أسدل الستار على الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مصر الذي جرى في الفترة من 19-22 أبريل الحاليّ، بإعلان الهيئة الوطنية للانتخابات نتائجها الرسمية مساء أول أمس الثلاثاء بالموافقة عليها بنسبة 88.83% من إجمالي الأصوات في مقابل نسبة رفض بلغت 11.17% بينما جاءت نسبة الأصوات الباطلة 3.6%.
وبلغ عدد الموافقين على التعديلات التي تسمح للرئيس عبد الفتاح السيسي البقاء في الحكم حتى 2030 قرابة 23 مليونًا و416 ألفًا و741 ناخبًا من إجمالي من شاركوا في الاستفتاء البالغ عددهم 27 مليونًا و193 ألفًا و593 ناخبًا من أصل 61 مليونًا و344 ألفًا و503 ناخبين، بنسبة مشاركة بلغت 44.33% وفق ما أعلنه رئيس الهيئة المستشار لاشين إبراهيم.
ورغم النتيجة المتوقعة للاستفتاء في ظل حالة الاستقطاب الواضحة، فإنه مع الإعلان الرسمي عنها تباينت وجهات النظر بين الأطياف السياسية المختلفة بشأن تفسير وتحليل الأرقام المعلنة، فبينما يعتبر أنصار السيسي هذه النتيجة فوزًا قويًا ردًا على دعوات المقاطعة، هناك فريق آخر يذهب إلى قراءة مغايرة لنسبة الرافضين ومدى إمكانية أن تكون نواة لما هو قادم.
مليونان 945 ألف 680 صوتًا هم إجمالي من أعلنوا رفضهم للتعديلات المقترحة برلمانيًا وفق بيانات هيئة الانتخابات الرسمية، الأمر الذي اعتبره البعض رقمًا كبيرًا في ظل تضييق الخناق وسد كل منافذ الدعاية وإغلاق الأفق السياسي ومنابر الإعلام أمام التيار الرافض مقارنة بالحشد غير المسبوق من أجهزة الدولة وتوظيف إستراتيجيات الترغيب والترهيب بشكل فج لتحقيق النسبة الأكبر من التصويت بالموافقة.. فهل من الممكن أن يكون هذا الرقم اللبنة الأولى نحو تدشين كيان معارض قوي قادر على تحريك المياه الراكدة في الحياة السياسية اليابسة منذ سنوات؟
نقلة نوعية
تحت عنوان “أصوات صافية” غرد الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي وعدد من الكتاب والمحللين وبعض السياسيين تعليقًا على الملايين الثلاث التي صوتت برفض التعديلات الدستورية، لافتين إلى أن هذا الرقم يعد نقلة نوعية مهمة في مزاج المصريين الذي وقع طيلة السنوات الماضية أسير الكبت وتضييق الخناق والإقصاء المتعمد.
فرغم حالة التشديد المحكمة التي فرضتها السلطات الحاكمة وأجهزتها الإعلامية والأمنية على تيار المعارضة بشتى فصائله، من تهديد بالاعتقال والقمع ومنع أي صوت يغرد خارج السرب من الظهور إعلاميًا، وتجريم الحد الأدنى من الدعايا وفقدان معظم وسائل التواصل مع الشارع اللهم إلا منصات السوشيال ميديا، جاءت النتيجة بهذا العدد الذي رغم قلته بجانب الأصوات الموافقة فإنه الأكثر تأثيرًا في المشهد.
فريق ذهب إلى أن إرهاصات 25 يناير بدأت ببضع أصوات تخلت عن عباءة الخوف التي كانت تسيطر على الأجواء وقتها وكانت نواة حقيقية لبناء حراك قوي أجبر الرئيس المخلوع حسني مبارك على التنحي، ورغم ما تلى ذلك من تداعيات أجهضت الثورة وشعاراتها المرفوعة، هناك تشابه في البدايات رغم الفارق الكبير في الحالتين بحسب البعض.
