لم يكن أحد ليصدق أن “أرض الألف تل”، يمكن أن تنهض وتلملم جراحات الإبادة الجماعية التي حصدت قرابة مليون مواطن وشرّدت أضعاف هذا العدد لتصبح بعد سنوات قليلة دولة يُشار إليها بالبنان، بما يشبه المعجزة وبعد 5 أعوام فقط من نهاية الحرب الأهلية التي لم تشهد مثلها القارة الإفريقية مؤخرًا لكثرة أعداد الضحايا وفظاعة المجازر.
شكّل وصول الرئيس بول كاغامي إلى سدة الحكم في رواندا عام 2000 نقلة بارزة في تاريخ الدولة، فقد عمل منذ اليوم الأول على قضيتين أولهما: توحيد مواطني البلاد، والثانية: العمل على مكافحة الفقر. ورغم الانتقادات الموجهة إليه في مجال حقوق الإنسان، تمكن من تحقيق المصالحة المجتمعية وإنجاز دستور جديد حظر استخدام مسميات قوميتي الهوتو والتوتسي وتجريم استخدام أي خطاب عرقي.
نجحت خطط حكومة كاغامي في تحقيق المصالحة بين أفراد المجتمع، وعاد اللاجئون إلى بلادهم، كما نظّمت محاكم محلية لإعادة الحقوق وإزالة المظالم، ومع التقدم في الملفات الاجتماعية، كثّفت الحكومة من جهودها للتنمية وتطوير الاقتصاد، وقدّم الخبراء والمختصون دراسات تحوّلت لـ”رؤية 2020″ الاقتصادية، وشملت 44 هدفًا في مجالات مختلفة، تمكّنت هذه الأهداف من تحقيق المعجزة في وقت وجيز بالمقاييس الاقتصادية، إذ ارتفع متوسط دخل الفرد عام 2015 إلى ثلاثين ضعفًا عما كان عليه قبل 20 عامًا.
كسبت رواندا في عهد بول كاغامي احترام الجميع بما في ذلك الدول الكبرى والدول الصاعدة اقتصاديًا
تلك كانت مقدمة بسيطة تُبين ما وصلت إليه “سنغافورة إفريقيا” كما يصفها خبراء اقتصاديون، فمن مذابح الإبادة الجماعية أصبحت رواندا نموذجًا يحتذى به في التطوّر والنمو، تنظر إليها معظم دول القارة السمراء بعين الإعجاب والغبطة.
ولهذا كسبت رواندا في عهد بول كاغامي احترام الجميع بما في ذلك الدول الكبرى والدول الصاعدة اقتصاديًا، فالذي يراقب تفاعلات الساحة السياسية في رواندا يلاحظ تنامي العلاقات بينها وبين قطر خلال الـ3 أعوام الماضية وصلت إلى درجة تبادل الزيارات بين زعيمي البلدين، ففي أواخر العام 2018 وصل الرواندي بول كاغامي إلى الدوحة في زيارةٍ ناجحةٍ استمرت يومين، والأحد الماضي قام أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بزيارة إلى العاصمة الرواندية كيغالي استمرت 3 أيام.
مميزات الاقتصاد الرواندي
يُعد الاقتصاد الرواندي واحدًا من أسرع الاقتصادات نموًا في القارة السمراء، ويشمل القطاعات الرئيسية لتعزيز النشاط الاقتصادي هناك، المنسوجات والملابس وصناعة الجلود والمحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية وصناعة الأخشاب والمعادن والسياحة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتيسير التجارة والاستثمار.
حسب تقرير أصدرته منظمة دول تجمُّع السوق الإفريقية المشتركة (الكوميسا)، فإن رواندا واحدة من الدول الإفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي
كما ذكرنا، حقّقت رواندا طفرة هائلة أشبه ما تكون بالمعجزة، حيث سجلت خلال الفترة بين عامي 2000 و2015، نموًا في ناتجه المحلي بمعدل 9% سنويًا، فيما تراجع معدل الفقر من 60% إلى 39%، ونسبة الأمية من 50% إلى 25%، وارتفع متوسط حياة الفرد من 48 عامًا إلى 64 عامًا، وهو ما لم يحدث في أي دولة من دول العالم في التاريخ الحديث.
