قد يشغل بالك كثيرًا، بوصفك مربٍّ أو مربية، الطريقة التي يمكنك بها تعليم طفلك الحس الأخلاقي ليفرّق بين الصح والخطأ، وليكون واعيًا لمفاهيم العدالة والتعاطف والإيثار ومحبًا للمشاركة والتعاون وقادرًا على تمييز مفاهيم مثل الخير والشر والظلم والمساواة والعدل، الأمر الذي يثير مخاوف الكثيرين نظرًا لتعقيداته العديدة.
يمر طفلك بتجارب مختلفة قد تعتقد أنها مواقف عابرة لا تحتاج الوقوف عندها والتفكير فيها، على سبيل المثال، أن يشارك ألعابه مع الأطفال غيره، أو أن يعامل مَن يختلف معه بلون البشرة أو الجنس أو الطول بطريقةٍ مختلفة، أو أن يأتي بتصرفٍ أناني أو يستحوذ على ألعاب غيره أو أن يأكل حصّة أخيه من الحلوى، وغيرها من المواقف اليومية والمرحلية التي تستدعي منك تحليلها وفهمها.
ومن هنا فإن فهم الوالدين للتطور الأخلاقي والضمير لدى الطفل قد يوزاي أهمية تطوير مهاراته المعرفية واللغوية والإبداعية، والتي عادة ما يولي الأهل اهتمامًا أكبر بها، ويشكّل غيابها معضلة تستوجب الاستشارة.
ضمير الطفل.. كيف يتطور مع عمره؟
هناك الكثير من المحاولات لفهم كيفية تطوير الطفل للأخلاق وحسّه الضميري، سواء في الفلسفة والدين أو علم النفس. واحدة من تلك المحاولات كانت لعالم النفس الأمريكي لورانس كولبرج الذي طوّر نظريته الشهيرة من خلال عمله مع الأطفال. عرض كولبرج على مجموعة أطفال قصصًا قصيرة تنطوي على معضلات أخلاقية. السيناريوهات المستخدمة كانت بسيطة ومختلفة، هدفت لتحديد الأسباب الكامنة وراء الأحكام الأخلاقية التي سيطلقها كل طفل على القصة التي أمامه وتصرفات البطل فيها.
إحدى القصص كانت قصة “هاينز يسرق الدواء“. في هذا السيناريو، يروي كولبرج للأطفال أن هناك امرأة مصابة بالسرطان ويعتقد أطباؤها بوجود دواءٍ واحدٍ فقط لإنقاذها. هذا الدواء بحوزة صيدلي محلي في المدينة. يذهب هاينز لشراء الدواء فيجد أن سعره 2000 دولار في حين أن كل ما يمكنه جمعه هو 1000 دولارٍ فقط. يحاول التفاوض مع الصيدلي للحصول على سعرٍ أقل أو أن يدفع ثمن الدواء على دفعات. لكن الصيدلي يرفض ذلك. لاحقًا، يقتحم هاينز الصيدلية ويسرق الدواء لإنقاذ زوجته.
سأل كولبرج سلسلة من الأسئلة للأطفال مثل: هل يجب على هاينز سرقة الدواء؟ هل كان هاينز سيسرق الدواء لو كان لشخصٍ غريب غير زوجته؟ هل تعتقل الشرطة الصيدلي بتهمة القتل إذا توفيت الزوجة؟
يكون تركيز الطفل في المرحلة الأولى على الطاعة والعقاب، فهو يعتقد أن هناك قواعد يجب عليه طاعتها والالتزام بها لتجنب العقوبة
قد تقص هذا السيناريو أو ما يشبهه على طفلك وتسأله نفس السؤال. لكن ما يجب علينا معرفته أن الإجابة نفسها لا تهم. لم يكن كولبرج مهتمًا بالإجابة عما إذا كان هاينز مخطئًا أم محقًا. لكنه استطاع من خلال معضلاته القصصية هذه التفكير في الأسباب التي أدت لجواب كل طفلٍ ومن ثم تصنيف الإجابات إلى مراحل مختلفة. فقد وجد أن الأسباب تتغير مع تقدم الأطفال في العمر.
