ترجمة حفصة جودة
كانت معظم المتاجر مغلقة الساعة الـ11 صباحًا في شارع عبد العزيز جاويش بوسط البلد في القاهرة، فأي وقت قبل منتصف اليوم يعد مبكرًا للعمل هنا، لكن هناك بائع متجول يؤدي عمله، يقف سيد الديب هنا وبيده عجينة الفلافل الخضراء الخفيفة ليشاركنا أسراره.
يقول الديب: “نحن هنا لا نضيف أي كربونات أو خبز للعجينة وهذا هو السر، فنحن نصنع الفلافل مثلما تُصنع في المنزل، لقد كانت الفلافل تجارة عائلتنا منذ 50 عامًا، فقد بدأتها أمي ثم أختي وعندما توفيت توليت المهمة وها أنا أفعل ذلك منذ 12 عامًا”.
الوقوع في حب الفول
يهتم المصريون كثيرًا بالفلافل الخاصة بهم التي تسمى محليًا بـ”الطعمية” ربما لأنها تُصنع بطريقة مختلفة، حيث يتم استبدال الحمص بفول التدميس، وبالإضافة إلى الثوم والبصل (المكونات الأساسية) يضيف المصريون بعض المنتجات الطازجة مثل البقدونس والكزبرة والكراث، لتمنح تلك الوجبة الشعبية طعمًا مميزًا.
تصنع أسرة سيد الديب الفلافل منذ 50 عامًا
يقول مصطفى الرفاعي رئيس الطهاة في مطعم “زوبا” أحد أشهر سلسلة مطاعم في القاهرة وسفير المطبخ المصري التاريخي في جمعية الطهاة العالمية: “الأعشاب التي نستخدمها تجعل الفلافل أغنى طعمًا، لا توجد الكثير من الأعشاب في الفلافل السورية واللبنانية، عندما تفتحها ترى أن لونها ذهبي في حين أن الفلافل المصرية لونها أخضر، كما أن الفلافل السورية جافة وكثيفة بعض الشيء بينما المصرية أخف بكثير، لهذا أعتقد أن الفلافل المصرية أفضل نكهة”.
ظل النقاش عن منشأ الفلافل محتدمًا لسنوات ودافعت سوريا ولبنان ومصر وفلسطين عن أحقيتها، لكن العديد من المؤرخين يقولون إن موطنها الأصلي مصر، وفي كتابها “أمة الفلافل” تقول البروفيسور يائيل رافيف من جامعة نيويورك: “يعود أصل الفلافل إلى المسيحيين الأقباط في مصر، فلم يكن مسموحًا لهم بتناول البروتين في بعض الأعياد خاصة الصيام الكبير، لذا كانت الطعمية تؤدي دور اللحوم لأنها غنية بالبروتين، وعندما انتقل الطبق إلى مناطق أخرى بالشرق الأوسط تم استبدال الفول بالحمص”.
يوضح مفضل سيف الدين الفروق بين أنواع حبوب الفول المستوردة
السياسات الغذائية
لا شك أن فول التدميس يعود أصله لمصر، فقد ظهر في مقابر المصريين القدماء، ويقول كين ألبالا مؤرخ الغذاء في جامعة كاليفورنيا إنه لا شك أن المواطنين المصريين القدماء كانوا يأكلون الفول المدمس، يقول الرفاعي: “إذا صنعت أي شيء هنا من الحمص فإنه لا يعد مصريًا وهذا لا يعني أنه سيء الطعم لكنه ليس منا، فهنا نصنع كل شيء من فول التدميس ونحن فخورون بذلك، هناك شعور بالقومية تجاه الفول المدمس وأي طعام يُصنع منه”.
