أسدل الستار على الاستفتاء على التعديلات الدستورية المقترحة في مصر، وسط حالة من الجدل بشأن التجاوزات التي شهدتها أيام الاستفتاء الثلاثة والتي جاءت على رأسها الرشاوى الانتخابية وتوزيع كراتين السلع نظير المشاركة والتصويت بالموافقة.
الأجواء العامة التي شهدتها أيام الاستفتاء على التعديلات التي تمكّن الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي من البقاء في الحكم حتى 2030، تميّزت بالضبابية والغموض في كثير من الأحيان وسط إصرار على تجييش الدولة أجهزتها لتقديم صورة للخارج تعكس الإقبال الشعبي على هذه الخطوة التي قوبلت بانتقادات واسعة، محليًا ودوليًا.
بصرف النظر عن النتيجة المتوقعة لهذه الخطوة والتي من المرجح ألا تخرج بعيدًا عن نتائج الاستفتاءات الثمان التي شهدتها مصر خلال الـ 54 سنة الماضية، إلا أن المشهد بكافة تفاصيله ساهم في تشويه العديد من المؤسسات والكيانات التي ربما كانت تتمتع قبل بدء هذه العملية بقليل من المصداقية، الأمر الذي ربما يرجّح ما ذهب إليه البعض بشأن تغيير في خارطة الدولة السياسية عقب طي هذه الصفحة.
بعيدًا عن الرابحين من وراء تمديد ولاية السيسي وبسط المزيد من نفوذه في إحكام قبضته على المشهد وتعزيز صلاحيات المؤسسة العسكرية على حساب بقية مؤسسات الدولة، وهي المكاسب التي يراها البعض محل شك على المستوى البعيد، إلا أنه من المؤكد هناك خاسرون من هذه الخطوة.
كراتين “مستقبل وطن”
ربما ينقلب السحر على الساحر، ففي الوقت الذي جيّش فيه حزب “مستقبل وطن” الداعم للنظام الحالي، كافة أجهزته وإمكانياته لتعزيز مكانته والتسويق لنفسه استعدادًا للانتخابات التشريعية المقبلة، إذ به يتعرض لأكبر حملة انتقادات منذ تدشينه، الحملة التي ربما تضرب شعبيته بصورة كبيرة.
الحزب صاحب الأغلبية الأكبر في البرلمان الحالي أعاد استنساخ نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك في استغلال حاجة الناس وفقرهم لكسب أصواتهم، فضخ ملايين الكراتين المحملة بالسلع الغذائية (أرز- زيت – سكر- شاي) أمام اللجان وفي مستودعات قريبة منها، بحيث يحصل كل مشارك في الاستفتاء على كرتونة وربما أكثر حال نجاحه في استحضار العديد من الأشخاص.
وجد الحزب المدعوم من أجهزة الدولة نفسه في مأزق ربما يهز شعبيته التي أنفق عليها عشرات المليارات خلال العامين الماضيين، ما دفعه للبحث عن شماعة للهروب من المستنقع الذي أوقع نفسه فيه
الكراتين لم تكن سلاح الحزب الوحيد، بل لجأ في بعض الأحيان إلى تقديم رشاوى مالية، تتراوح ما بين 50-200 جنيهًا مقابل الصوت الواحد، وبحسب شهادات موثقة من بعض الناخبين فقد حصلوا على أضعاف تلك المبالغ مع اقتراب انتهاء التصويت في اليوم الثاني والثالث.
نجح رواد السوشيال ميديا في فضح الحزب ورشاويه، وقاموا ببث عشرات الصور والمقاطع المصورة لتوزيع الكراتين والرشاوى، الأمر الذي دفع الكثير من بينهم داعمين للحزب للتنصل مما حدث، مطالبين بفتح تحقيق فوري في هذه الفضيحة التي تناقلتها وسائل الإعلام الغربية تحت شعار ” الغذاء مقابل الصوت في استفتاء يبقي السيسي في الحكم حتى 2030″.
وجد الحزب المدعوم من أجهزة الدولة نفسه في مأزق ربما يهز شعبيته التي أنفق عليها عشرات المليارات خلال العامين الماضيين، ما دفعه للبحث عن شماعة للهروب من المستنقع الذي أوقع نفسه فيه، فبادر بدعم من بعض وسائل الإعلام المحسوبة على رجال أعمال موالين للنظام بتحميل جماعة الإخوان وما قيل بأنها أحزاب داعمة لها بالمسئولية، متهمين إياها بشراء تلك الكراتين وتوزيعها على الناس مقابل التصويت بنعم، وهو المبرر الذي أثار سخرية الجميع.
عقيدة حزب النور
في الانتخابات الأولى التي تلت ثورة 25 يناير، سواء التشريعية أو الرئاسية، حرص حزب النور كونه الحزب الذي يمثل التيار السلفي في مصر كما عرف نفسه بداية تدشينه، على تجنيب النساء المشاركة في مثل هذه الاستحقاقات، بل وصل الأمر إلى منعهم نشر صورة أي إمرأة في قائمة المرشحين عن الحزب في كل دائرة، وكانوا يكتفون بوضع صورة اعتبارية كالزهرة أو غيرها.