في المرحلة الأولى (في سن ما قبل المدرسة)، يتخذ الطفل قراراته الأخلاقية بناءً على كيفية تأثيرها عليه، فهو هنا لا يعي ماذا تعني المبادئ ولا القيم، ولا يفرق بشكلٍ أساسي بين الصواب والخطأ، وإنما ينصب تركيزه على العواقب الفردية في خياراته. وبكلماتٍ أخرى، يكون تركيز الطفل على الطاعة والعقاب، فهو يعتقد أن هناك قواعد ثابتة ومطلقة يجب عليه طاعتها والالتزام بها دون أي نقاشٍ لتجنب العقوبة، لذلك تصبح السرقة عملاً سيئًا لأن فاعلها سيُعاقب عليها.
لنوضح النقطة أكثر سيكون أسهل علينا لو جئنا بمثالٍ قصصي وواقعي. فقد تسأل نفسك هنا مثلًا ما الذي يمنع طفلك من ضرب طفلٍ آخر في الحديقة العامة أو في حضانة الأطفال. هل لاحترامه الآخرين أو ربما لانضباطه الذاتي؟ حسنًا، تخبرنا نظرية كولبرج أن خيار الطفل بعدم الضرب أو السرقة نابعٌ من علمه أنه سيواجه مشكلةً إذا قام بهما، أي أنه مجرد قرار لتجنب العقاب الذي قد يواجهه.
في المرحلة الثانية من التطور: يدرك الطفل أنه جزء من المجتمع وعليه أن يكون “جيدًا” بنظر من حوله
أما حين يتقدم الطفل بعمره أكثر (9 سنوات إلى بداية المراهقة)، يصبح فهمه أوضح للتعريف الاجتماعي للأخلاق. ففي حين كان يركز سابقًا على ذاته ويحاول تجنيبها العقاب والمشكلات، يبدأ الطفل هنا بإدراك أنه جزءٌ من مجتمعٍ أكبر له قيمه ومبادئه وقواعده ومعتقداته التي تُملي السلوك الأخلاقي، فينصب تركيزه على أن يكون طفلًا “جيدًا” بنظر من حوله.
بدايةً في هذه المرحلة، يعي الطفل أن عليه أن يكون أخلاقيًا لأن المجتمع يريد ذلك، لكنه يطور لاحقًا (مع بداية مراهقته) شعورًا بضرورة الحفاظ على النظام الاجتماعي ككل. فهو يدرك أن السلوك المنحرِف أو غير الأخلاقي يمكن أن يضر المجتمع ونظامه. ولو عدنا إلى معضلة هاينز، لوجدنا أن معظم الأطفال في هذه المرحلة أجابوا أنه يستطيعون فهم دوافعه الطيبة ورغبته في إنقاذ زوجته، لكنهم لا يستطيعون تبرير فعلته كليًا، فلو أن الجميع تصرف بالشكل نفسه فإن النتيجة ستكون الفوضى واهتزاز النظام الاجتماعي.
في المرحلة الثالثة ينشأ وعي الطفل بالضمير طبقًا لمبادئ ومعتقدات أخلاقية يختارها بنفسه ويحكمها وفقًا لمعاييره التي طورها
أما في المرحلة الثالثة والأخيرة، يصبح التطور الأخلاقي للطفل أو المراهق أكثر تعقيدًا، فقد تتفق خياراته الأخلاقية في معظم الأحيان مع معايير ومعتقدات المجتمع، ولكنه يبدأ بإدراك إمكانية وجود تعارض بين ما هو مقبول اجتماعيًا وما يعتقده هو بأنه مقبول. هنا، يتجاوز الفرد مرحلة أخلاقية المجتمع وضرورة الالتزام بقوانينه إلى مرحلة الالتزام بالمبادئ الأخلاقية التي تحكم البشر ككل وليس مجتمعه فقط.
ينشأ هنا وعيه بالضمير طبقًا لمبادئ ومعتقدات أخلاقية يختارها بنفسه ويحكمها وفقًا لمعاييره التي طوّرها واكتسبها على مدى المراحل السابقة جميعها ويرى أنها تحتكم إلى مبادئ العدل والمساواة. على سبيل المثال، يصبح الطفل واعيًا لحقوق الإنسان ومستعدًا للدفاع عنها حتى لو خالف المجتمع واضطره ذلك لتحمل العواقب. جديرٌ بالذكر أن كولبرج يشك بأن قلة من البالغين يستطيعون بلوغ هذه المرحلة، وأن الأغلبية عالقة في المرحلة السابقة.