الإخلاص
في وسط القاهرة، وتحديدًا في الزقاق المتفرع من شارع شريف باشا، اشترى محمد إسماعيل لتوّه الطعمية من عربة معدنية تقف هنا منذ 48 عامًا، يقول إسماعيل: “لا آكل سوى الطعمية المصرية، لم أتناول قط السورية أو اللبنانية، فالطعمية المصرية غنية بالخضراوات والأعشاب الطازجة، لذا فهي صحية أكثر بالنسبة لي، الطعمية هي حياتي، أتناولها في الفطار والعشاء”.
أما الأطعمة الأخرى التي يمكن تناولها بهذا القدر من الإخلاص فهو الخبز والفول المدمس الذي يتكون من حبوب فول التدميس التي تم طهيها لأكثر من 12 ساعة ثم إضافة الزيت والكمون وعصير الليمون إليها، عادة ما يتم تناول الطعمية في وجبة الإفطار، لكن محبيها الحقيقيين يتناولونها في المساء أيضًا.
يقول محمد إسماعيل إنه لا يأكل سوى الطعمية المصرية
يقول ألبالا: “يعد الاعتماد على فول التدميس أمرًا ذا مغزى، فهو يحتوي على كمية كبيرة من البروتين وكذلك الكثير من النشاء الذي يجعله سهل العجن، ومن الممكن قليه كذلك وتجفيفه بسهولة، هذه الاعتبارات تجعله مكونًا رئيسيًا، ولأن حبوب الفول تمدنا بالبروتين، لذا فهي تمنحنا تغذية عظيمة، ورغم أنها ليست وجبة متكاملة، يمكن الاعتماد عليها، ومع إضافة بعض الخضراوات الطازجة للحصول على الفيتامينات وإضافة بعض منتجات الألبان يمكنك الحصول على وجبة متكاملة”.
علاقة حب محفوفة بالمخاطر
نظرًا لعلاقة الفول بالعصر الفرعوني، يبدو أن المصريين يعتبرون تناول الفول جزءًا من تعبيرهم عن هويتهم وطريقة لتذكر تاريخهم، لكن هذا العام سيذكرهم بأن تلك العلاقة محفوفة بالمخاطر، فالدولة تستهلك الآن نحو 800 ألف طن من الفول سنويًا، لكنها لا تزرع سوى 50 ألف إلى 100 ألف طن، وفقًا لما قاله مفضل سيف الدين مدير شركة “حبه وحبه” أحد أكبر مستوردي الأرز والبقوليات في مصر.
تعد أستراليا والمملكة المتحدة من أكبر مصدري الفول، حيث يصدران نحو ثلثي الكمية لمصر، بينما تأتي البقية من دول البلطيق. يأخذنا سيف الدين في جولة بمصانعه خارج القاهرة وهناك نجد في البهو صورًا على الحائط للطعمية وكفتة العدس وطرق أخرى مبدعة لاستخدام البقوليات.
قلي الفلافل المصرية المعروفة باسم “الطعمية”
في مصنع المعالجة تفتح حاوية الشحن التي تضم 25 طنًا من الفول وتُسكب ملايين الحبوب التي تنهمر كالشلال بينما تصنع موجة من الغبار تمنع الرؤية لثوانٍ معدودة.
تبلغ تكلفة الفول ما بين 14 ألف وحتى 18 ألف جنيه للطن، مقارنة بـ9 آلاف وحتى 11 ألف للطن في العام الماضي وقبل الماضي، ويرجع ذلك إلى عجز هذا العام نظرًا لمشكلة المحاصيل في المملكة المتحدة التي أدت إلى نقص الواردات بنحو 150 ألف طن، لكن الحكومة حاولت التدخل لحل المشكلة، كما أن بعض بائعي الطعمية استبدلوا فول التدميس بالبازلاء الصفراء المقسومة، لكن المستهلك لا يزال متأثرًا.
الأسعار آخذه في الارتفاع
يقول سيف الدين: “عندما يذهب شخص ما لتناول الإفطار بميزانية 5 جنيهات فهو لا يملك سوى ذلك، ولذا يضطر لتناول شيء آخر، ربما ساندويتش من الباذنجان أو عبوة من رقائق البطاطس مع الخبز وشريحة جبن”.
