أحدثت عملية “ردع العدوان” التي شنتها فصائل المعارضة السورية ضد نظام الأسد، صبيحة الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني، وحققت خلالها نجاحات غير متوقعة على المستوى الميداني، حالة من الانقسام لدى الشارع المصري الذي تباينت مواقفه إزاء هذا التطور اللافت، بين داعم للحراك الثوري واحترام إرادة الشعوب في تقرير مصيرها والتخلص من إرث الديكتاتورية التي جثمت على صدور الشعب لأكثر من 5 عقود، وبين الداعم لجيش الأسد والمناهض لتلك التحركات التي وصفها بـ”الإرهابية” و”المؤدلجة” التي تخدم الأجندة الصهيونية في المنطقة.
ومع تقدم المعارضة على الأرض، وسيطرتها على المزيد من البلدات والمواقع العسكرية في ريف الشمالي، ونجاحها في تحرير حلب، واقترابها من حماة، مقابل انهيار جيش النظام بشكل مثير للريبة، تصاعدت وتيرة الصراخ على المنابر الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي من الموالين لنظام عبد الفتاح السيسي، ساسة وإعلاميين ولجان، محذرة من سقوط النظام السوري ومطالبة بالتدخل الفوري لدعمه في مواجهة فصائل المعارضة التي وصموها بعشرات الاتهامات والمزاعم.
وتعاني الخريطة المصرية كالعادة من غياب الموقف الموحد، حيث التأرجح على أوتار التباين والخلاف، في ظل الهوة الكبيرة بين مقاربات النظام وحسابات الشعب، فما يحدث في سوريا مثل ما يحدث في غزة ومن قبله في السودان وليبيا واليمن وتونس والعراق وقطر، دومًا ما يثير الانقسامات لدى الشارع المصري الذي اعتاد أن يجد نفسه إزاء كل أزمة في خيار صعب، إما السير مع القطيع الذي ترسم السلطة مساره، وإما القذف بسهام الإرهاب والتطرف لمن يفكر في التغريد خارج السرب.
الموقف الرسمي.. دعم النظام السوري على طول الخط
باستثناء فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي (2012/2013) الذي أعلن دعمه الكامل والمطلق للثورة السورية واحترام إرادة السوريين، وقطع العلاقات مع نظام الأسد الذي اتهمه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحق شعبه، جاء الموقف الرسمي المصري للنظام الحاكم فيما بعد داعمًا على طول الخط للأسد ونظامه وجيشه، تارة يكون الدعم مستترًا وأخرى معلنًا، لكنه في النهاية كان متناغمًا مع العقيدة السياسية والعسكرية التي تهيمن على الرئيس عبد الفتاح السيسي، والتي عبر عنها أكثر من مرة من خلال التصريحات التي قال فيها إن بلاده “تدعم الجيوش الوطنية في المنطقة العربية لحل الأزمات ولحفظ الأمن والاستقرار”.
ومنذ تولي السيسي السلطة رسميًا عام 2014، ورغم محاولة النأي عن التورط والانخراط في الملف السوري بشكل مباشر وعلني، من خلال الانحياز لطرف دون آخر، فإن التنسيق مع الأسد ودعم نظامه لم يتوقف يومًا واحدًا، وهو ما وثقته عشرات التقارير والتسريبات التي كشفت عن إرسال مصر قوات لمساعدة النظام السوري، واللقاءات المتعددة التي جمعت بين رجال الاستخبارات السورية ونظرائهم المصريين، فضلًا عن الدور الذي لعبته القاهرة مؤخرًا لإعادة إدماج الأسد ونظامه في المحيط العربي بعد العزلة التي فُرضت عليه بداية الثورة بسبب الجرائم الوحشية التي ارتكبها ضد شعبه.
بعد يومين فقط من عملية “ردع العدوان” وافتضاح هشاشة جيش الأسد بعد تخلي حلفائه عنه، أجرى وزير الخارجية المصرية، بدر عبد العاطي، اتصالًا هاتفيًا بنظيره وزير خارجية النظام السوري، بسام صباغ، ناقش خلاله التطورات في إدلب وحلب، مؤكدًا على “موقف مصر الداعم للدولة السورية ومؤسساتها الوطنية وأهمية دورها في تحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب وبسط سيادة الدولة واستقرارها واستقلال ووحدة أراضيها”.
