قبل أسبوع واحد من انتهاء المهلة التي حددها الاتحاد الإفريقي للمجلس العسكري لتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، سارع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى استضافة قمّة مصغّرة في القاهرة تمدّد الفترة الانتقالية من 15 يومًا إلى 3 أشهر.
لم يكتف السيسي بذلك، بل مضى لتحديد ما سمّاه “السبيل الوحيد للحل في السودان”، وأكد أنه حوار يشمل القوى السياسية كافة، دون أن يوضح الصفة التي انطلق منها لإصدار هذه الفتوى، وما يثيره مثل هذا الحديث من لغط واختلاف جدّي في الساحة السودانية.
وصفة السيسي.. دعم مصري للمجلس العسكري
“انقلاب على إرادة الشارع”. هكذا وصف الاتحاد الإفريقي في قمته الطارئة الأسبوع الماضي تدخل الجيش لتولي السلطة في السودان، وندد آنذاك بالتحرك وهدّد بتعليق عضوية البلاد إذا لم يسلّم المجلس العسكري الانتقالي السلطة للمدنيين في غضون 15 يومًا، في تكرار لموقفه عقب انقلاب السيسي عام 2013.
لكن المجلس بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان صم آذانه، واستمر في اللعب على حبال تخوين الشارع تارة وتشتيت شمل المعارضة تارة أخرى، وسعيه لإشراك أحزاب موالية لنظام الرئيس المعزول عمر البشير في مفاوضات المرحلة الانتقالية.
سعى الرئيس العسكري لمصر لضبط التطورات لدى جيرانه وفق إيقاعه الخاص، فقدَّم وصفته لما رأى فيه خير للبلاد والعباد
بعد أسبوع واحد فقط، التئم الاتحاد من جديد في قمة إفريقية مصغرة استضافتها القاهرة، دعا إليها السيسي على عجل، لبحث الأوضاع في السودان وليبيا، وشارك فيها رؤساء تشاد وجيبوتي ورواندا والكونغو والصومال وجنوب إفريقيا، بالإضافة إلى وفود دول أخرى، بينما غابت بعض دول الجوار الليبي كتونس والجزائر.
وخلال قمتين تشارويتين عن السودان وليبيا، سعى الرئيس العسكري لمصر لضبط التطورات لدى جيرانه وفق إيقاعه الخاص، فقدَّم وصفته لما رأى فيه خير للبلاد والعباد، معلنًا دعم بلاده للسودانيين ولمجلسهم العسكري على حد سواء، بل إنه دعا إلى إتاحة الفرصة والمزيد من الوقت للعسكريين الممسكين بزمام الأمور في الخرطوم للوفاء باستحقاقات هذه المرحلة.
يشيد السيسي أكثر بالمجلس العسكري السوداني وجهوده التي يبذلها، وكأنه يدافع عن مجلسه حين كان وزيرًا للدفاع، ثم يبدو في حديثه مستميتًا لتمديد مهلة تسليم السلطة للمدنيين من المجلس العسكري، في مشهد يعكس مدى التشابه بين العسكر في الدولتين.
كان طلبًا سرعان ما لُبي بحسب الرئيس المصري، كما كان لافتًا أن تُعقد القمة سريعًا، وأن تخرج بخلاصات تذِّكر بالأسوأ، وهو الانقلاب على الثورات بذريعة منح المنقلبين عليها وقتًا لما يُوصف بالتحوّل الديمقراطي الذي يتكشف عن أن يخلع المنقلب بزَّته العسكرية ليس أكثر ويرتدي أخرى مدنية، فيصبح رئيسًا ويتأبد.
تقوم مرجعية السيسي التي بسطها في القمة الإفريقية على دور المجلس العسكري في مرحلة الانتقال الديمقراطي، فهو الذي يقود ويشرف في هرم السلطة، وكل القوى السياسية – وهي في موقع أقل انخفاضًا – تُقاد وتُوجَّه.