كما يدرك سيد الديب جيدًا أثر هذا النقص وارتفاع الأسعار حيث يقول: “قبل ذلك كان كيلو الفول بنحو 4 جنيهات ثم أصبح 7 جنيهات ونصف والآن وصل إلى 18 جنيهًا، وهذا يشكل فارقًا كبيرًا للزبائن، فقد كنت أبيع الساندوتش بجنيهين، والآن أصبح ثمنه 3 جنيهات وهو سعر مرتفع بالنسبة للكثيرين، فالزبائن اعتادوا شراء نحو 3 ساندوتشات للإفطار أما الآن فهم مضطرون لتناول كمية أقل”.
عمال مصنع “حبه وحبه” يجمعون الحبوب غير المناسبة بأيديهم
لذا كيف انتهى الحال بتلك البلاد التي تعشق الفول المدمس إلى هذا الموقف الذي تستورد فيه أكثر من 90% من غذائها الأساسي؟ هناك سببان رئيسيان: النمو السكاني وتوزيع الأراضي، لقد كانت دلتا النيل من أفضل الأراضي الزراعية في العالم لكنها أصبحت أكثر تحضرًا، وحلت المنازل والبيوت محل الحقول الخصبة في مصر.
يرى بعض المحللين أن الكثير من المشكلات سببها سياسة الأراضي التي انتهجها الرئيس جمال عبد الناصر الذي يراه الكثيرون مهندس الاستقلال المصري، فقد أدت حركته الشعبية إلى الاستيلاء على أراضي الأغنياء وتوزيعها على الفقراء في الخمسينيات، وكان لهذا الأمر آثار سلبية على صناعة الزراعة في البلاد.
فالأرض التي كانت مساحتها 100 هكتار مثلاً قُسمت لقطع مساحتها 20 هكتارًا، وأدى التقسيم إلى الحد من القيمة التنافسية في الاقتصاد، كما أن الأشخاص الذين حصلوا على الأراضي لم يعلموا كيف يديرونها بفاعلية لذا بنوا عليها للاستفادة منها.
حاوية شحن تحمل 25 طنًا من الحبوب وتصب ملايين الحبوب في صومعة بمنطقة العبور الصناعية
يعتقد سيف الدين أن ارتفاع الأسعار هذا العام حدث فجأة، فمخزون فول التدميس في مصر مؤمن دائمًا، لكن أي دولة تعتمد على استيراد غذائها الأساسي بشكل كبير عرضة للخطر دائمًا.
ما الذي يحمله المستقبل؟
التقلبات الناتجة عن سيطرة البلد المصدّر مثل العملة وإنتاج المحاصيل والطقس ستظل مصدر قلق للدول التي تعتمد على التصدير، وتبدو التنافسية نقطة خلافية عندما تنفق دول مثل أستراليا وكندا والمملكة المتحدة والدول الأخرى التي تزرع فول التدميس الملايين في البحث والتطوير والتكنولوجيا والبنية التحتية والمعرفة العامة، فيجدون أنفسهم الآن وصلوا إلى مرحلة تركوا فيها المزارع التقليدية منذ سنوات بل عقود.
يأمل الرفاعي أن يستقر سعر الفول في المستقبل القريب، فهو يشيد بقدرة المصريين على التحمل في أسوأ الظروف، لكنه يعتقد أنه لا بد من إبقاء سلعة أو اثنين خارج الحدود، ويضيف: “هنا في مصر لا تقترب من الخبز والفول فهما ما نحيا عليه، يمكنك رفع أسعار اللحوم أو كل ما ترغب فيه فلن يهتم أحد، لكن إذا اقتربت من الفول أو الخبز…”، يبدو أن سفير الطهي المصري غير قادر على التفكير فيما قد يحدث إذا حُرم المواطنون من تناول الطعمية.
المصدر: ميدل إيست آي