شكّلت الانتفاضة السورية عام 2011 عامل قلق لدى “إسرائيل”، فالربيع العربي الذي مرّت رياحه بسوريا اعتبرته تل أبيب خريفًا إسلاميًّا، باعتبار أن تلك الرياح دفعت إلى الواجهة بتيارات إسلامية من شأنها أن تزيد العداء ضد “إسرائيل”، وتجعل الصراع معها دينيًا.
الموقف الإسرائيلي المعقّد والمركّب ممّا يجري على الأراضي السورية، يمكن وصفه بـ”الحيادي والنأي بالنفس”، لكنه موقف أجاد اللعب على المتغيرات والعوامل المتضاربة، فالبداية الإسرائيلية كانت في إدانة العنف في سوريا الذي رأته حتى العام 2013 لا يشكّل خطرًا عليها، طالما أن نظام الأسد يُحافظ على اتفاقية “فض الاشتباك” الموقّعة بين الجانبين عام 1974.
الأسد ملك ملوك “إسرائيل”
على مدار 5 عقود، ترسّخت قناعة متبادلة بحاجة الطرفين لبعضهما، فالنظام يدرك قيمة الغطاء الإسرائيلي لاستمراره في الحكم، و”إسرائيل” تنظر إليه على أنه العدو المريح نسبيًا والأكثر انضباطًا من جهة حدودها، وحذّر رئيس الهيئة الأمنية والسياسية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، الجنرال عاموس جلعاد، من “أنّ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد سيترتب عنه حدوث كارثة تقضي على إسرائيل، نتيجة ظهور إمبراطورية إسلامية في منطقة الشرق الأوسط”.
ميزة نظام الأسد، سواء في عهد الأب حافظ أو بشار الأسد في انعدام جرأته وميله إلى الامتناع عن المواجهات المباشرة عزّزت التمسك الإسرائيلي به، فقد أبقى جبهة الجولان هادئة منذ سبعينيات القرن المنصرم.
في حين منع بشار انطلاق أي أعمال عدائية على “إسرائيل”، ولم يقم بأي ردّ على التحليق الإسرائيلي فوق قصر بشار الأسد مرتين في عامَي 2003 و2006، وتدمير منشأة الكبر النووية بالقرب من دير الزور عام 2007، واغتيال شخصيات مقربة كالعميد محمد سليمان “الصندوق الأسود” لبشار الأسد بطرطوس، وغيره من شخصيات مرتبطة بـ”حزب الله” داخل دمشق كعماد مغنية.
كما أنه أجرى مفاوضات جدّية وطويلة مع “إسرائيل” منذ تسعينيات القرن الماضي بوساطة أميركية، وصولاً إلى عامَي 2007 و2008 بوساطة تركية.
بعد شهرين من انطلاق الاحتجاجات الشعبية في مارس/ آذار 2011، رمى رامي مخلوف ابن خال الرئيس بشار الأسد وأحد أعمدة النظام الاقتصادية، بأوراق النظام كلها وأعلنها بوضوح عن استعداد النظام لاعتماده إسرائيليًا، إذ قال في مقابلة نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز”: “إن أمن إسرائيل متعلق بأمن سوريا”، ما يعني أن النظام السوري يربط استقرار “إسرائيل” ببقاء الأسد، زاعمًا أن “السلفيين هم البديل عن النظام”.
لكن ما لبثت أن سقطت ورقة التوت أكثر، عندما فضح الإعلام الإسرائيلي حرص حكومته على بقاء الأسد على سُدّة الحكم، ففي أبريل/ نيسان 2011 كتبت “هاآرتس” العبرية مقالًا تحت عنوان: “الأسد ملك إسرائيل”، كما نقلت “واشنطن بوست” عن إفراييم سنيه، الذي شغل منصب النائب السابق لوزير الدفاع الإسرائيلي، قوله: “إننا نفضل شيطانًا نعرفه”، في إشارة إلى بشار الأسد.
