أعلنت لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” في دورتها الـ12 فوز رواية “بريد الليل” للكاتبة اللبنانية هدى بركات بالجائزة الكبرى لعام 2019 التي تقدر قيمتها بـ50 ألف دولار إضافة إلى 10 آلاف دولار لوصول الرواية إلى القائمة القصيرة، وجاء إعلان الرواية الفائزة في حفل أُقيم بالعاصمة الإماراتية أبو ظبي وذلك عشية انطلاق معرض أبو ظبي للكتاب 2019.
تألفت القائمة القصيرة للبوكر 2019 من ست روايات هي: رواية بريد الليل لهدى بركات، رواية شمس بيضاء باردة للأديبة الأردنية كفى الزغبي، رواية الوصايا للكاتب المصري عادل عصمت، رواية النبيذة للكاتبة العراقية إنعام كجه جي، رواية بأي ذنب رحلت؟ للكاتب المغربي محمد المعزوز، ورواية صيف مع العدو للكاتبة السورية شهلا العجيلي.
بريد الليل.. رسائل هدى بركات التي ضيعتها الحروب
“أنا حزينُ فعلًا، إذ أكتبُ إليكِ عن تردُّدي، عن رَاوحِي ومَجيئي بينَ راحة التخلصِ منكَ وبين مأساة خسارتك وفَشلِنا معًا”.
رغم أن عدد صفحات الرواية لا يتعدى الـ128 صفحة، فإنها شديدة التعقيد وموغلة في القتامة، إذ تتخذ من الليل ستارًا لها لتحكي عن رسائل تُكتب في عتمته لن يطلع عليها ضوء النهار، تدور جميع الأحداث في اللامكان، إذ محت الحروب جميع العناوين ودمرت الشوارع واختفت مهنة ساعي البريد، ورغم أن هدى بركات لا تميل إلى استخدام الرمز في كتاباتها الأدبية، فإن هذه الرواية تحديدًا لا يمكن فهم أحداثها بعيدًا عن القراءة الرمزية.
هدى بركات كاتبة رواية “بريد الليل”
تحكي رواية “بريد الليل” عن خمس رسائل متفاوتة الطول يتوزع كتابها على ثلاثة فصول: في الفصل الأول الذي يحمل اسم “خلف النافذة” تأتينا الرسالة الأولى من رجل إلى حبيبته يحكي لها عن فقدانه الصلة بأهله جراء الحرب وإقامته البائسة في غرفة معتمة لا يغادرها أبدًا حيث يعاني من جنون ارتياب أن أحدًا من المخابرات الحربية يراقبه دائمًا، يحكي كاتب الرسالة أيضًا بأنه مهاجر سري يعيش بلا أوراق رسمية وكان يعمل معارضًا سياسيًا في السابق قبل أن يتحول إلى تاجر مخدرات.
أما الرسالة الثانية فتكتبها سيدة من أحد الفنادق الأوروبية إلى حبيبها الذي تخلف عن موعده معها منذ سنوات طويلة، وتحكي له من خلال الرسالة عن ماضيهما معًا في تداعيات متقطعة لتسأله في النهاية هل سيعود إلى الوطن بعد الثورة أم أن الهزيمة سحقته؟
ومن خلال الرسالة الثالثة نطلع على اعترافات ابن يكتب إلى والدته من أحد المطارات ليحكي لها عن قصة اعتقاله على يد العسكر والتعذيب الذي لاقه في المعتقل ليعترف بما لا يعرف، إلى أن قامت واقعة “الربيع” واستطاع الهرب من السجن وفر هاربًا إلى خارج البلاد.
ارتكزت بركات في كتابة روايتها على التفكيك والتركيب، فرغم أن الرسائل لا تصل إلى أصحابها الحقيقيين، فإنها تصل في النهاية إلى أحد أطراف الحكاية بمحض الصدفة
تأتي بعد ذلك الرسالة الرابعة التي تكتبها إحدى السيدات إلى أخيها تحكي له فيها في سياق خواطر عن مغادرتها لبيت العائلة بعد الطلاق وقرارها بترك ابنتها والفرار عن طريق البحر هربًا إلى واقع أشد قسوة، وكان من الواضح أن الكاتبة تحكي خلال هذه الرسالة عن سوريا، أما الرسالة الأخيرة فهي صرخة يطلقها ابن في مواجهة أبيه الذي لطالما وصفه بأنه “خنثى” لأنه ضعيف وجبان.