البيان حرك المياه الراكدة في المشهد الإعلامي المرتبك منذ بدء الحراك الثوري للمعارضة، ومنح الإعلاميين الموالين للسلطة الضوء الأخضر للحديث، بعد فترة صمت استمرت قرابة يومين كاملين، حيث غرّد الإعلامي وعضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، مصطفى بكري، في منشور عبر حسابه على “إكس”، قائلًا إن دعم مصر للدولة السورية ومؤسساتها الوطنية هو “موقف قومي يتوخى المصلحة السورية، ويعكس ثوابت مصر التي تضع قضية الأمن القومي العربي ومكافحة الإرهاب في مقدمة أولوياتها”، لافتًا إلى أن التطورات الأخيرة “تتم تحت غطاء أمريكي-إسرائيلي تمهيدًا للسيطرة على سوريا” وتابع: “نحن أمام مؤامرة كبرى لن تقف عند حدود الدولة السورية”.
أما زميله أحمد موسى، الإعلامي المقرب من النظام، الذي يصفه البعض بأنه المتحدث باسمه، فحذر من خلال تغريدات له على منصة “إكس” مما أسماه “تكرار سيناريو فوضى 2011″، مطالبًا الجيش السوري بـ”تدمير” الفصائل المعارضة المسلحة التي وصفها بـ”الإرهابيين”، متهمًا إياهم كما بكري، بأن تحركهم كان بضوء أخضر أمريكي-إسرائيلي وبأوامر عليا من قيادات داعش والقاعدة على حد قوله.
الشارع المصري.. 3 أقسام
انقسم الشارع المصري إزاء التطورات السورية إلى 3 أقسام مختلفة:
الأول: القسم المؤيد لوجهة نظر السلطة.. الداعم بطبيعة الحال لجيش الأسد والنظام السوري، وفي الأغلب هو القسم المحسوب على النظام الحاكم والمعارض للفكر الثوري، الذي يتبنى المعتقدات الفكرية القومية التي تميل لرفض الفصائل حتى لو كانت من بين ثنايا الشعب، والمؤيد للأنظمة والجيوش الرسمية بصرف النظر عن انتهاكاتها بحق شعوبها وانقلابها على إرادتها.
ومنذ اليوم الأول لعملية “ردع العدوان” بدأ هذا القسم في الترويج عبر منصات التواصل الاجتماعي لبعض المعلومات المغلوطة التي تستهدف تشويه المعارضة بشكل أو بآخر، أبرزها اقتحام الفصائل للسجن المركزي في حلب، وتحرير المعتقلين، ورفع علم “إسرائيل” بجانب علم داعش، واغتيال قائد “هيئة تحرير الشام” في غارة سورية روسية مشتركة، والترويج لدعم تل أبيب لهم بالسلاح.
ستنتصر إرادة الأحرار في سوريا ، وسيسقط الخونه المتآمرين الذين يتآمرون من أجل إسقاطها ، سوريا العروبه ستظل هامتها مرفوعه ، ومصير الإرهابيين إلي مزبلة التاريخ pic.twitter.com/bYxN8VYRKc
— مصطفى بكري (@BakryMP) December 2, 2024
الثاني: التيار الداعم للحراك الثوري، الداعي لاحترام إرادة الشعب الثوري في تحديد مصيره، المطالب باسقاط نظام الأسد صاحب السجل المشين من الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية بحق شعبه على مدار أكثر من عقد كامل، وهو القسم الذي حمّل رئيس النظام وميليشياته مسؤولية ما وصل إليه الوضع في البلاد، بعدما فتحها للقوى الخارجية ذات الأطماع التوسعية وحوّل سوريا إلى “لوكاندة” للأجندات الأجنبية، فضلًا عن استعداء شعبه جراء الإجرام الذي مارسه بحقه طيلة 10 سنوات كاملة.