وبعد شهر من التقريرَين، تحدثت صحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية ما مفاده أن “الإطاحة بالأسد قد تشكّل تهديدًا غير مسبوق على استقرار جبهة إسرائيل الشمالية، لأن من تعرفه أفضل ممّن لا تعرفه”.
وبالتالي فإن الهدوء لعقود على الحدود، هي الورقة التي لعب عليها نظام الأسد بعد اندلاع الاحتجاجات، لابتزاز “إسرائيل” وحلفائها من أجل الحفاظ على بقائه، وهذا ما بدا واضحًا عندما هدد الوجود الإيراني حدود “إسرائيل”، التي سارعت بدورها لتقويض ذلك النشاط عبر استهداف النظام والإيرانيين سويًا.
حسب الباحث في الشأن الإسرائيلي خالد خليل، فإن إسرائيل بعد العام 2011 كانت أمام لحظة الحقيقة في التخلص من نظام الأسد الذي يعتبر معاديًا لها، لكنها فضّلت في السنوات الأولى من عمر الثورة النأي بالنفس.
وأضاف خليل لـ”نون بوست” أن القرار الرسمي الإسرائيلي اتخذ بتفضيل نظام الأسد العدو الذي تعرفه، لذلك لم تتدخل مثل معظم الدول الإقليمية في دعم الثورة السورية، واتجهت نحو حماية أمنها القومي عبر السعي لمنع إسقاط أي سلاح في يد الجهات التي تراها “إسرائيل” خطرًا على أمنها، خاصة السلاح الكيماوي، إضافة إلى ضرب التوغل الإيراني ومنع استنساخ أي تجربة لـ”حزب الله” على حدودها من الجهة السورية.
التدخل عند الضرورة
رأت “إسرائيل” أنّ سقوط النظام يهدّد بفوضى عارمة في سوريا، ومن جهة أخرى المعارضة السورية مشرذمة، والأهم هيمنة الطابع الإسلامي عليها ما يعني بنظرها سيطرة العناصر الإسلامية على السلطة في سوريا، حسب ما نقلته صحيفة “معاريف” في ديسمبر/ كانون الأول 2013 عن رئيس الأركان الإسرائيلي السابق دان حالوتس، فكان من مصلحتها استمرار نظام الأسد، لكن مع إضعافه عبر ضربات جوية لقطعه العسكرية، وسط مراقبة دقيقة لمجريات الحرب السورية ومعرفة المنتصر وأهدافه.
ويرجع الباحث الإسرائيلي إيتمار رابينوفيتش، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب، الذي شغل في السابق منصب سفير “إسرائيل” في الولايات المتحدةـ أسباب تضييع تل أبيب هذه الفرصة واستبعادها خيار الوقوف ضد نظام الأسد، إلى 3 أسباب وهي ضعف المعارضة، والدور المبكر الذي بدأت تلعبه الجماعات الإسلامية والجهادية في الانتفاضة الشعبية، والخوف الإسرائيلي من محاولة التدخل في تشكيل السياسة الداخلية لسورية للدول العربية المجاورة.
وبقي الشاغل الأساسي لـ”إسرائيل” هو منع التموضع الإيراني وأذرعته على حدودها الشمالية في الجولان المحتل، ودعم بقاء بشار الأسد في السلطة مع تجريده من السلاح الكيمياوي، والتعامل المحدود مع تنظيمات معارضة لدرء خطر التنظيمات الجهادية في درعا والقنيطرة.
وحسب دراسة نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي، فإن “إسرائيل” كانت أمام خيارَين رئيسيَّين عندما اتضح حجم الانتفاضة ضد نظام الأسد: الأول هو التدخل في الانتفاضة من خلال مساعدة المعارضة المعتدلة وتقديم المساعدات الإنسانية للسكان، والثاني هو التنحي جانبًا والتأكد من حماية مصالحها الحيوية.
