يحتفي العالم باليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف الذي يصادف 23 إبريل من كل عام حيث كرست منظمة اليونسكو جهودها في هذا اليوم لتشجيع القراءة بين الجميع وبشكل خاص بين الشباب وتشجيع استكشاف المتعة من خلال القراءة وتجديد الاحترام للمساهمات التي لا يمكن إلغاؤها لكل الذين مهدوا الطريق للتقدم الاجتماعي والثقافي للإنسانية جمعاء.
وجاء اختيار هذا اليوم تخليدًا للقامات الخالدة التي حفرت أسمائها بأحرف من نور في سجلات في الفكر والثقافة العالمية، على رأسهم ميغيل دي سرفانتس ووليم شكسبير والاينكا غارسيلاسو دي لافيغا والذي يصادف اليوم ذكرى وفاتهم، كذلك عدد من الأدباء الأخرين الذين ولدوا في هذا اليوم، من بينهم، موريس درويون، وهالدور ك. لاكسنس، وفلاديمير نابوكوف، وجوزيب بْلا، ومانويل ميخيا فاييخو.
وبينما يحتفل العالم بهذا اليوم تشهد الثقافة في مصر واحدة من أحلك الأزمات التي واجهتها على مرّ تاريخها، في ظل حالة عداء واضح ضد كل ما له علاقة بالثقافة في مجتمع يقبع أكثر من نصفه تحت مستوى خط الفقر وما يزيد عن ثلثيه لا يجيدون القراءة والكتابة.
ريادة تاريخية
عرفت مصر الكتابة منذ قديم الأزل، وبالتحديد عام 3200 قبل الميلاد، وذلك في عهد الفراعنة الذين سجلوا على جدران معابدهم تفاصيل حياتهم وطقوسهم وكل ما يؤمنون به من أفكار ومعتقدات، وذلك حسبما أشارت الدكتورة فاطمة الزهراء الجبالي، الأستاذ بكلية الأثار جامعة الفيوم.
الجبالي لـ “نون بوست” كشفت أن المصريين القدماء كانوا أكثر أهل الأرض ولعًا بالعلم، وصل هذا التقديس إلى تخصيص إله للعلم سمي الإله “تحوت”، هذا بخلاف جهدهم المبذول في إرساء القواعد الأولى للكتابة التصويرية (الهيروغليفية) قبل التوصل إلى اللغات الحية الأخرى التي صاحبت التطورات التاريخية اللاحقة.
أما عاصم شلبي اول رئيس لاتحاد الناشرين المصريين بعد ثورة يناير فقد أرخ معرفة مصر للكتابة بشكلها الحديث عام 1819 في عهد محمد علي، حين أنشأ مطبعة بولاق التي كانت تنتج حينها ما يقرب من 35 كتابًا سنويًا، لافتًا أن معدل إنتاج الكتب وصل اليوم إلى 530 كتابًا سنويًا.
شلبي في حواره مع صحيفة “الأخبار” المصرية الحكومية قال إن بلاده تنتج الآن أكثر من 85٪من إنتاج الوطن العربي للكتب، تليها السعودية وسوريا التي تنتج كل منهما 8٪من مجمل إنتاج المنطقة العربية في كافة التخصصات المعرفية، كاشفًا أن ثورة يناير 2011 كانت البوابة الكبرى لريادة مصر الثقافية عربيًا وإقليميًا.
رئيس اتحاد الناشرين الأسبق كشف أن أجواء الحرية والانفتاح التي شهدتها مصر إبان الثورة سمحت بتعزيز المسار الثقافي ما سمح للكثير من الكيانات الموجودة التمدد والانتشار فضلًا عن ميلاد نوافذ ثقافية جديدة من رحم الثورة، كان لها عامل السحر في زيادة معدلات القراءة لدى المصريين بعد سنوات من التراجع.
تراجع في معدلات القراءة
شهدت السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في معدلات القراءة بالنسبة للمصريين مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ذلك، فبعيدًا عن نظرية الدقائق الست التي أقرتها بعض التقارير الإحصائية المكرورة بشأن معدلات القراءة العربية مقارنة بـ 36ساعة أوروبيًا وأمريكيًا، إلا أن الوضع في مصر يختلف بصورة كبيرة تتناقش بشكل واضح مع الواقع المعاش.