إنهاء حكم آل الأسد الإجرامي لن ينقذ سوريا فقط من أتون الحرب والخراب والدمار والانقسام والتمزق، بل سينقذ لبنان والعراق أيضا، ويؤسس للسلام والأمن الإقليمي في تركيا والأردن كذلك، ويحصن دول الخليج العربي من خنجر مسموم، عصابة آل الأسد بؤرة شر وتآمر وابتزاز وتقسيم في المشرق العربي كله
— جمال سلطان (@GamalSultan1) December 3, 2024
في رمضان قبل الماضي
قضيت ٣٠ يوماً كاملة في شمال غرب سوريا
تقابلت مع ما يقارب ٤٥٠ شخصية على الهواء مباشرة ف #الجزيرة_مباشر خلال ما يزيد عن ١١٠ ساعة بث مباشر ،
أدركت هناك بعين الصحفي العربي المسلم أن #ثورة_سوريا
لم تقل كلمتها النهائية بعد
و أن على هذه الأرض ينشأ جيلٌ جديد لا… pic.twitter.com/9UfFx8cPPa
— Ayman Azzam (@AymanazzamAja) November 29, 2024
الثالث: التيار المحايد، الذي يقف على مسافة واحدة من طرفي الأزمة، لكنه يدعم حق الشعب السوري في نظام يمثله ويعبر عنه ويدافع عن حقوقه، وهو التيار الذي يرى أن نظام الأسد هو من أوصل المشهد إلى تلك المرحلة، وأنه غير جدير بتمثيل السوريين بعد الجرائم التي ارتكبها، وفي المقابل يتخوف من بعض الفصائل المنتسبة إلى المعارضة التي يتهمها بالولاء لقوى إقليمية معروفة وتنفيذ أجندات خارجية.
ويميل أنصار هذا الرأي إلى أن الأمر لا يتعلق بمباراة لكرة القدم ينبغي أن نشجع فيها فريقًا ضد آخر، كما جاء على لسان الكاتب والسياسي خالد داود، بل هي مأساة ممتدة، الضحية فيها الشعب السوري القريب لقلوب المصريين، ومن ثم فالحل من وجهة نظر هذا الفريق يتمثل في ضرورة إبعاد النظام والفصائل المسلحة الحالية عن المشهد، والبحث عن خيارات أخرى أكثر تعبيرًا عن السوريين الذين يستحقون الأفضل.
سوريا ،، بهدوء
كلام من قبيل المعلومة وليست الرأي.
سوريا كبلد وشعب يتحب فعلا.
لكن حكامها لأ.
لازم نفتكر مين السبب في وضعها الحرج الان
حافظ الاسد بيحكم سوريا فعليا من 1966 ، ورسميا اصبح رئيس في 1971.
حافظ اسد حكم سوريا بالحديد والنار لمدة 30 سنة ، يعني لحد ما مات في سنة 2000.
حافظ…
— Gamal Eid (@gamaleid) December 2, 2024
خالد داود 🖊
يخبرنا سجل أسرة الأسد أنه إذا وُضِع أمام خيار دعم المقاومة أو بقاء نظامه، فإنه سيختار بكل تأكيد الحفاظ على كرسيه ولو بقي نفوذه مقتصرًا على العاصمة دمشق، ولو استمرت الحرب الأهلية التي يدفع ثمنها الشعب السوري إلى ما لا نهاية.#كتاب_المنصة #رؤىhttps://t.co/Ke4NoKTJhx
— المنصة (@Almanassa_AR) December 4, 2024
مقاربات القاهرة في دعم الأسد
يعد نظام السيسي أول نظام عربي يعلن دعمه لنظام الأسد، بشكل مباشر وغير مباشر، فحينما اتخذت معظم الحكومات العربية قرارًا بمقاطعة النظام السوري في 2013 وتجميد مقعده داخل الجامعة العربية – قبل التراجع عن هذا القرار وفق مقاربات مستجدة – كانت القاهرة العاصمة الوحيدة التي غردت خارج السرب، واتفقت على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق وقتها، فضلًا عن التصويت إلى جانب روسيا في مجلس الأمن ضد مشروع القرار الداعي لوقف العمليات الإجرامية في حلب، الذي كانت ترعاه فرنسا، وهو ما أحدث خلافات واضحة مع بعض الأنظمة الخليجية والغربية التي كانت ترى في الأسد نظامًا مهددًا للأمن القومي العربي.
ورغم ذلك تؤمن القاهرة دومًا بأن سوريا امتداد لعمقها الأمني البعيد، وعليه لعبت دور الوساطة في بعض الأحيان لتجنب تمدد الفوضى واللااستقرار الناجمة عن استمرارية الصراع بين المعارضة ونظام الأسد، فكانت اللاعب الأبرز في توقيع اتفاق وقف التصعيد في الغوطة الشرقية في 22 يوليو/تموز 2017، ثم اتفاق الهدنة شمالي حمص في 3 أغسطس/آب من نفس العام، بالتعاون مع روسيا.