وطمعًا في استثمار الحدث الذي شغل الرأي العالمي في سوريا، إثر مجزرة الحولة التي ارتكبها النظام في مايو/ أيار 2012، أصدر نتنياهو بيانًا دان فيه “المجزرة المستمرّة التي تنفّذها قوّات الأسد في حقّ المدنيّين الأبرياء”. ولم يفُت نتنياهو في بيانه أن يشير إلى أنّ “إيران وحزب الله يشاركان في المجازر التي يرتكبها الأسد، ولذلك على العالم أن يتحرّك ضدّهما أيضًا”.
وبناء على ذلك سارع النظام لاتهام المعارضة بالتصهُين والتعامل مع “إسرائيل”، ضمن بروباغندا التخوين لكل من يخرج عن طاعته، إلى جانب الترويج عبر وسائل إعلامه زورًا رفع أعلام إسرائيلية خلال المظاهرات الشعبية، وقد ساعد على ذلك زيارات بعض الشخصيات السورية المعارضة التي قاموا بها إلى تل أبيب، رغم تأكيدهم أنهم قاموا بها بشكل شخصي لا رسمي.
يقول الباحث خليل إن النظام يلصق تهمة “الصهينة” ضد كل من يهدد استمراره، فدائمًا ما يسوّق عبر إعلامه ارتباط الثورة بـ”إسرائيل”، لكن عندما حانت لحظة الحقيقة وغدت السماء والأرض السورية مرتعًا للإسرائيليين، لا سيما خلال سنوات الثورة وحتى قبلها، وخلال مرحلة “طوفان الأقصى” وتوسيع الحرب الإسرائيلية نحو لبنان صمت صمتًا مطبقًا.
الموقف الإسرائيلي من الثورة
تشير دراسة أصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إلى أن “إسرائيل” فضلت منذ اندلاع الثورة السورية عدم استجابة النظام السوري لمطالبها المنادية بالحرية والديمقراطية، لأن إقامة نظام ديمقراطي في سوريا يعني تغييرًا إستراتيجيًّا في المنطقة، إضافة إلى رغبة “إسرائيل” في استنزاف الدول السورية وإنهاك السوريين نتيجة عنف النظام، والذين تراهم “إسرائيل” أعداء لها.
ونتيجة للعنف المفرط الذي استخدمه النظام ضد المدنيين، لا سيما في المناطق المتاخمة للجولان، سمحت “إسرائيل” بعبور بعض الأشخاص المصابين وفي حالات استثنائية إلى مشافيها، بعد إصابتهم في اشتباكات مع قوات النظام.
كما دعمت بشكل محدود جدًّا ولوقت قصير ما بين عامي 2013 و2014 تنظيمات عسكرية بالقرب من الجولان، كجماعة “فرسان الجولان” التي كانت تمارس نشاطها في جباتا الخشب بريف القنيطرة، وكان الهدف من الدعم تأمين حدودها المتاخمة من خطر تنظيم “داعش” والجماعات المرتبطة بها النشيطة هناك.
وحسب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، فإن “إسرائيل كانت قلقة من الجماعات الجهادية التي قد تتغلب على الفصائل الأكثر اعتدلًا، وذلك بعد أن اجتاحت مواقع متقدمة بالقرب من الجولان”.
وبعد الانتشار الكبير للجماعات الشيعية الموالية لإيران في الجنوب السوري، حاولت إسرائيل تحجيمها، إلى جانب إنهاء وجود الجماعات الجهادية المرتبطة بـ”داعش” كليًا، وبالتالي تأمين المحافظة الجنوبية، ليتمَّ أخيرًا تسليمها للنظام وإرسال المقاتلين الرافضين للتسوية إلى إدلب بعد الاتفاق مع روسيا عام 2018.