كيف يستفيد الوالدان من ذلك؟
قد يتساءل البعض كيف بإمكانه الاستفادة من تصنيف كولبرج لهذه المراحل الثلاثة، فهي بالنهاية مجرد نظرية قد تنطبق على بعض المجتمعات دون غيرها. لكن حتى وإن كانت كذلك، فهي تخبرنا أولًا أن تعاملك مع طفلك في النواحي الأخلاقية يعتمد على مرحلته العمرية قبل كل شيء، وبالتالي لا يمكنك أن تعاقب طفلك على تصرف أخلاقي غير مقبول كما لو كان في مرحلة أنضج.
حين يقوم طفلك بتصرف تراه خاطئًا أخلاقيًا، عليك أن تنظر إلى الأسباب التي دفعته لذلك وتعتمد بالأساس على عمره، وتأكد من التحدث مع الطفل حتى تفهم الأسباب التي أدت إلى تصرفاته وساعده في معرفة الخطأ من الصواب ومن ثم كيفية تصحيح الخطأ. فعلى سبيل المثال، معرفتك بأن طفلك يركز على العقاب كنتيجة لتصرفه الخاطئ تحتم عليك التصرف بطريقة مختلفة عن معرفتك بأنه يعي معايير المجتمع وقيمه التي بدورها تختلف أيضًا من معرفتك بأنه واعٍ لفكرة الضمير وتعارض المجتمع مع بعض المبادئ.
كما تخبرنا هذه النظرية وغيرها أن التطور الأخلاقي للطفل يمر بمراحل متسلسلة لكنه سيبقى دومًا معرضًا للبقاء في إحداها دون الصعود إلى ما بعدها. هنا يظهر دور الوالدين والمعلمين، إذ يرى كولبرج وغيره من خبراء التربية أن تعريض الأطفال للمعضلات الأخلاقية المختلفة سواء في القصص السردية أو في الألعاب تسمح للأطفال بتطوير الضمير وتصقل قدراتهم على إيجاد حلولٍ لها.
معرفتك بأن طفلك يركز على العقاب كنتيجة لتصرفه الخاطئ تحتم عليك التصرف بطريقة مختلفة عن معرفتك بأنه يعي معايير المجتمع وقيمه التي بدورها تختلف أيضًا عن معرفتك بأنه واعٍ لفكرة الضمير وتعارض المجتمع مع بعض المبادئ
لذلك، كن حريصًا دومًا على مناقشة بعض المعضلات الأخلاقية مع طفلك في مراحله المختلفة. اختر القصص التي تحتوي على قدرٍ مناسب منها بما يتناسب مع عمره، وقد تجد نفسك في مرحلةٍ ما تعلمه أن هذا التصرف جيد أو سيء لأسباب معينة، ثم تعلمه في مرحلة لاحقة عن وجود وجهات نظر مختلفة للناس والشخصيات، أو أن الناس يخطئون أحيانًا لأسباب معينة دون أن يعني ذلك أنهم أناس سيئون، وهكذا.
ومن خلال الألعاب الجماعية التي تعتمد على قيم العدالة والتعاطف والتعاون، تستطيع تعليم طفلك أن الالتزام بقواعد اللعبة نابع من صوابها وأخلاقيتها لا من محاولته لتجنب العقاب. على سبيل المثال لعبة “الثلاثة أرجل”، حيث تُربط قدم طفلك بقدم طفلٍ آخر ليتسابقا مع أطفال آخرين بنفس الحالة. هنا عليك أن تعرف الأطفال مبادئ اللعبة الأخلاقية الأوسع مثل التعاون والمشاركة، وغيرها من الألعاب.
هناك الكثير من الألعاب الفردية والجماعية التي تستطيع من خلالها تعليم طفلك بعض المبادئ الأخلاقية
تستطيع من خلال القصص والمسرحيات أيضًا تطوير وعي الطفل لمفهوم النية والدوافع وما يتبعها من مشاعر بالفخر أو الذنب أو الحرج وغيرها، وهي المشاعر التي ترتبط بالسلوكيات التي قد يتخذ الطفل على أساسها قراراته ويحدد بعض الأخلاق تبعًا لها. بالإضافة إلى ذلك، فإن الوالدين أو المعلمين الذين يفهمون التطور الأخلاقي الطبيعي يدركون الأسباب التي تقف وراء أنانية الأطفال في بعض الأحيان أو تصرفاتهم العدوانية أو عدم تعاطفهم في بعض المواقف، ما يجعلهم أكثر قدرة على التعامل مع مثل هذه المشاكل وتصحيحها.