ويشكل الاتفاق نجاحًا مصريًا جديدًا بعد توقيع اتفاق الهدنة في منطقة الغوطة الشرقية بدمشق مؤخرًا.
وينطلق نظام السيسي في دعمه المطلق لنظام الأسد من خلال مقاربات خمسة:
الأولى: مغازلة موسكو، الحليف الأهم والأقوى لنظام الأسد، حيث كان يعول السيسي على روسيا في دعم شرعيته المشكوك فيها على المستوى الغربي، خاصة بعد توتر العلاقات مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وعليه كان الاحتماء بالدب الروسي هو الخيار الوحيد وقتها لمواجهة الانتقادات الغربية.
الثانية: العقيدة العسكرية للجيش المصري، التي تنطلق من رفض الفصائل المسلحة خارج رحم المؤسسة العسكرية الوطنية، خشية ما يمكن أن يترتب على أريحية نشاطها من تداعيات سلبية على الجيوش النظامية، وبحكم أن السيسي قادم من هذا الرحم، فكان الدعم للجيوش النظامية التي من بينها بطبيعة الحال الجيش السوري، هو الخيار الوحيد.
الثالثة: الخوف من ربيع عربي جديد وتكرار سيناريو 2011، إذ ظل هذا الأمر كابوسًا يؤرق مضاجع السيسي الذي لم يترك مناسبة إلا ويحذر خلالها من تكرار هذا السيناريو، بل اعتاد في تحذيراته بالاستشهاد بالنموذج السوري تحديدًا، حيث المعاناة والمأساة التي يعايشها السوريون بسبب حراكهم الثوري ورغبتهم في التغيير، وحالة الانقسام التي تعاني منها الدولة.
الرابعة: كابوس صعود الإسلاميين: من سوء حظ الأنظمة السلطوية في المنطقة العربية أن الإسلاميين كانوا وقود الحراك الثوري الشعبي الذي شهده الربيع العربي في 2011، وكان السمت الإسلامي هو المسيطر على غالبية المشهد، وهو ما حول الإسلاميين إلى “بعبع” لتلك الأنظمة الديكتاتورية التي انتفضت لمحاربتهم بشتى السبل، وبالفعل نجحت في تقزيم حضورهم وتقليم أظافرهم بشكل كبير.
كما استطاعت تلك الأنظمة إشاعة أجواء اليأس في التيار الإسلامي في معظمه من احتمالات التغيير، ومن هنا جاءت الصدمة مما يحدث في سوريا، والتقدم المذهل للمعارضة المسلحة هناك، وهي العدوى التي تخشى الحكومات السلطوية العربية من انتقالها وتمددها خارج الأراضي السورية، وهو ما يفسر مسارعة كل من مصر والإمارات والسعودية لإعلان دعمهم للجيش والنظام السوري في مواجهة هذا الحراك.
الخامسة: مناهضة النفوذ التركي: في بدايات الثورة السورية ومع تولي نظام السيسي السلطة، كانت عقارب الساعة المصرية دومًا تذهب بالاتجاه المعاكس للعقارب التركية، في ظل الخلافات الحادة بين النظامين في ذلك الوقت، ما تسبب في حدوث الكثير من المعارك السياسية والإعلامية والاقتصادية بين الطرفين، كانت سوريا – إلى جانب ليبيا والقرن الإفريقي وتونس قطر – واحدة منها، ومن هنا جاء الدعم المصري لنظام الأسد، المُعادي للنظام التركي، في محاولة لتفويت الفرصة على “تركيا أردوغان” في تحقيق أي مكسب سياسي أو عسكري في هذا الملف، كما حدث في اتفاق ترسيم الحدود مع اليونان وقبرص قبل ذلك.
وفي الأخير ينظر المصريون بترقب شديد للمشهد السوري وتطوراته، وما يمكن أن تُسفر عنه من مخرجات ترسم بشكل أو بآخر المستقبل القريب والبعيد على حد سواء، وذلك لما تحتله سوريا، دولة وشعبًا، من مكانة كبيرة في قلوب الشعب المصري من جانب، علاوة على كونها امتدادًا لقطار العروبة الذي تمثل القاهرة ودمشق أبرز محطاته، وعمقًا محوريًا للأمن القومي المصري من جانب آخر.