وبالنظر إلى هذا التدخل المحدود والمنضبط، يمكن فهم هدف “إسرائيل” الوحيد والمتمثل في الحفاظ على هدوء حدودها من جهة الجولان، بصرف النظر عمّن يتسلّم المهمة، سواء نظام الأسد الأكثر تنظيمًا أو بعض التنظيمات المعارضة مع الحذر الشديد بالتعامل معها، رغم أن أغلب هذه التنظيمات التي اعتمدت عليها “إسرائيل” أو تواصلت معها باتت من حلفاء النظام بعد المصالحات والتسويات.
يشير الباحث خليل إلى أنه مع حلول العام 2016، ظهر لفترة وجيزة وغير واضحة مبادرة إسرائيلية تسمّى “حسن الجوار”، لتلميع صورتها في ظل تعقيدات المشهد السوري وتدخل الدول التي ساندت المعارضة، حيث قدمت بعض المساعدات واستقبلت بعض الجرحى، بهدف التسويق الإعلامي فقط، حيث رأينا الرئيس الإسرائيلي نتنياهو وهو يلتقط الصور مع الجرحى السوريين في المشافي الإسرائيلية.
التوجهات الإسرائيلية الآن
مع إطلاق المعارضة السورية عملية “ردع العدوان”، وطرد قوات النظام والميليشيات الإيرانية من حلب وإدلب بالكامل، لم يخفِ الجانب الإسرائيلي قلقه من سيطرة فصائل المعارضة السورية على مواقع استراتيجية في شمال سوريا، خاصة تلك التابعة لمركز الدراسات والبحوث العلمية السوري (سيرس)، المعروف بتطويره أسلحة كيماوية.
وتشمل المواقع التي سيطرت عليها المعارضة الفرع 340 في غرب حلب، ومجمعات في منطقة السفيرة التي تعرضت سابقًا لهجمات سلاح الجو الإسرائيلي، “بهدف منع تطوير أسلحة دمار شامل”.
حسب الخبير الإسرائيلي، والباحث والمحاضر في قسم الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية بجامعة حيفا الدكتور يارون فريدمان، “إن المعارضة السورية التي تقودها جماعات سلفية قد تخلق تهديدًا أكبر على الحدود الإسرائيلية إذا سقط الأسد، ما يشكل تهديدًا أكبر لإسرائيل مقارنة بالنظام السوري الذي ظل، بالرغم من عدائيته، محافظًا على الهدوء في مرتفعات الجولان لمدة 50 عامًا”.
ويلفت الباحث أن “الإطاحة بالأسد قد تعني بداية عهد جديد من الفوضى وعدم الاستقرار، مع تصاعد القوى التي تهدد مستقبل سوريا وإسرائيل والمنطقة ككل”.
يرى الباحث خليل أن إسرائيل متفاجئة من التغييرات الجديدة شمال سوريا، وترى بأنه يشكّل خطرًا وتحديات للأمن القومي، فهي تخشى من أن يظهر كيان سنّي متشدد على حدودها الشمالية، وبالوقت نفسه تنظر بإيجابية إلى أن العمل موجّه ضد إيران.
مشيرًا في ختام حديثه إلى أن “إسرائيل” كدول الإقليم الذين يراقبون بحذر ما يجري على الأرض، دون أن يحسموا أمرهم بعد بالتعامل مع المستجدات الحالية التي تستهدف إنهاء النظام بالدرجة الأولى، فهم ضد إيران لكن بالوقت نفسه لا يريدون أن يكون لهم موقف داعم لتركيا أو الفصائل الإسلامية المشاركة بالعمل ضد النظام.
وحسب ما نقلت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكي عن مسؤولين إسرائيليين فإن “إسرائيل تحتاج إلى حكومة مركزية قوية في سوريا لتنفيذ خطتها للضغط على الأسد وقطع طرق الإمداد من إيران إلى لبنان. وأضافا أن إسرائيل والولايات المتحدة تواصلان جهودهما، لكن فرص نجاح هذه الخطة تبدو متضائلة أكثر.