آخرون ذهبوا إلى أن هذا العدد الذي عبر عن نفسه بمنتهى الشجاعة ودون أي خوف من بطش السلطات يعكس آراء ومواقف أضعافه مرات ومرات، فخلف كل مواطن من الملايين الثلاث ربما تقف أسر بأكملها، هذا بخلاف أصوات المقاطعين التي تأتي في معظمها رافضة لتلك التعديلات بجانب الأصوات الباطلة.
وبحسبة بسيطة فإن الأجواء لو كانت أكثر ديمقراطية ونزاهة، وتوافرت معايير الحيادية في التعبير عن الرأي، لخرجت النتيجة مغايرة تمامًا لما تم إعلانه، ورغم علامات الاستفهام التي تحيط بالرقم المعلن من هيئة الانتخابات في ظل أجواء التهديد من جانب والترغيب عبر الرشاوى الفاضحة من جانب آخر، فإن فريق ذهب إلى إمكانية توظيف هذا المشهد غير المسبوق طيلة السنوات الماضية للانطلاق نحو آفاق مستقبلية ربما تساعد في تغيير الصورة على المدى البعيد، خاصة بعد كسر حالة الخوف التي طالما شدد النظام الحاليّ في بنائها على مدار 6 سنوات مضت.
#انزل_قول_لا
#لا_للتعديلات_الدستورية
from washington dc. pic.twitter.com/CSAmBe5G3b
— Mai El-Sadany (@maitelsadany) April 19, 2019
دعوة لبدء حوار وطني
في أول رد فعل على نتائج الاستفتاء دعا المرشح الرئاسي السابق وزعيم حزب غد الثورة أيمن نور “لبدء حوار وطني حقيقي وجاد لإنقاذ مصر مما هي فيه، ومن أجل العمل على بلورة تصور شامل وواضح لكيفية إنهاء الأزمة الراهنة وتشكيل بديل وطني مقبول داخليًا وخارجيًا”، موجهًا دعوته لـ100 شخصية مصرية في الداخل والخارج.
نور أشار إلى أن “الدعوة لا تعني مطلقًا تشكيل تحالف سياسي أو كيان موحد للمعارضة، بل تنادي بضرورة أن تتداعى هذه الشخصيات والقامات الوطنية لحوار وطني في أقرب وقت، وفي أي مكان تراه مناسبًا، ودون أي شروط مسبقة، ودون أي قيود أو فيتو على أي مقترح أو تصور يتوافق عليه الجميع”، وفق تصريحات أدلى بها لموقع “عربي21“.
هناك حراك مدني قوي على المستوى الخارجي يتعامل بأدوات النظام في محاولة لتكوين رأي عام عالمي على دراية حقيقية بالوضع في مصر، مستندًا إلى البعدين السياسي والحقوقي
وعن آلية تفعيل هذا التحرك أوضح المرشح الرئاسي الساق أن “الحوار المأمول ستكون له أجندة وبنود واضحة، وسيخرج بحلول ومقترحات محددة وواقعية ومقبولة لدى كل الأطراف”، كاشفًا أن ما أسفرت عنه نتائج الاستفتاء من الممكن أن تكون نقطة انطلاق نحو بناء تكتل معارض قوي، مضيفًا “أمامنا فرصة كبيرة علينا أن ننتهزها في ظل تنامي حالة الوعي والغضب من ممارسات النظام وسياساته التي تأخذ الجميع نحو الهلاك”.
وعن الموعد الذي اختاره نور لبدء حواره الذي أطلق عليه (الحوار التأسيسي لإنقاذ مصر) فعبر عن أمنيته أن يكون قبل 30 من يونيو/ حزيران المقبل، مؤكدًا أن هناك اتصالات تحضيرية ستبدأ خلال الساعات المقبلة، معبرًا عن أمله في نجاح دعوته للحوار الوطني.
يأتي على رأس الشخصيات المئة التي وجه إليها نور دعوته مدير وكالة الطاقة الذرية السابق محمد البرادعي وعالم الفضاء عصام حجي وأستاذ العلوم السياسية حازم حسني ومساعد وزير الخارجية الأسبق السفير إبراهيم يسري وأستاذ العلوم السياسية حسن نافعة والأكاديمي ممدوح حمزة والمرشح الرئاسي الأسبق خالد علي والفنانين عمرو واكد وخالد أبو النجا ووزير التخطيط والتعاون الدولي السابق عمرو دراج.
