منذ أن انطلقت معركة “ردع العدوان” صباح الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني، والانتصار العسكري الكبير الذي حققته خلال فترة قصيرة بالسيطرة على كامل محافظتي إدلب وحلب، والوصول إلى مشارف مدينة حماة، كانت تدور على التوازي مع المعركة العسكرية على أرض الميدان، رحى معركة بلا نيران أو أسلحة، ولكنها لا تقل أهمية عنها، ويمكن وصفها بأنها معركة سياسية، أثبتت خلالها غرفة عمليات “إدارة العمليات العسكرية” مقدرة فريدة على إدارتها بأفضل صورة، وعلى مختلف الأصعدة، بما فيها الاجتماعي المحلي، والإقليمي والدولي.
فكيف تمكنت من إدارتها؟ وما الرسائل التي وجهتها ودلالاتها؟
بيان إطلاق المعركة
في البداية، يجب الإشارة إلى أن وجود متحدث رسمي للمعركة، ومعرفات محددة تكون مصدر المعلومات الرسمي، سابقة لم تحصل من قبل بشكل منهجي بهذه الطريقة، وهذا يعكس انضباطًا كبيرًا، ومنهجية واضحة في الأداء الإعلامي الذي يعكس العمل العسكري أيضًا،.
فمنذ أن خرج المتحدث الرسمي باسم غرفة عمليات “إدارة العمليات العسكرية”، المقدم حسن عبد الغني، كانت كلمته محمّلة بالعديد من الرسائل، كان أبرزها تبيان أن المعركة رد فعل على القصف المتكرر من قوات النظام والمليشيات الرديفة، وحشد القوات على خطوط الجبهات تمهيدًا لعمل عسكري على المناطق التي تؤوي ملايين النازحين، ويكون بذلك قد أوضح أن النظام هو سبب التحرك.
بالإضافة إلى رسالة أخرى لا تقل أهمية كانت موجهة للمجتمع المحلي في مناطق إدلب وريفها، حيث قال: “بدء المعركة لردع العدو ودحر قواته المحتشدة وإبعاد نيرانها عن أهلها، هذه العملية ليست خيارًا بل واجبًا علينا”، والهدف من هذه الرسالة هو اكتساب الشرعية من الحاضنة المحلية، بالتأكيد على أن هدف العملية الأساسي هو حمايتهم وتأمينهم في مناطقهم، واستعادة مناطق ليعود أهلها النازحون إليها.
البدء بدخول مدينة حلب
مع بدء دخول قوات عملية “ردع العدوان” إلى مدينة حلب، في تقدم سريع وخاطف وسط الانهيار الكبير لقوات النظام، نشرت غرفة العمليات مقطعًا مصورًا يظهر قائد “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني يتابع سير المعركة، ويوجه توصياته للمقاتلين، والتي تضمنت أن يتعامل المقاتلون “بالرفق واللين بأهلنا في مدينة حلب، وحفظ ممتلكاتهم وأموالهم” وهذا تقدم لافت في الخطاب التطميني الموجه للمدنيين في المدن التي تدخلها الفصائل بمعارك عسكرية.
والشق الآخر اللافت أيضًا في توجيهاته هو ما أوصى به المقاتلين حيال الجنود ومن حمل السلاح إلى جانب النظام، حيث قال: “من دخل بيته وأغلق بابه وأمسك عنه لسانه فهو آمن، ومن أعلق انشقاقه عن النظام المجرم ووضع سلاحه وسلم نفسه للثوار فهو آمن”، وهذه رسالة مزدوجة بشقين:
الأول، موجه للمقاتلين لزيادة الانضباط وتقليل التجاوزات بالالتزام بالتعليمات، وهذا له أثر على شكل المعركة محليًا وسياسيًا، بإيصال صورة أن المقاتلين منضبطون ولم يدخلوا للانتقام وإنما لتحرير الأرض.