الحزب كان ينتهج حينها عددًا من المعتقدات التي طالما نادت بإسلامية الدولة، وحارب كثيرًا لأجل هذا الهدف، وبلغت ذروة التصعيد إبان فترة الرئيس الأسبق محمد مرسي، بل وصل الأمر إلى التهديد بالمقاطعة وحشد أنصاره للهجوم على الإخوان وقتها باعتبارهم “أعداء الشريعة”.
اليوم تغير الوضع بصورة كبيرة، فالحزب الذي كان يرفض نشر صورة نسائه ضمن قائمة الانتخابات، سمح لهم بالمشاركة في مسيرات رافعين صور السيسي، بل بعضهن رقص في بعض اللجان كما تناقلت عدد من الصور، هذا بجانب وصلات الرقص الذي قام بها أعضاء كثر من الحزب.
تشويه متواصل لصورة الحزب الذي رفض التعديلات بداية الأمر ثم تراجع كعادته في اللحظات الأخيرة، حيث شن رواد السوشيال ميديا حملات انتقادية للحزب الذي يرونه تخلى عن ثوابته وانضم لقائمة المتسلقين الوصوليين الساعين للخروج بأكبر قدر من المكاسب ولو على حساب معقتداتهم وركائزهم.
موقف حرج للقضاة
موقف لا يحسدون عليه تعرض له بعض القضاة المشرفين على عملية الاستفتاء، خاصة في ظل التجاوزات الفجة التي تنتاب العملية الانتخابية منذ الساعات الأولى لبدء التصويت، والتي تنتشر بصورة مكثفة أمام اللجان الانتخابية وعلى مرأى ومسمع من الجميع من بينهم القاضي داخل لجنته.
ورغم ما تحمله التعديلات من تقليص لاستقلالية القضاء بمنح رئيس الجمهورية صلاحيات تعيين رؤساء الكيانات القضائية الهامة في الدولة، وهو ما عبّر عنه الكثير من القضاة في بيانات عدة، إلا أن قبول المشاركة في تلك الخطوة أثار حالة من الاستياء وهز من صورة المؤسسة القضائية لدى البعض.
استغلال النخبة السياسية والسلطات الحاكمة لعوز الشعب وحاجته أفضت إلى ممارسات نالت حظها من السخرية من شعوب العالم فضلا عن بعض الفئات في الداخل
وبجولة تفقدية على بعض اللجان يتضح أن بعض القضاة على علم بالرشاوى التي توزع خارج اللجان، ومع ذلك لم يتحرك أي منهم لوقف هذه التجاوزات أو غلق باب التصويت لحين البت فيها، وهو ما ألمح إليه بصورة ضمنية الصحفي سلامة مطاوع، أحد المتابعين لسير العملية الانتخابية.
مطاوع على صفحته الشخصية على “فيسبوك” كتب يقول ” أثناء متابعتي لجان الاستفتاء بشبين القناطر وجدت سيدة مسنة أخذت بيدها حتى وصلت للقاضي وعندما أحضروا لها ورقة الاستفتاء للتصويت قالت للمستشار فين الكرتونة قالوا لي علمي وهتاخدي كرتونة”.
تشويه صورة المصريين
الخاسر الأكبر من هذه المسرحية برأي البعض هو الشعب المصري الذي دفعته الأوضاع المتردية لحالته المعيشية والاقتصادية إلى قبول هذا الثمن البخس مقابل صوته ورأيه السياسي، فالصور المنتشرة والمقاطع المصورة على مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في تكريس هذه الصورة المشوّهة.
استغلال النخبة السياسية والسلطات الحاكمة لعوز الشعب وحاجته أفضت إلى ممارسات نالت حظها من السخرية من شعوب العالم فضلًا عن بعض الفئات في الداخل، فالمرأة التي تتراقص أمام اللجان لأجل مائة جنيه والفتاة التي تسمح لنفسها بالرقص بصورة صاخبة لأجل جذب الشباب للتصويت نظير مقابل مادي، والمسن الذي يتكئ على عصاه للحصول على كرتونة، مصطحبًا زوجته العجوز، والطفل الذي يرقص فرحًا للحصول على كيس سكر أو زجاجة زيت، كل هذه المشاهد ساهمت في تصدير صورة للخارج بأن هذا الشعب قد اعتاد التسول.
كرتونة مقابل الصوت
وفي جولة سريعة لصحف الغرب أمس واليوم تتضح هذه الحقيقة بشكل فاضح، فحين تروّج تلك الصحف لأن المصريين يبيعون صوتهم لبقاء حاكم في السلطة لأكثر من 12 عامًا قادمة نظير حصولهم على غذاء لا يكفي يومين أو ثلاثة على الأكثر فتلك قمة الإساءة للشعب المصري بكل فئاته.
وفي المجمل، وبينما يستعد النظام لإعلان انتصار زائف في استحقاق عليه الكثير من علامات الاستفهام فهناك آخرون من مؤيدي السلطة يتجرعون مرارة الخسارة، ليتواصل السقوط المدوي للعديد من المفاهيم التي طالما ترسخت في أذهان المصريين، يوما تلو الأخر، وعامًا بعد عام.