نقطة انطلاق حقيقية
“الكتلة التي أعلنت رفضها للتعديلات في الاستفتاء يمكن التعويل عليها في بناء كيان معارض قوي” بهذه الكلمات استهل الناشط السياسي مصطفى فؤاد قراءته لما أسفرت عنه النتائج المعلنة، واصفًا الأعداد التي شاركت بأنها غير مؤدلجة وتحركت وفق قناعاتها الشخصية الراسخة بأن الوضع تجاوز القدرة على التحمل.
فؤاد في حديثه لـ”نون بوست” كشف أن الشريحة التي شاركت في الاستفتاء “نقية” لا تنتمي لأي تيار سياسي في ظل دعوة جماعة الإخوان بالمقاطعة وعزوف شرائح أخرى، واصفًا إياها بأنها نواة حقيقية يمكن الاستناد إليها لتدشين تيار مدني حقيقي قادر على إحداث التغيير على المدى البعيد، مضيفًا أن هناك حراكًا مدنيًا قويًا على المستوى الخارجي يتعامل بأدوات النظام في محاولة لتكوين رأي عام عالمي على دراية حقيقية بالوضع في مصر، مستندًا إلى البعدين السياسي والحقوقي.
أما عن تأثير التباين السياسي والأيديولجي في تعزيز هذا الحراك المعارض، أكد الناشط المصري أن هناك بونًا شاسعًا بين التيار المدني والإسلامي، فجماعة الإخوان بصفتها على رأس جماعات الإسلام السياسي تسير في وادٍ والحركة المدنية تسير في وادٍ آخر، مضيفا: “لدينا أجندات سياسية وحقوقية مدنية ومن يتوافق معها فمرحبًا ومن يتعارض فله طريقه ولنا طريقنا وإن كانت هناك أرضية مشتركة تجمعنا في المراحل الأولى من التغيير”.
انا طارق حسين مواطن مصري هصوت بلا في الاستفتاء علي التعديلات الدستورية هصوت بلا علشان حقنا يكون عندنا تداول سلمي للسلطة هصوت بلا علشان مش من حق رئيس الجمهورية يعين رؤساء الهيئات القضائية هصوت بلا علشان الجيش يحمي ما يتدخلش في الحياة السياسية #أنزل_قول_لا pic.twitter.com/dTZZRNTOnZ
— Tarek Hussein (@TarekHussein22) April 17, 2019
وتابع “نحن لسنا في حالة عداء مع أي تيارات أخرى، لكن لا بد من تحديد أجندتنا بوضوح، فهدفنا الثوري ربما يكون مشتركًا وهو الإطاحة بالسيسي لكن الهدف السياسي يختلف، نحن نريد دولة مدنية وهو ما لم يتوافق مع أطياف المعارضة الأخرى”.
وأوضح أن هناك حالة خوف انتابت النظام الحاليّ من تصاعد كلمة “لا” التي لا تعبر فقط عن رفض التعديلات الدستورية، بل تعكس حالة رفض للسياسات العامة المتبعة، ومن ثم يمكن توظيف هذا التصاعد بما يخدم الثورة وروحها الثائرة في نفوس المصريين على المدى البعيد.
واختتم فؤاد حديثه بأن الملايين الثلاث التي رفضت التعديلات يمكن الاعتماد عليهم كلبنة أولى في بناء كيان معارض قوي، إذ لم يكن من المتوقع أن تصل نسبة الرافضين المشاركين لهذا الرقم، وعليه فإن دورنا خلال المرحلة المقبلة يتمحور في تعزيز ثقافة الرفض لهذا النظام الذي أدى بسياساته إلى توحيد صف الكثيرين بشأن كراهية النظام، منوهًا أن هذا يحتاج لوقت طويل، من أجل إحداث تغيير حقيقي وليس فقط إعادة تدوير النظام أو إحداث الفوضى في محاولة لتلاشي أخطاء الماضي.