والثاني، موجه لجنود النظام ومن حمل السلاح من المدنيين أنهم آمنون على أنفسهم إذا تركوا السلاح، وبذلك يمكن أن يتخطى المقاتلون الكثير من الاشتباكات التي لا داعي لها، فجنود النظام إما غادروا المدينة وإما ألقوا أسلحتهم واعتزلوا القتال. هذا بالإضافة إلى نشر غرفة العمليات بيانًا مقتضبًا تحذر فيه المقاتلين والمدنيين من التعرض للمؤسسات العامة.
وكان قد ظهر منذ اليوم الأول للمعركة ما أُطلق عليه “المركز السوري للسلامة والانشقاق”، حيث ألقى منشورات على خطوط الجبهات تحمل عنوان “حياتك أهم”، تخاطب جنود قوات النظام برسالة واضحة مفادها وخلاصتها الدعوة لترك السلاح، مع التأكيد على أن المركز يمكن أن يقوم بتأمين انشقاق الجنود ومساعدتهم في الوصول إلى المناطق التي يريدون التوجه إليها.
استمالة الأقليات
منذ التهجير القسري الذي وقع في مدينة حلب في ديسمبر/كانون الأول 2016 تمكنت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” عبر تفاهمات، بالحفاظ على وجودها في عدد من الأحياء شمال شرقي المدينة، أهمها وأكبرها الأشرفية والشيخ مقصود، وفي محاولة من غرفة “إدارة العمليات العسكرية” لتجنب الصراع مع وحدات “قسد” المنتشرة في الأحياء، فقد أصدرت بيانًا موجهًا لهم، تطالبهم فيه بأخذ قرار الانسحاب من المدينة والتعهد بتأمين طريق خروجهم، مؤكدة أن الدعوة تخص المقاتلين فقط دون المدنيين، حيث ذكرت في البيان بشكل واضح أن “أكراد سوريا جزء لا يتجزأ من المجتمع السوري وله كامل الحقوق المشتركة مع أبناء هذا البلد”.
كما خصصت بيانًا آخر وجهته إلى الأكراد السوريين، باعتبارهم جزء من المكون السوري، أعلنت فيه رفضها للممارسات والانتهاكات التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية بحق الأكراد في سوريا بين عامي 2014 و2017، مؤكدة على ضرورة الحفاظ على التنوع في النسيج الاجتماعي السوري في مدينة حلب، الذي قالت إنها “لن تسمح لأحد أن يعبث بهذا النسيج المتكامل”، داعية المدنيين من الأكراد إلى البقاء في مناطقهم.
تظهر هذه البيانات رغبة لدى غرفة العمليات، بتجاوز ما كان يحصل سابقًا من تفريق بين مكونات المجتمع السوري، والتأكيد على أن حماية هذه المكونات يقع على عاتقها ومسؤوليتها.
وفي سابقة أخرى، نشرت إدارة الشؤون السياسية لحكومة الإنقاذ بيانًا موجهًا إلى أهالي بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين في ريف حلب الشمالي، تدعوهم فيهم إلى عدم الوقوف إلى جانب النظام، وتؤكد أن المدنيين في هاتين البلدتين “كغيرهم من المدنيين السوريين يجب أن يكونوا بمنأى عن أي استهداف أو تهديد قائم على الانتماء المذهبي أو العرقي”، مطالبين المدنيين برفض استخدامهم كدروع بشرية من جانب الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” اللبناني، والبقاء في بيوتهم، متعهدين بعدم التعرض لأحد منهم.
رسالة إلى أهالي نبل والزهراء بريف حلب#إدارة_الشؤون_السياسية #حكومة_الإنقاذ_السورية #الثورة_السورية #إدلب pic.twitter.com/i1XEy0a6Dl
— إدارة الشؤون السياسية – سوريا (@syriadpa) November 29, 2024
وقد أظهرت مقاطع مصورة قيام مقاتلين في عملية “ردع العدوان” بإقناع عدد من أهالي البلدتين، الذين كانوا في طرقات بلدة السفيرة بعد أن هربوا من بيوتهم خوفًا، بالعودة إلى منازلهم، مع تأمين نقلهم إليها.