وبحسب تقرير أصدرته منظمة دول تجمُّع السوق الإفريقية المشتركة (الكوميسا)، فإن رواندا واحدة من الدول الإفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي، وقد شهدت التطور الاقتصادي الأكبر على مستوى العالم منذ 2005، كما ارتفعت قيمة الناتج الإجمالي المحلي للبلاد إلى نحو 8.48 مليار دولار أمريكي في 2016، صعودًا من 2.58 مليار عام 2005، و1.74 مليار عام 2000، و1.29 مليار دولار فقط في سنة 1995 لتحتل المركز التاسع بقائمة أكثر الدول استقطابًا للمستثمرين في القارة الإفريقية.
إستراتيجية قطر في التنويع
وفقاً لمكتب الاتصال الحكومي القطري، “يعد الاقتصاد القطري اليوم أحد أقوى الاقتصادات الإقليمية، ومن بين أكثر الاقتصادات الواعدة على الصعيد العالمي، إذ حافظت دولة قطر على معدلات نمو متوازنة رغم مختلف التحديات العالمية والحصار المفروض عليها منذ العام 2017، وتوسع الناتج المحلي الإجمالي لقطر بأكثر من 5% في النصف الأول من عام 2018 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. ونجحت الدوحة خلال السنوات الماضية، في ترسيخ مكانتها المتقدمة على خريطة الاقتصاد العالمي لمواصلة مسيرة تحقيق رؤية قطر الوطنية نحو إرساء اقتصاد متنوع وتنافسي مبني على المعرفة”.
اتخذت قطر جملة من الإجراءات لجذب المستثمرين الأجانب في إطار خطتها لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط والغاز
كما اتخذت قطر جملة من الإجراءات لجذب المستثمرين الأجانب في إطار خطتها لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط والغاز، إذ أتاحت للأجانب التملك بنسبة 100% في كل القطاعات والأنشطة الاقتصادية والتجارية، وتتجه حاليًّا إلى إعفاء رأس المال الأجنبي المستثمر من ضريبة الدخل، لمدة تصل إلى 10 سنوات، لمشاريع استثمارية محدّدة.
كما أعفت قطر المستثمرين من الضرائب الجمركية والرسوم عند استيراد المعدّات والمواد الخام، وأتاحت إمكانية تحويل الأرباح للخارج ونقل ملكية الشركات بحرية تامة، إضافة لذلك تعمل الحكومة القطرية على إصدار قانون تنظيم استثمار رأس المال غير القطري في النشاط الاقتصادي الذي من شأنه أن يسهم بتعزيز دخول المستثمرين الأجانب إلى السوق القطري.
زيارة الأمير.. شق اقتصادي وآخر سياسي
إذا عدنا إلى زيارة أمير قطر إلى رواندا التي استمرت 3 أيام، نجد أنها تحمل أبعادًا اقتصادية في المقام الأول، إذ استبقها في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي وفد قطري رفيع المستوى برئاسة الشيخ فيصل بن ثاني آل ثاني، مدير المحافظ المحلية لجهاز قطر للاستثمار، زار العاصمة الرواندية كيغالي لاستكشاف الفرص التجارية وفرص الاستثمار في البنية التحتية والطاقة والسياحة والتعدين والأمن الغذائي ضمن خطة تنويع الاقتصاد القطري التي تم التطرق إليها في الفقرات السابقة.
رواندا التي صارت أيقونة السياحة والاستثمار في القارة السمراء، تسعى للحصول على تمويل للمطار الجديد الذي سيكون الأكبر من نوعه في المنطقة وبدأ تشييده في أغسطس 2017 مع تحديد موعد نهائي لعام 2020
عقب زيارة وفد رجال الأعمال القطري التي التقى خلالها مسؤولون ورجال أعمال روانديون، وصل العاصمة القطرية الدوحة رئيس رواندا بول كاغامي وعقد جلسة مباحثات رسمية مع الأمير الشيخ تميم بن حمد، تناولت العلاقات الاقتصادية وتطويرها.
ونتيجة لتفاهمات بين الزعيمين، وصل رواندا الشهر الماضي وفد حكومي قطري برئاسة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى كيغالي لإجراء محادثات ثنائية من بينها تمويل مطار بوجيسيرا الدولي.
فرواندا التي صارت أيقونة السياحة والاستثمار في القارة السمراء، تسعى للحصول على تمويل للمطار الجديد الذي سيكون الأكبر من نوعه في المنطقة وبدأ تشييده في أغسطس 2017 مع تحديد موعد نهائي لعام 2020.
