كثيرًا ما ارتبط بأذهاننا أن للقراءة طقوس معينة، أكثرها شيوعًا شرب القهوة في مكان هادئ، إذ باتت هذه العادة سمة شائعة بين محبي الكتب الذي يبحثون عن الكافيين وقدرته في إبقاء عقولهم يقظة طوال فترة القراءة، ولا شك أن فعالية القراءة تصبح أكثر متعةً حين تكون في بيئة تسمح بالقراءة في نفس المكان لساعات دون انقطاع أو تشتيت، وذلك ما اهتمت به تركيا منذ زمن الدولة العثمانية التي أسست مقاه شعبية يتجمع فيها الناس لمطالعة الصحف والمجلات والكتب، إلى جانب احتساء الشاي أو القهوة.
ولكن في يومنا هذا، اختلفت هذه العادة قليلًا، إذ أصبحت غالبية هذه المرافق مخصصة لملء فراغ أوقات الناس بالألعاب، ومع ذلك تحاول البلديات التركية استرجاع الأجواء الثقافية في داخلها، بناءً على دعوة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان الذي طالب بإنشائها وإعادة إحيائها من جديد، فعلى سبيل المثال، قامت بلدية مدينة “فان” بافتتاح العديد من هذا النوع من المقاهي للشباب تحت شعار “الشاي والقهوة مجانًا لقارئ الكتب”، بهدف نشر هذه العادة بين الشباب.
علمًا أن هذا المقهى يحتوي على 4 آلاف كتاب ورقي ورقمي متنوع بين الدين وعلم الاجتماع وعلم النفس والأدب والشعر العالمي والتركي، ينطبق ذلك على غيره من المقاهي المكتبة التي تضم آلاف أخرى من الكتب، بالجانب إلى مرافق ترفيهية للأطفال وغرف للحاسوب مفتوحة لجميع الناس وليس فقط للطلاب، فما قصة هذه المقاهي المكتبية؟
ظهور مقاهي القراءة في تركيا
يقول أحد رؤساء البلديات في تركيا إنهم عادة ما يشكون من ابتعاد الشباب عن القراءة، ولكن في الحقيقة كل ما يحتاجه هؤلاء هو بعض الوقت والمساحة لتنمية هذه العادة ولا يمكن لومهم إذا لم تتوفر لهم الفرصة والظروف للقراءة في مكان يوفر لهم الأجواء المناسبة. وقديمًا كان الأتراك يقضون أوقاتهم في هذه المقاهي لدردشة والحديث مع الآخرين ومشاركة الأفكار والمشاكل بين أهالي الحي الواحد، ولكن هذه العادة اختفت تدريجيًا مع الزمن.
ومن قبل أن تفقد قيمتها الثقافية، كانت تنتشر هذه الأماكن بأسماء مختلفة مثل “قراءات خان” و”كتاب إيفيه” أي منزل الكتاب، وهي مصطلحات قديمة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، أي في عهد السلطان سليمان القانوني وتعني المكان الذي يرتادونه الناس ويجتمعون فيه للمطالعة والقراءة، ولا يمكننا سرد تاريخ هذه المقاهي دون الحديث عن وصول القهوة إلى الدولة العثمانية في القرن السادس عشر.
بلغ عددها في البداية نحو 600 مقهى ووصل إلى ألفين و500 مقهى في نهاية القرن السادس عشر وكان غالبية روادها من الأدباء والمفكرين والفنانين، بالإضافة إلى موظفي الدولة والقضاة
إذ يُقال بأن إنتاج القهوة بدأ في الحجاز أولًا ثم القاهرة، وبعدها أحضرت إلى إسطنبول من خلال قوافل الحج من سوريا، وتحديدًا من قبل والي اليمن أوزدمير باشا، وبعد فتح مصر بفترة السلطان ياووز سليم، حيث أصبحت إسطنبول مركزًا لشرب القهوة وتجارتها، وفي فترة قصيرة من الزمن افتتح أول مقهى في إسطنبول في خمسينيات القرن السادس عشر من قبل “القهوجيين” العرب، وهما حكم الحلبي وشمس الدمشقي في منطقة “تاهتاكالي” أو تاهتا قلعة في إسطنبول في عام 1554.
عقب ذلك، بدأت المقاهي تتكاثر في المدن الأخرى وامتدت إلى المدن والقرى، إذ بلغ عددها في البداية نحو 600 مقهى ووصل إلى ألفين و500 مقهى في نهاية القرن السادس عشر وكان غالبية روادها من الأدباء والمفكرين والفنانين، بالإضافة إلى موظفي الدولة والقضاة والطلاب. مع العلم، أن هذه المقاهي بلغت ذروتها الاجتماعية في عهد السلطان سليمان القانوني الذي أمر بتوزيع الكتب والقصص على رواد هذه الأماكن ونشر الصحف والمجلات فيها. ومنذ ذاك الوقت، ازداد إقبال الناس عليها ولا سيما بعد تسابق أصحاب المقاهي على جذب الزوار والزبائن من خلال تنظيم العروض الترفيهية والموسيقية.
سبب آخر لشعبية المقاهي هو أن الأشخاص الذين اضطروا إلى إنفاق الكثير من المال لإطعام ضيوفهم وأصدقائهم في المنزل كانوا قادرين على تأدية هذا الواجب بثمن زهيد ومعقول في هذه المقاهي، فلم يعد حينها من الضروري الترحيب بالضيوف في المنزل.
كيف فقدت مقاهي القراءة قيمتها في تركيا؟
بالجانب إلى أهميتها الاجتماعية، اكتسبت هذه المقاهي أهمية سياسية في تشكيل حركات مناهضة للحكم، فلقد كانت تجرى أحاديث مختلفة عن أحوال البلاد والأحداث السياسية، ما دفع السلطان مراد الرابع في عام 1583 إلى إغلاقها لأن أحدهم قام بانتقاد شؤون الدولة وسلطاتها خلال إحدى المناقشات السياسية، لكن جاء السلطان محمد الرابع وسمح بافتتاحها من جديد. ومع ذلك لم تكتسب قيمتها الاجتماعية القديمة، فلقد بدأت أجواء المقامرة والسرقة وحتى القتل بالانتشار داخلها، ما دفع العديد من السلاطين إلى فرض الحظر والعقوبات عليها شيئًا فشيئًا وبالتالي خسرت هذه المقاهي وظيفتها ومكانتها الأولى في نهاية القرن الثامن عشر.
البلديات الحالية تسعى من خلال تنظيم مجموعة من المشاريع إلى إعادة هذا التراث الاجتماعي الذي دام لأكثر من نصف ألف عام منذ القرن السادس عشر.
في المقابل، تشير بعض المصادر التاريخية الأخرى إلى أن تردد الأئمة وطلاب المدارس الدينية على هذه المقاهي وتقاعسهم عن الذهاب إلى الجوامع والالتزام بالفرائض الدينية، أثار سخط أساتذة وعلماء الدين الذين أصدروا فتاوى تحرم شرب القهوة في عام 1591، ما أثر على شعبية ورواج هذه الأماكن.
وحتى وقت قريب كانت هذه المقاهي لا تزال بلا أي هوية ثقافية أو رمزية اجتماعية، فلقد اقتصرت فعالياتها على شرب القهوة والشاي والألعاب الشعبية، ولكن البلديات الحالية تسعى من خلال تنظيم مجموعة من المشاريع إلى إعادة هذا الإرث الاجتماعي الذي دام لأكثر من نصف ألف عام.