الثوار يعيدون أهالي بلدتي نبل والزهراء (الشيعة) إلى منازلهم ريف حلب pic.twitter.com/BfSH8hJD5l
— رؤى لدراسات الحرب (@Roaastudies) December 3, 2024
ومن المعلوم أن هاتين البلدتين بقيتا محاصرتين منذ عام 2012 وحتى سيطرة النظام على مدينة حلب في 2016، ولم يوجه لهم أي خطاب أو دعوة من أي من المكونات الثورية والفصائل العسكرية بغية تحييدهم، أو ضمان عدم استعدائهم.
كما تظهر الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت على نطاق واسع أن المسيحيين في مدينة حلب يمارسون طقوسهم الدينية في الكنائس، كما أكد عدد من أبناء الطائفة المسيحية في المدينة خلال مقابلات أجريت معهم أنهم لا يتعرضون لأي مضايقات، وأن الوضع في المدينة جيد، ولا يواجهون مشكلة سوى قصف الطيران الحربي النظامي والروسي على المدينة.
رسائل خارجية
أصدرت إدارة الشؤون السياسية لحكومة الإنقاذ بيانين موجهين لدول خارجية، الأول كان لروسيا، الحليف الأقوى لنظام الأسد، والتي كان لتدخلها في سبتمبر/أيلول 2015، عقب عملية “الله غالب” العسكرية التي وصل فيها مقاتلو الفصائل إلى حدود مدينة دمشق، دور كبير في إنقاذ النظام من السقوط، بحسب تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. تضمن البيان دعوة لروسيا إلى “عدم ربط مصالحها في سوريا بنظام الأسد أو شخص بشار، بل مع الشعب السوري بتاريخه وحضارته ومستقبله”، كما أكدوا في البيان على اعتبار روسيا شريكًا محتملًا في مستقبل سوريا.
وعقب انتشار أخبار عن إرسال حشود من الميليشيات العراقية إلى الحدود السورية العراقية، وأنباء عن وصول مقاتلين إلى سوريا للقتال إلى جانب النظام، بالإضافة إلى تصريح وزير الخارجية العراقي محمد شياع السوداني يؤكد فيه “استعداده لتقديم الدعم لسوريا في مواجهة الإرهاب”، فقد نشرت حكومة الإنقاذ بيانًا موجهًا إلى كل من الحكومة والشعب العراقيين، تؤكد فيه على العلاقات التاريخية بين الشعبين السوري والعراقي، وأن “الثورة السورية لا تشكل تهديدًا للأمن القومي أو الاستقرار في العراق أو لأي دولة من دول المنطقة”.
بيان من حكومة الإنقاذ السورية إلى الحكومة العراقية#إدارة_الشؤون_السياسية #حكومة_الإنقاذ_السورية #الثورة_السورية #إدلب pic.twitter.com/G4LEU8Ndk1
— إدارة الشؤون السياسية – سوريا (@syriadpa) December 1, 2024
بالإضافة إلى تعميم أرقام تواصل مخصصة للبعثات الدبلوماسية والفرق الأجنبية الموجودة في المؤسسات والقنصليات بمدينة حلب، طالبة منها التواصل عبر الأرقام بهدف الحفاظ على سلامتها وتأمين مراكز آمنة لها، بالإضافة بيان آخر تؤكد فيه مسؤوليتها عن حماية القنصليات والمراكز الأثرية التاريخية والثقافية في المدينة.
هذه البيانات تؤكد على نضج سياسي في الخطاب، ووعي بالمحيط والقوى السياسية الفاعلة في الملف السوري، وتحاول إعادة تعريف العلاقات السياسية بين أعداء الماضي عبر استمالتهم، إن لم يكن للوقوف مع الثورة، فعلى الأقل عدم الوقوف إلى جانب النظام ودعمه بالأسلحة والمقاتلين.
إدارة مدنية في حلب
بعد انتهاء العمليات العسكرية في مدينة حلب، وإعلان السيطرة عليها بالكامل، أفادت مصادر إعلامية محلية بأن “إدارة العمليات العسكرية” بدأت بتسليم حلب إلى “حكومة الإنقاذ” بعد إزالة المخلفات المتفجرة وتأمينها، وقد أعلنت الحكومة أن لديها “خطة طوارئ” لإدارة المدينة وإعادة تشغيل المؤسسات الخدمية فيها.
