مرّت حزينة أيام الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي استيقظ الشعب فوجد مجلس نوابه يُجهزها وتفاجأ بتحديد تواريخ التصويت على تمرير هذه التعديلات، بشكلٍ لا يُتيح لأحد – مع التسليم بعوار العملية برمتها – قراءتها ومطابقتها بمنطق العقل الإنساني في علاقة الشعب بالسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلاقة هذه السلطات بعضها ببعض، التي تماهت تمامًا وظائفها تحت سيطرة السلطة التنفيذية فقط، حتى أضحى رسميًا وبنص الدستور الجديد الجيش هو حامي حمى كل شيء، حتى الحياة السياسية، في مشهد يعيد لأذهاننا دساتير القرن الماضي التي كانت رغم سيطرة الجيش على الحكم والبلاد، لا تتجرأ على دسترة العسكرة بهذا الشكل الفج وبهذه الصورة المهلهلة التي لا تترك منطقًا إلا واعتدت عليه.
فوجئ المصريون في الخارج أن بطاقات اقتراعهم طُبعت من خلال طابعات ليزر ونسخ أُخذت عبر ماكينات التصوير، بخلاف بطاقات الاقتراع التي كان يجب إصدارها مُرقمة وممهورة ومسلسلة من المطابع الأميرية الرسمية التي هي جهة الاختصاص في هذا الصدد. حتى إن السفارات لم يكن بها كشوفات لهؤلاء المصوتين، فإذا كنت مثلًا مقيمًا في دولة من دول الاتحاد الأوروبي، فيمكنك التصويت خلال الأيام الثلاث في كل سفارات وقنصليات جمهورية مصر العربية، لكن يبدو أن العجلة لتمرير هذه التعديلات، وعدم إعطاء الناس فرصة كافية لمناقشتها، دفعت النظام لهذا الشكل من انعدام التنظيم.
مشهد الرشاوى الذي لا تُخطئه العين أمام أي لجنة اقتراع، يُحيلنا إلى عدة جوانب من المشكلة، على رأسها الفقر والجهل
في مصر، كان مشهد التصويت حزينًا، قصص طويلة عن المواطنين الذين دُفعوا وهددوا للاقتراع كأنهم جنود في كتيبة للجيش على الحدود وعليهم أن لا يعصوا الأوامر، لكن خارج اللجان كانت المشاهد أكثر حُزنًا، صور وفيديوهات تلخص حالة البؤس التي وصل لها المواطنون اليوم في مصر، حيث طوابير طلب كرتونات المساعدات التي ملأت الشوارع، وحسب كثير من الشهادات فإن موزعي هذه الرشاوى تعمدوا استمرار وجود هذا المشهد بتعقيده وتبطيئه، حتى يضمنوا الزحام أمام نقاط توزيع هذه المساعدات التي لا تقول أبدًا إنها توزع لشعب يصرخ رئيسه ووزرائه وإعلامه ببرامج إصلاحٍ اقتصادي لم يرَ المواطن منها نتيجة سوى مزيدٍ من الفقر، فقد تم رفع الدعم عن السلع والوقود وإلغاء آلاف بطاقات التموين بحجة ثراء أصحابها، ورفع كلفة الخدمات الأساسية من كهرباء وماء وغاز للبيوت، وكأن مُطبقوا هذه البرامج الاقتصادية، نسوا بالأساس أن هذه البرامج من المفترض أن تكون لصالح رفاهية المواطن وليس إفقاره.
وبالعودة لمشهد الرشاوى الذي لا تُخطئه العين أمام أي لجنة اقتراع، فإنه يُحيلنا إلى عدة جوانب من المشكلة على رأسها الفقر والجهل، وهما آفتان تعمّدت الأنظمة المتعاقبة في مصر على إصابة الشعب بهما، فيعيش المواطن في دوامة كيف يأكل ويشرب ويسكن ويتعلم وينام، حتى لا يفيق بين ليلةٍ وضحاها ويطالب بإصلاح سياسي، إلا أنه وللمرة الأولى نرى هذا المشهد بهذه الفجاجة، ما يطرح سؤالًا مهمًّا، ألم يعش المصريون سنوات طويلة تحت خط الفقر منذ حتى سنوات ما قبل الجمهورية؟
بالتأكيد نعم، عاشت قطاعات كبيرة في مصر سنوات الفقر والمرض مع حكم الدولة العلوية التي انتهت بثورة الضباط الأحرار، ليعيش المصريون سنوات الحرب والحصار مع ناصر على أنغام “شِد الحزام”، ثم يعيشون سنواتٍ أطول مع انفتاح السادات غير المفهوم ولا المدروس، ثم دوامة مبارك التي شارفت على القضاء على الأخضر واليابس.
لكن مع كل هذا، كان هناك هذا الهامش من الحياة الكريمة التي لا تودي بالناس إلى حافة الهلاك، فقد كانت الجمعيات الأهلية تؤدي دورها في سد عجز ما تدعي الحكومات أنها عاجزة عنه، بمستشفيات بسعر الكُلفة، ومساعدات شهرية للأرامل والمحتاجين، وشُنط رمضان وكسوة الشتاء والصيف والأعياد، لكن هذا الصمام الآمن للمجتمع، قضى عليه السيسي بالإغلاق والمصادرة، وسجن من يديرون هذه القطاعات، فلم يعد المحتاج ينتظر شنطة رمضان أمام بيته ليلًا كالأيام الخوالي، بل ينتظر مواسم الانتخابات لتمن عليه القوات المسلحة ورؤوس الأموال التي تسرق قوته، ببعض عبوات الزيت والسكر.