الأسوأ هو في أخذ المجلس العسكري بعض القوى السياسية غير المرغوب فيها في المرحلة المقبلة، ومن بينها قوى محسوبة جهرًا على نظام الرئيس المعزول عمر البشير، إن لم تكن من أنتجته، وهي كثيرة ويُراد لها أن تتصدر المشهد. وفي مقاربة السيسي، فإنها تتساوى مع قوى الثورة، بل ربما تكون لها الأفضلية من خلال كثرة عناوينها.
أمَّا الركن الثاني لمقاربة السيسي، فهو ما يصر على أنها خصوصية هذه المنطقة من العالم، وذلك على غرار ما دافع عنه من خصوصية رآها لمفهوم حقوق الإنسان في هذه المنطقة عندما استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
حينها قال السيسي في حضرة ماكرون: “لا تنس أننا نتحدث عن منطقة مضطربة ونحن جزء منها”، وأضاف “نحن لسنا كأوروبا ولسنا كأمريكا”، فإذ بالمواطن المصري أقرب إلى كائن أقل من أن يكون إنسانًا بالتعريف العام للإنسان في عالم اليوم، وأقرب إلى أن يكون همجيًا لا يستحق الحرية ولا غنى له عن الوصاية والتوجيه.
ما يقوم به السيسي يعكس مخاوف حقيقية من التأثير المحتمل لرئاسته للاتحاد الإفريقي على استقلال آليات حقوق الإنسان الإقليمية ومشاركتها المستقبلية مع المجتمع المدني
يسحب السيسي هذا المنطق على الشأن السوداني ليؤكد أن ثمة خصوصية للدول الإفريقية لا قدرة للآخرين على فهمها، وبالتالي فإن عليهم ألا يزعجوا أهل المنطقة بالحديث عن معايير دولية يجب احترامها ما دام لديهم كُتيِّب جاهز للتعامل مع ثورات شعوبهم ووأدها.
ثمة بلد آخر سعت القاهرة لقول كلمة أخرى في شأنه خلال القمة، ففضلاً عن بلد يشهد تحولًا ديمقراطيًا ما زال في بدايته، يشهد الآخر، وهو ليبيا، انتكاسة عن التحوّل الديمقراطي نتيجة عوامل داخلية وخارجية متشابكة، فيما القاهرة حليفة صريحة لأحد طرفي الصراع فيها وهو اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي التقى السيسي قبل أقل من 10 أيام في العاصمة المصرية، وسرعان ما شنت قواته هجومًا على طرابلس وحكومتها المعترف بها دوليًا.
في هذا الصدد، يدافع البعض عن تحركات السيسي في دول الجوار بأن دعوته لهذه القمة عززت دور الاتحاد الإفريقي في ظل رئاسة له لأول مرة في تاريخ المنظمة، وذلك بعد 6 أعوام تقريبًا من تعليق الاتحاد لعضوية مصر، عقب إطاحة السيسي بالرئيس محمد مرسي وتعطيل العمل بالدستور في يوليو/تموز 2013.
فيما يرى آخرون أن ما يقوم به السيسي يعكس مخاوف حقيقية من التأثير المحتمل لرئاسته للاتحاد الإفريقي على استقلال آليات حقوق الإنسان الإقليمية ومشاركتها المستقبلية مع المجتمع المدني، التي عبرت عنها منظمة العفو الدولية، بالنظر إلى سجل الرئيس المصري في مجال حقوق الإنسان منذ توليه السلطة.
بين الحكم العسكري والمدني.. هل يكرر السيسي تجربته في السودان؟
بحسب الأستاذ في العلاقات الدولية بجامعة ميتشيغان وكبير الباحثين بمركز السياسة العالمية البروفيسور محمد أيوب، فإن القوة الحقيقية وراء العروش في النظم الاستبدادية هم ضباط الجيش والأقليات المالية، وهي عادة تكون مستعدة للتضحية برأس النظام ودائرته الضيقة وادعاء الوقوف مع المحتجين لامتصاص ثورتهم والانقلاب عليها تدريجيًا بخطوات محسوبة فيما بعد.
يرى البعض أن هذا ما جرى بالضبط في مصر ويكرر نفسه حاليًّا في الجزائر والسودان، ففي الخرطوم ثمة من يردد ويقول “نموذج سيسي جديد” يتموضع ويبعد ويقرب ليأخذ مكانه هناك، حيث يضطلع الجيش بدور سياسي واقتصادي كبير.
