زال جزء أساسي من أكبر العقبات الداخلية والدولية التي كانت ماثلة أمام أنصار فكرة الحكم العسكري، بعد استبدال غالانت (المعارض للخطوة بشدة) بكاتس (المتماهي مع توجهات نتنياهو)، إضافة إلى فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية (المعروف بتوجهاته الداعمة لتوسيع السيطرة الإسرائيلية و”حاجة إسرائيل لزيادة مساحتها”).
يبقى محدّد التكلفة البشرية والإمكانية العملياتية لحركة جيش الاحتلال داخل شوارع وأحياء قطاع غزة، ومن ثم توليه مهام أكثر صلة بالسكان، مثل توزيع المساعدات، المحدّد الرئيسي، وبالتالي إن اللحظة التي تتلاشى فيها المقاومة الميدانية، وتصبح حركة جيش الاحتلال وتوغلاته داخل أحياء القطاع تحتاج إلى عدد قوات أقل بخسائر أقل، ستكون اللحظة الأمثل التي سيندفع فيها الطامحون لحكم غزة عسكريًّا لزيادة الضغط للانتقال بخطوة جديدة نحو تحقيق خططهم.
وبناءً عليه، دفعت حصيلة الخسائر الإسرائيلية في العملية العسكرية الكبرى في مخيم جباليا، والتي وصلت إلى متوسط مقتل جندي كل يومين داخل المخيم الذي تعرض لـ 3 عمليات عسكرية وتدمير شامل، إلى إعادة نقاش ثمن الخسائر البشرية التي سيدفعها جنود الاحتلال بفعل المزيد من الوقت لتواجد الجيش داخل القطاع.
من جانب آخر، لا تزال “إسرائيل” ترفض الاعتراف رسميًّا بأن غزة باتت تحت الاحتلال الكامل، إلا أنها لن تستطيع الاستمرار في هذا التجاهل لإقرار الوضع القانوني للقطاع طويلًا، والذي سيعني في المحصلة إقرار المسؤولية القانونية عن تلبية احتياجات سكان القطاع الإنسانية، وسط ضغط شكّلته مجريات محكمتي العدل الدولية والجنايات بخصوص الواقع الإنساني في القطاع، وما أثارته المؤسسات الدولية حول المسؤولية الإسرائيلية المباشرة عن زيادة حالة المجاعة هناك، بسبب إجراءات الحصار ورفض تأمين قوافل المساعدات.
ينطوي على إقرار “إسرائيل” بسيطرتها الكاملة واحتلال قطاع غزة، تحمّلها القانوني لمسؤولية التعامل مع ما دمّرته آلة حربها هناك، وما تبع ذلك من كوارث إنسانية متفاقمة وحاجة ملحّة للسكان لأبسط مقومات الحياة، وهو ما لا تريده الحكومة الإسرائيلية التي تبحث عن احتلال مجاني لا تتحمل فيه مسؤولية السكان وإدارتهم، وهنا تعود إلى الواجهة المعضلة المستمرة لفشل سيناريوهات “اليوم التالي”، ووجود نظام محلي موالٍ يتولى تحمل هذه المسؤولية.