اللافت في الأمر هو اتجاه قطاعات لا بأس بها، بالتصويت برفض التعديلات الدستورية، رغم مقاطعتهم على مدار سنوات طويلة
وفي النهاية، فإن هذا المحتاج لا يُلام على شيء، فلا أحد يجرؤ أن يمنع إنسانًا من أن يؤمن لأطفاله وجبة غداء ينتظرونها، فمن الفقير والمريض والمدين اليوم؟
كانت أحاديث صفحات التواصل الاجتماعي التي تذكر مواقف إجبار الناس على التصويت، تمثل سابقةً جديدة في خروقات عمليات الاقتراع في مصر، شاهدنا خلال الأعوام الماضية إجبار موظفي القطاع العام والخاص على التصويت لتفادي تهديدات لقمة العيش، لكن هذه المرة، بدا الأمر مختلفًا، حيث نُصبت لجنة خصيصًا في محطة قطار مصر بالإسكندرية، بحجة أنها لمساعدة المسافرين على التصويت لكنها كانت خلاف ذلك، حيثُ أجبر رواد المحطة وهي من كُبريات محطات القطار في مصر، على التصويت، بعد أخذ هوياتهم الشخصية.
تكرر الأمر في قُداس أحد الشعانين بكتدرائية العاصمة الإدارية الجديدة، حيث فوجئ المصلون بمصادرة هوياتهم وطلب قوات الأمن منهم استلامها من لجنة الاقتراع، وتكرر الأمر في المواصلات العامة والمارة في الشوارع.
هذه السوابق، تُظهر أن أدوات الترغيب والترهيب التي استهلكها النظام لحث الناس على التصويت لم تُجد نفعًا والعزوف مثّل رغبةً جمعية للمواطنين، في ظل فقدان الثقة بالعملية برمتها.
لكن اللافت في الأمر هو اتجاه قطاعات لا بأس بها، بالتصويت برفض التعديلات الدستورية، رغم مقاطعتهم على مدار سنوات طويلة، رغبةً في محاولة التغيير أو إجبار النظام على تقديم تنازلاتٍ في المجال العام، والمفاجئ في هذه الخطوة، تجاوب قطاعات غير مُسيسة مع هذه الدعوات، سواء من باب عدم الثقة في إجراءات هذا النظام أو تحركاته، أم حتى على الأقل نكاية ورد فعل ولو رمزي على رفض الناس لاستمرار هذا النظام بأدواته من إعلام وتشريع وبوليس، هذه القطاعات التي تعجز عن إعلان رفضها بشكل مباشر، خوفًا من القمع الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، فكانت فرصتهم لإعلان غضبهم هو التصويت بلا أو حتى إبطال أصواتهم في سبيل عدم حصول النظام عليها، وهو ما يُبشر باتساع رقعة الرفض وعدم الثقة بين شرائح مختلفة من الشعب المصري بخلاف ما كان يحدث خلال السنوات الماضية واقتصار شعور الرفض والمقاومة على الشباب والمنخرطين في المجموعات السياسية.
أيًا كانت نتيجة الاستفتاء فقد كانت معركةً فارقة، شهدت تغيرًا جديدًا فيما يخص الساحة السياسية المصرية وهو عودة كثير من المقاطعين إلى الصناديق واتساع مساحة الرفض ضد النظام
تُحيلنا هذه الصورة الأخيرة إلى ما أثير عن ماهية ما يقوم به النائب في مجلس النواب المصري أحمد الطنطاوي من جهد مكوكي في مواجهة هذه التعديلات، ما فتح الباب أمام سيناريو إعادة تشكيل معارضة رمزية ليس لها هدف حقيقي في التغيير، خصوصًا بعد تكرار الأمر في أثناء فترة حكم المخلوع مبارك والمجلس العسكري.
لكن الحقيقة أن ما يقوم به الطنطاوي لا علاقة له من قريب أو من بعيد بكرتونية المعارضة التي ألغى فكرتها هذا النظام بالأساس، وبالعودة لمواقف هذا النائب منذ وصوله تحت قبة البرلمان نجد أنه وبوجه خاص، خاض معارك ضروسًا ضد إجراءات النظام القمعية، أكثر من زملائه في تحالف 25 – 30 الذين يقومون بذات المواقف، لكن بحدةٍ أخف، ما وضع الطنطاوي في مقدمة الأصوات التي يرغب المصريون سماعها، بعد سنوات من اعتماد سياسة الصوت الواحد التي أجبر النظام الإعلام عليها، لذلك فإن ما يقوم به هذا النائب بمفرده، قد يصنع فارقًا ولو بسيطًا في معادلة المعارضة في مواجهة هذا النظام.
انتهت معركة الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي أجبر السيسي المصريين عليها، مُكرهين دون اختيار، وأيًا كانت نتيجتها فقد كانت معركةً فارقة، شهدت تغيّرًا جديدًا فيما يخص الساحة السياسية المصرية وهو عودة كثير من المقاطعين إلى الصناديق واتساع مساحة الرفض ضد النظام التي شملت قطاعاتٍ برزت جميعها خلال أيام الاستفتاء الثلاث.