خرج حمديتي مجددًا ليتحدث نيابةً عن المجلس العسكري خلال اجتماع مع قوات المدفعية والمدرعات، محذرًا المتظاهرين بلهجة لم يعهدوها، فيقول إنه لن يقبل بالفوضى في البلاد
ضمن الأصوات التي تساهم في تشكيل هذا النموج نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان حميدتي، المحارب الشرس في دارفور وقائد قوات الدعم السريع “الجنجويد” التي تشكل عصب المعارك السودانية في اليمن، الذيتمكن من تسجيل حضور استثنائي في يوميات الحياة السياسية بالسودان، وذلك أمر غير يسير على رجل من عامة الناس لم يتخرج في أكاديمية عسكرية سودانية.
خرج حمديتي مجددًا ليتحدث نيابةً عن المجلس العسكري خلال اجتماع مع قوات المدفعية والمدرعات، محذرًا المتظاهرين بلهجة لم يعهدوها، فيقول إنه لن يقبل بالفوضى في البلاد، ويؤكد أن الأولوية عنده للاتفاق مع القوى السياسية لتلبية مطالب الشعب السوداني وتطلعاته، مضيفًا أن الحكومة الانتقالية يجب أن تكون حكومة كفاءات وألا تقصي أحدًا وبعيدة عن أي اصطفاف حزبي بحسب قوله.
الرئيس المصري مع رؤساء إفريقيا المشاركين في القمة
يبحث الفريق حميدتي عن حكومة الكفاءات التي تحدث عنها دون اعتبار بأي علاقة لها بنظام البشير السابق، فيلتقي بوفد من تحالف جديد باسم “تحالف نهضة السودان” لبحث مطالب الفترة الانتقالية وقضاياها، لكن هذا التحالف لا يُعرف من أعضائه غير ما ينطبق اسمه على اسم الرئيس المصري، وهو القيادي بالتحالف التيجاني السيسي الذي أشاد بالدور الوطني الذي اضطلع به المجلس العسكري والقوات المسلحة في هذه المرحلة.
هنا يتبنى حميدتي – الذي يُنظر إليه بعين الريبة ويُقال إنه يضع منصب الرئاسة نصب عينيه – المقاربة نفسها التي بسطها السيسي، فليس من حق أحد – والإشارة في قوله لقوى الحرية والتغيير- أن يحتكر الحلول، فثمة أحزاب وقوى سياسية كبيرة، و”نحن – لا من سار في الشوارع وقدم الشهداء – مَنْ يحق له أن يدعو ويقدم الحلول”.
استنكرت المعارضة السودانية المهلة الزمنية الجديدة الممنوحة للمجلس العسكري، ردًا على التحركات التي يقودها السيسي للتأثير على الاتحاد الإفريقي
ثم يندد المجلس العسكري الانتقالي بغلق محتجين للطرق وتقييد حركة المواطنين، مما يشير إلى احتمال تحركه ضد آلاف المحتجين الذين يعتصمون خارج وزارة الدفاع ويغلقون بعض الطرق خارج المجمع الواقع وسط الخرطوم، وهنا تبدو المقاربة أكثر وضوحًا، ألا يذكر ذلك بما حدث بالماضي القريب في القاهرة؟
وبحسب كثيرين، فإن هناك جهودًا منسقة تُبذل وتتصاعد لاحتواء الشارع السوداني وتطويعه، ويشارك فيها قادة محور (الرياض أبو ظبي القاهرة)، فقد أرسلوا الوفود وقدموا المليارات، والآن يعقدون المؤتمرات لقطع الطريق على الشارع من جهة، وعلى دعوات الاتحاد الإفريقي ومهلته لتسليم الأمور للمدنيين في السودان من جهة أخرى.
رهان التغيير.. الجيش والمعارضة نحو مسار التصادم
أثار تراجع الاتحاد الإفريقي عن موقفه حفيظة الشارع السوداني الذي أعلن منذ بدء الحراك رفضه لكل التدخلات الخارجية، واعتبر المعتصمون أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني أن ما صدر في القاهرة لا يتناسب مع تطلعات الشعب في استلام السلطة من المجلس العسكري بتشكيل حكومة مدنية.