ويبدو، أن ثمّة خطة أكبر لإدارة حلب، حسب ما صرّح زعيم تحرير الشام لمجموعة الأزمات الدولية الذي قال إنه المدينة ستدار من قبل هيئة انتقالية. وتعهّد الجولاني بإخلاء المناطق المدنية من المقاتلين خلال أسابيع، بما في ذلك عناصر هيئة تحرير الشام، بهدف تقليل الاحتكاك مع السكان المدنيين وتهيئة بيئة مستقرة تتيح للمدينة التعافي من آثار الصراع.
وقال إنه ستتم دعوة الموظفين الإداريين الذين كانوا يديرون المرافق العامة والخدمات الأساسية قبل الأحداث الأخيرة لاستئناف وظائفهم لضمان استمرار تقديم الخدمات للسكان بطريقة منتظمة ومهنية، بما يسهم في تعزيز الثقة بين السكان والإدارة الانتقالية.
وكان من اللافت إعلانه أن الهيئة تدرس حّل نفسها، لإفساح المجال أمام المؤسسات المدنية والعسكرية لتقوم بدورها.
Thread: 1/4 While it’s too early to tell how HTS & other rebels will address governance challenges in Aleppo, it appears that internal discussions are already underway. HTS leadership stated “the city will be governed by a transitional body. All armed. . https://t.co/xsoWQ3og57
— Dareen Khalifa (@dkhalifa) December 5, 2024
إلى ذلك، أعلنت وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ أن الوحدات الأمنية في الوزارة بدأت بتسيير دوريات، ونشر الحواجز بهدف تأمين الأمن في المدينة وحفظ الممتلكات. وأعلنت عن عودة المؤسسات الخدمية للعمل، وخصصت أرقام تواصل مع المؤسسات المختلفة، فيما لو أراد الأهالي الاستفسار عن أوضاع عمل المؤسسات في أحيائهم.
تنظيف وغسيل محيط قلعة #حلب، حفاظاً على جماليتها ومركزها الحضاري والتاريخي.#الخوذ_البيضاء #حلب #سوريا pic.twitter.com/KX6h6Oxtiu
— الدفاع المدني السوري (@SyriaCivilDefe) December 5, 2024
كما أصدرت غرفة “إدارة العمليات المشتركة” الثلاثاء 3 ديسمبر/كانون الأول الجاري، إعلانًا طالبت فيه المنشقين عن قوات النظام بمراجعة أقسام شرطة حددتها “لاستكمال إجراءاتهم وحمايتهم قانونيًا”، وقد أظهرت صور نشرتها اليوم أنها بدأت باستصدار بطاقات مؤقتة للمنشقين حديثًا عن قوات النظام، بهدف تنظيم وجودهم في المناطق التي تحررت.
أما على الصعيد الخدمي، فقد أظهرت صور نشرها ناشطون ومؤسسات إعلامية محلية بدء الفرق الخدمية بالعمل على إصلاح الطرقات، وشبكات الكهرباء والإنترنت في حلب وريفها، وبقية المناطق التي سيطرت عليها “ردع العدوان” مؤخرًا. كما صرح مدير المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب في حكومة الإنقاذ أحمد عبد الملك، أنه تم إعادة تشغيل الأفران في مدينة حلب عقب دخول الطحين إلى المدينة.
يظهر كل ما سبق، أنه بعد 13 عامًا من عمر الثورة السورية، هناك تجربة إدارية خدمية وسياسية تنضج، يمكن أن يبنى عليها مستقبلًا ما هو أبعد من السيطرة على بعض المدن وإدارتها باحترافية عالية، والمقدرة على مخاطبة الدول بخطاب سياسي مدروس، بل يمكن أن تكون بديلًا مناسبًا للنظام، ويتفوق عليه في كل الأصعدة، خدميًا وسياسيًا، بل وعسكريًا أيضًا.