محمد عيد، مدير علاقات الناشرين ببنك المعلومات العربي “أسك زاد” أشار إلى انخفاض معدلات القراءة في مصر خلال الأعوام الخمس الأخيرة بصورة ملحوظة، وهو ما تعكسه تقارير دور النشر المصرية بشأن الكتب المنشورة سنويًا فضلًا عن نسب الإقبال على شرائها.
عيد لـ “نون بوست” أكد وجود فجوة واضحة بين معدل إنتاج الكتب ونسب القراءة، ففي الوقت الذي ربما تحافظ فيه معدلات نشر الكتب السنوية على التفوق عربيًا إلا أن ذلك لا يعني ارتفاع معدلات القراءة، لافتًا إلى أن النسبة الأكبر من النشر يتعلق بالكتاب الجامعي، الذي يفتقد في كثير من مضمونه للبعد الثقافي المستديم مقارنة بالمنشورات الأخرى.
افتتاح اول مكتبات الكرامة العامة في شارع بدار السلام، مكتبة خطوة"2011
من نتائج الثورة،اغلقها امن الدولة بتواطؤ من مرشحة اليونسكو،مشيرة خطاب pic.twitter.com/zfTaAh9I5U
— Gamal Eid (@gamaleid) July 9, 2017
وفي السياق ذاته أكدت أميرة سليمان، مسئولة البيع في إحدى دور النشر القاهرية الخاصة، أن هناك حالة من الركود تشهدها دور النشر في مصر خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي أثر بصورة كبيرة على حركة البيع والشراء، وهو ما انعكس على المناخ الثقافي بصفة عامة.
سليمان لـ “نون بوست” عددت الأسباب الذي أدت إلى هذا التراجع، على رأسها ارتفاع أسعار المواد الخام، سواء سعر الورق أو الطباعة، وهو ما انعكس على سعر الكتاب الذي ما عاد يناسب الكثير من المصريين الذين يعانون من أزمات اقتصادية طاحنة خلال الأونة الأخيرة.
وأضافت أن سقف الحرية الذي انحدر لمستويات غير مسبوقة وتضييق الخناق وتشديد الرقابة على المصنفات أدى إلى إحداث تغيير واضح في خارطة نوعية الكتب المنشورة، والتي فقدت في كثير منها النوعية ذات الجماهيرية الكبيرة على رأسها الكتب السياسية والتاريخية، ما أدى بالطبع إلى تراجع سوق القراءة والنشر في آن واحد.
عداء الثقافة
تكن السلطات المصرية الراهنة حالة من العداء الواضح للثقافة وهو ما تكشف جليًا خلال الحملة الممنهجة التي شنتها ضد المنافذ الثقافية ذات الجماهيرية الكبيرة، حيث أغلقت العديد من المكتبات الشعبية دون إبداء أسباب، وهو ما أثار استياء العشرات من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية.
ففي الأول من ديسمبر 2016 أغلقت قوات الأمن المصرية مكتبات “الكرامة” التي تعد واحدة من دور النشر الكبرى ذات الصيت الواسع، إذ هاجمتها من قبل عدد من أفراد الشرطة المسلحين ، وأخلتها تماما بعد طرد 25 طفلاً كانوا يتلقون بعض دروس الموسيقى داخل المكتبة ثم تشميعها، وهي الخطوة التي ستحرم نحو 40 ألف مستفيد من المكتبة سنويًا أغلبهم من فئة الأطفال والشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 12-17 سنة، كانوا يعتبرون المكتبة مكانًا آمنًا للمذاكرة، وفق صاحب المكتبة جمال عيد.
#مصر : بعد مكتبات الكرامة وألف .. السلطة تغلق مكتبة “البلد”..
قالك يعمل إيه التعليم في وطن ضايع؟ وبعدين أحنا… https://t.co/Bo9LrQuHUM
— Sara Marai (@MaraiSara) September 25, 2017
وفي السابع عشر نوفمبر من نفس العام فوجئ العاملون بفروع مكتبات “ألف” بمداهمة قوات الشرطة له وإغلاقها دون إبداء أسباب فضلاً عن اعتقال بعضهم، وتعد مكتبات “ألف” التي أنشأت عام 2009 وتتخذ من منطقة مصر الجديدة بالقاهرة مقرًا لها، واحدة من أشهر الروافد الثقافية المصرية.