كما استنكرت المعارضة السودانية المهلة الزمنية الجديدة الممنوحة للمجلس العسكري، ردًا على التحركات التي يقودها السيسي للتأثير على الاتحاد الإفريقي، لا سيما أن رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فقي اجتمع قبل أيام بتحالف الحرية والتغيير وأكد لهم التزامه بميثاق تجميد عضوية أي دولة يحدث فيها انقلاب عسكري.
للتعبير عن رفضهم للتحركات المصرية، تواصل الحراك الجماهيري في الخرطوم، وتوالت المواكب نحو القيادة العامة للجيش السوداني للمطالبة بالإسراع بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية
وعقب انتهاء القمة الإفريقية، دعت قوى الحرية والتغيير بالسودان المواطنين للخروج إلى الشوارع وتسيير المواكب لموقع الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش، قائلة إنه جرت محاولات ممن وصفتها بـ”فلول النظام ونسخته الجديدة” لفض الاعتصام الذي وصفته القوى بأنه صمام أمان للثورة المجيدة، وكانت قوى الحراك قد صعّدت لهجتها ضد المجلس العسكري.
وللتعبير عن رفضهم للتحركات المصرية، تواصل الحراك الجماهيري في الخرطوم، وتوالت المواكب نحو القيادة العامة للجيش السوداني للمطالبة بالإسراع بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية تلبية لدعوة قوى الحرية والتغيير التي تتمسك باستمرار الاعتصام حتى تحقيق جميع المطالب الشعبية.
وقال معتصمون إن نحو 40 فردًا من الشرطة العسكرية طلبوا منهم إزالة الحواجز من أمام مداخل شارع القيادة العامة، لكن المعتصمين رفضوا واستمروا في اعتصامهم الذي مضى عليه 17 يومًا، كما قال تجمع المهنيين السودانيين في تغريدة على تويتر “تحاول الأجهزة القمعية فض الاعتصام من عدة اتجاهات، وقد رصدنا تحرك عربات تتبع الأجهزة الأمنية.. نؤكد أن أي محاولة لفض الاعتصام ستجد الحسم عبر الجماهير”.
وتؤكد القوى رفض السودانيين بقاء أي من رموز النظام المعزول ضمن عملية التغيير في البلاد، حيث أنذرت قوى الحرية والتغيير بأن الثورة في السودان تمر بمنعطف خطير يسعى فيه من سمتهم “أذيال النظام” لتحقيق هدف وحيد، وهو إعادة إنتاج الوجوه السابقة.
بينما يتحدث المجلس العسكري عن استمرار التواصل مع القوى كافة ومناقشة وتصوراته للمرحلة الانتقالية وجديته في هذا الصدد، تشدد القوى الرئيسة القائمة على الحراك الشعبي لهجتها، فتتهم بوضوح اللجنة السياسية في المجلس العسكري برئاسة الفريق عمر زين العابدين وعضوية مدير عام قوات الشرطة في السودان الطيب بابكر بالوقوف ضد وصول الثورة إلى غاياتها وأهدافها.
ويتصاعد التوتر في السودان بعد تعليق التفاوض بين حركة الاحتجاج المتمثلة بقوى إعلان الحرية والتغيير، والمجلس العسكري الانتقالي الحاكم الذي يطالب بعودة الوضع إلى طبيعته في الخرطوم أمام مقره العام، في حين توعد المعتصمون بتصعيد تحركهم للمطالبة بحكومة مدنية.
وتحت وطأة هذه الضغوط يبقى رهان التغيير على الشارع السوداني الذي يستمر في اعتصامه للأسبوع الثالث في محيط قيادة الجيش غير مبالٍ بتهديدات استخدام القوة لفض الاعتصام، وفي موازاة التحركات الخارجية، ثمة شارع سوداني قالها مرة “تسقط بس” وقالها ثانيةً “تسقط تاني”، وما زال يقول.