ودخلت الحكومة الرواندية في شراكة بين القطاعين العام والخاص مع شركة Mota Engil البرتغالية التي منحت الشركة حقوق تشغيل المطار لمدة 25 عامًا لاسترداد إجمالي استثماراتها التي تقدر بنحو 820 مليون دولار، مع خيار تمديد الاتفاقية لمدة 15 عامًا.
ذكرت صحيفة نيوز تايمز الرواندية أن الشيخ تميم بن حمد، زار رواندا على رأس وفد رفيع المستوى من كبار المسؤولين الحكوميين والمديرين التنفيذيين، وتم التوقيع على اتفاقية ومذكرات تفاهم بين حكومتي الدولتين
ولكن حكومة كاغامي علّقت أعمال البناء لإدخال تحسينات جديدة على التصميم والجودة وحتى زيادة التوسيع، وبالتأكيد أدت إعادة التصميم إلى رفع التكاليف مما استدعى الحكومة إلى البحث عن المزيد من الممولين، ويبدو أن قطر أبدت اهتمامًا بهذا الشأن رغم أن البيانات الرسمية لزيارة الأمير تميم بن حمد الأخيرة لم تتحدث عن توقيع اتفاق نهائي بهذا الخصوص.
فقد ذكرت صحيفة نيوز تايمز الرواندية أن الشيخ تميم بن حمد، زار رواندا على رأس وفد رفيع المستوى من كبار المسؤولين الحكوميين والمديرين التنفيذيين، وتم التوقيع على اتفاقية ومذكرات تفاهم بين حكومتي الدولتين منها اتفاقية في المجال الجوي ومشروعي مذكرتي تفاهم للتعاون في مجالي الرياضة والثقافة، بالإضافة إلى مذكرة تعاون في المجالين السياحي وفعاليات الأعمال، كما وقع البلدان اتفاقيات بين شركة الطيران الرواندية والخطوط الجوية القطرية.
الشق الآخر في الزيارة هو الجانب السياسي والعسكري، فرواندا التي تقع ضمن منطقة البحيرات تتمتع بأهمية سياسية لا يُستهان بها، لموقعها وتأثيرها على تكتل دول شرق إفريقيا East African Community الذي يقترب من إنشاء اتحاد كونفدرالي في وقتٍ لا تزال فيه الاستقطابات جارية بين معسكري الصراع الرئيسيين في المنطقة قطر وتركيا من جانب والإمارات والسعودية منذ العام 2017.
وضمن جهود تعميق العلاقات بين الدوحة وكيغالي، استقبل قائد سلاح الجو الأميري القطري اللواء طيار مبارك بن محمد الخيارين، رئيس أركان القوات الجوية الرواندية اللواء تشارلز كارامبا والوفد المرافق له خلال زيارتهم الرسمية لقطر مطلع الشهر الحاليّ، وتم خلال اللقاء بحث العلاقات العسكرية والدفاعية بين البلدين وسبل تعزيزها.
نجاحات الدبلوماسية القطرية
من المعلوم أن معظم دول القارة السمراء اختارت الحياد في الأزمة المستمرة وهو ما يمثل هزيمة لمخططات أبو ظبي والرياض التي لم تكن ترضى إلا بانحيازٍ كاملٍ إلى جانبها، ولذلك ظلّت قطر أمام تحدٍ ليس بالسهل وهو الحفاظ على علاقاتها الدبلوماسية مع دول العالم، ومن بينها دول القارة السمراء، وأبلت القيادة القطرية بلاءً حسنًا في ذلك فمدّت جسور الصلة مع معظم الدول الإفريقية ومهّدت لثلاث جولات ناجحة قام بها الأمير القطري في خلال عامين، ففي 2017، زار إثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا وفي أواخر العام ذاته قام بجولةٍ جديدة شملت 6 دول في غرب القارة السمراء، إضافة إلى الجولة الحاليّة التي ينتظر أن تشمل نيجيريا إلى جانب رواندا.
أن تنجح الدبلوماسية القطرية في الحفاظ على علاقات جيّدة ومتوازنة مع معظم دول العالم متغلبةً على حملاتٍ إعلامية شرسة ولا أخلاقية في كثير من الأحيان لهو درس يوضح أنه يمكن التغلب على حملات التشويه والشيطنة والأكاذيب باستخدام القوة الناعمة، وتبني سياسة خارجية قائمة على الاحترام المتبادل والمصداقية لا سياسة التبعية والتعالي التي يتبنّاها المعسكر الآخر.