ارتكزت بركات في كتابة روايتها على التفكيك والتركيب، فرغم أن الرسائل لا تصل إلى أصحابها الحقيقيين، فإنها تصل في النهاية إلى أحد أطراف الحكاية بمحض الصدفة، فجميع الرسائل يُعاد بناؤها من جديد من خلال الشخصيات المُستلِمة وقد استلهمت بركات أجواء روايتها من الكاتب الفرنسي “ألن روب غرييه” الذي يقوم دومًا بتشتيت الثيمة الرئيسية ويطلب من القارئ إعادة ترتيبها، فهو يؤمن بفكرة القارئ العضوي الذي يجب أن يشارك في كتابة الرواية لأنه عنصر رئيسي في العملية الإبداعية.
صورة منقوصة
ليستطيع القارئ فك وتركيب النص الروائي من جديد يجب أن تكون جميع قطع الأحجية موجودة، وهذا الأمر لم يحدث بشكل مكتمل الأركان في رواية هدى بركات، فعلى الرغم من أن الرواية موغلة في الرمز، تعمدت بركات في بعض الأجزاء إخفاء الأسباب الحقيقية للجرائم والحروب.
لم تذكر الكاتبة بشكل واضح وصريح أن نظام الأسد هو الذي شرد السوريين ودفعهم إلى أمواج البحر، ولكنها لوحت من بعيد بمسؤولية داعش فقط عن كل ما حدث!
في قصة سوريا على سبيل المثال، لم تذكر الكاتبة بشكل واضح وصريح أن نظام الأسد هو الذي شرد السوريين ودفعهم إلى أمواج البحر، وبدلاً من ذلك لوحت بمسؤولية “داعش” فقط عن كل ما حدث، وكأن الأنظمة العربية لا يد لها في كل ما حدث للبلاد العربية.
من ناحية أخرى، اعتبرت بركات أن العسكر الذين يعذبون المعتقلين في السجون يعانون من أمراض نفسية، فيما يمكن اعتباره تبرير للسجانين الذي يمارسون أعمالاً وحشية بحق المعتقلين بموجب السلطة التي يمنحها لهم النظام الحاكم، تسفر في كثير من الأحيان عن موتهم أو تعرضهم لإصابات جسدية ونفسية عميقة. هل التوحش صفة مرضية؟ وهل يحل التسامح مع القتلة الأمر.
علامات استفهام
قبل ساعات من افتتاح حفل جائزة البوكر كتبت الأديبة العراقية إنعام كجه جي المرشحة ضمن القائمة القصيرة للجائزة عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: “الآن بدأ في أبو ظبي حفل الإعلان عن الفائز بجائزة البوكر للرواية العربية. وجدت أن من المناسب الامتناع عن حضور الحفل بسبب التسريبات التي سبقته وتضر بهذه الجائزة، لا يمكنني المشاركة في ما نسميه باللهجة العراقية عرس واوية. مبروك للعزيزة هدى بركات فوزها بالبوكر، وهي تستحق ما هو أفضل من هذه الجائزة التي كانت على حق يوم دعتني لمقاطعتها”.
الأديبة العراقية إنعام كجه جي
كان سبب غضب الكاتبة العراقية الرئيسي هو تسريب اسم هدى بركات قبل الحفل الذي من رأيها يضر بشفافية المسابقة، على أن علامات الاستفهام تلاحق البوكر في ملفات عدة، من أبرزها ما ذكره الناقد الجزائري عمر أزراج من أن لجنة تحكيم البوكر العربية لا تضم نقادًا أدبيين بارزين ولا متخصصين في مسرح النقد العربي، كما أنهم ليسوا روائيين كبار لهم تأثير قوي في حقل الإبداع الروائي، وهو الأمر الذي يُفقد الجائزة كثيرًا من مصداقيتها، فعلى سبيل المثال تألفت لجنة هذا العام من شرف الدين ماجدولين رئيس اللجنة المتخصص في الجماليات والسرديات البصرية واللفظية، وفوزية أبو خالد الباحثة السعودية في القضايا السياسية والاجتماعية، وزليخة أبو ريشة الناشطة في مجال حقوق المرأة والإنسان بالأردن، ولطيف زيتوني الأكاديمي اللبناني المختص بالسرديات، وتشانغ هونغ يي المترجمة والباحثة الصينية.
وعلى جانب آخر من المعروف أن لجنة تحكيم البوكر تراعي في اختيار الرواية الفائزة دومًا المسألة الإقليمية، وتضع اعتبارات البلد الذي يمثله الكاتب كأولوية تسبق المعيار الأدبي.
ويشار إلى أن هدى بركات قاطعت جائزة البوكر بعد عام 2013 لأن روايتها “ملكوت هذه الأرض” لم تصل للقائمة القصيرة ولكنها تقدمت للجائزة هذه السنة تحت ضغط الناشرة الخاصة بها صاحبة دار نشر الآداب.