الأمر ذاته تكرر في الرابع عشر من سبتمبر من نفس العام، حيث أُغلقت مكتبة “البلد” وتشميعها بالشمع الأخر، ومحاولة مصادرة الكتب المتواجدة بها لولا تصدي العاملين بها ، بحسب مالكها فريد زهران رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي الذي نفى معرفته لأسباب تلك المداهمة وإلقاء القبض على مديرها.
تنديد حقوقي
الممارسات السلطوية لكبت الحريات الثقافية أثار حفيظة العديد من المنظمات الحقوقية التي استنكرت ترشيح مصر لمرشحة على منصب منظمة اليونسكو في الانتخابات التي جرت قبل عام ونصف، في الوقت الذي تعادي فيه الثقافة وتحكم قبضتها الأمنية على روافدها.
وفي أكتوبر 2017 وتحت عنوان “ممثلو الدول التي تعادي الحقوق الثقافية وحرية التعبير لا يجب أن يديروا اليونسكو” أصدرت عدد من المنظمات الحقوقية المصرية بيانًا استنكرت فيه ترشيح السفيرة مشيرة خطاب لمنصب مدير عام المنظمة الدولية للعلوم والثقافة “اليونسكو” خلفًا لمديرة المنظمة الحالية إيرينا بوكوفا، في الانتخابات التي جرت في أكتوبر من نفس العام بمقر المنظمة في باريس.
البيان الموقع من 6 منظمات، هي: الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مركز النديم لمناهضة التعذيب، مركز أندلس لدراسات التسامح، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، نظرة للدراسات النسوية، لفت إلى أن “منصب مدير منظمة اليونسكو مسؤولية ضخمة، تتطلب قيمًا وتاريخًا يجب أن يتحلى به المرشح، وليس منصبًا يكافأ به المستبدون ومن يدعمونهم”.
هل الحكومة تحارب الإرهاب بغلق المكتبات الثقافية؟؟
مكتبات الكرامة
مكتبة وسط البلد
بعد تأميم الإعلام يأتى تأميم العقول!!
— هيثم الحريري (@HaithamElhariri) September 25, 2017
تنديد أخر عبرت عنه الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان تعليقًا على غلق مكتبة “البلد” سبتمبر العام قبل الماضي، ففي بيان لها وصفت ما حدث حينها بأنه “انتهاك بوليسي غير مسبوق في مسار الثقافة المصرية”، لافتة إلى أن “استهداف مكتبة البلد بعد أقل من شهر من التحفظ على أموال مكتبة ألف، وفروعها على مستوى الجمهورية، وإخضاعها لإدارة الدولة، وقبلها مكتبات الكرامة العامة بالأحياء الشعبية، التي أغلقتها السلطة في مصر بشكل بوليسي دونما قضية أو قرار في ديسمبر 2016 هو استمرار للحملة التي بدأتها السلطة في أغسطس 2014 بمنع احتفالية الفن ميدان التي كانت تقام في ميدان عابدين لمدة ثلاث سنوات، ثم مداهمة وإغلاق جاليري تاون هاوس ومسرح روابط في يناير 2016”.
البيان حينها خلص إلى أن “السلطة في مصر تتخذ منحى معاديًا للمعرفة والثقافة وممعنًا في عسكرة الحياة في مصر” فيما طالب النظام في مصر بـ”رفع يده عن الثقافة وأماكن تغذية العقول وإنارتها، والتراجع الفوري عن قرار غلق مكتبة البلد، وإعادتها لدورها في إثراء الحركة الثقافية في مصر”، وهو ما لم يتحقق حتى كتابة هذه السطور.
وعلى الأرجح يبدوا أن حالة العداء لن تنتهي سريعًا وهو ما كشفته التغيرات المحورية التي طرأت على معرض القاهرة للكتاب الأخير يناير الماضي، حيث تم نقله إلى حدود القاهرة بدلا من وسط العاصمة فضلًا عن استبعاد سور الأزبكية الخاصة بالكتب رخيصة الثمن من المشاركة، الأمر الذي انعكس على حركة الإقبال من جانب والبيع والشراء من جانب آخر.