النتائج كشفت أن المعارضة للنظام لم تصبح مقتصرة على أبناء التيار الإسلامي بصفتهم خصومًا للنظام، بل امتدت لتغطي جميع أطياف المجتمع، حتى إن النظام خسر الكتلة المسيحية التي انقسمت على نفسها، بعد أن قاطع الجانب الأكبر منها هذا الاستفتاء
5 شرو ط أولية
في قراءة أخرى للنتائج التي أعلنتها الهيئة الوطنية للانتخابات، كشف المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام “تكامل مصر” (مستقل) أنه وفق رصده لمجريات العملية الانتخابية فقد بلغ حجم المشاركة الفعلية في الانتخابات 7 ملايين 681 ألفًا 935 ناخبًا، بنسبة مشاركة قدرها 12.52% من إجمالي المقيدين في الجداول الانتخابية، وقد كانت نسبة التصويت بالموافقة على التعديلات الدستورية 73.1% مقابل 19.6% رفضوا التعديلات، و7.3% أبطلوا أصواتهم من إجمالي المشاركين في الاستفتاء.
ووفقًا لهذه النتيجة تبلغ نسبة عدم الموافقة على التعديلات الدستورية (الرافضين+ مبطلي أصواتهم) ما يقارب 27% من إجمالي المشاركين في الاستفتاء، وإذا استبعدنا من المقارنة نسبة المقاطعين للاستفتاء وهم أغلبية المقيدين بالجداول الانتخابية، ومع الأخذ في الحسبان الممارسات غير القانونية وغير العادلة التي شابت عملية الاقتراع، فقد كان من الممكن أن تزيد نسبة عدم الموافقة على التعديلات عن ذلك بكثير، وذلك بحسب رئيس المركز الباحث مصطفى خضري.
خضري لـ”نون بوست” أشار إلى أن تلك النتائج كشفت أن المعارضة للنظام لم تصبح مقتصرة على أبناء التيار الإسلامي بصفتهم خصومًا للنظام، بل امتدت لتغطي جميع أطياف المجتمع، حتى إن النظام خسر الكتلة المسيحية التي انقسمت على نفسها، بعد أن قاطع الجانب الأكبر منها هذا الاستفتاء، وبذلك فقد نظام السيسي ظهيره السياسي الأكثر تنظيمًا في الفعاليات الانتخابية السابقة، بالإضافة إلى عدم قدرته على حشد الباحثين عن الاستقرار بعد أن عصفت بهم سياساته الاقتصادية وفقد إعلامه التأثير الكافي على هؤلاء.
حدد الباحث خمسة عوامل لتدشين كيان معارض قوي قادر على إحداث التغيير الفعلي، الأول: نسيان سلبيات الماضي، فكل فصيل من القوى السياسية المصرية يحمل رواسب من ماضيه مع باقي الفصائل، خاصة بعد أن فرقت الدولة العميقة قوى يناير، وبثت بينهم الخلافات والأطماع، ثم استخدمتهم – كل على حدة وبلا استثناء – في تفتيت ما جمعته ثورة يناير.
الثاني: التركيز على مساحات الاتفاق واستبعاد الفروق والتوجهات الفكرية المخالفة من دائرة النقاش، فالتنوع سنة الحياة وهو ما ينبغي أن يعيه الجميع، الثالث: الاتفاق على معايير واضحة لضبط عمليات التوافق بين القوى السياسية المختلفة، حتى لا يصبح الأمر مكلمة وتلاسن، ويتحول لجعجعة بلا طحن.
الرابع: إعلاء مصلحة الوطن على أي مصالح حزبية أخرى، فما خسره الجميع نتيجة البحث عن دور أو وجود خلال الـ9 سنوات السابقة ينبغي أن يكون حاضرًا في أذهان كل القوى السياسية الحاليّة، الخامس: أن تجتمع كل القوى السياسية على أرضية واحدة، تمثل حياة وكرامة المواطن المصري قاعدتها الأساسية ويمثل الحفاظ على تراب مصر سقفًا يظللها.
واختتم خضري حديثه بأن مهما بلغ اختلاف القوى السياسية الفكري، فهناك مساحات مشتركة يمكن أن تكون نواة تبدأ منها عملية التوافق، مضيفًا “أعتقد أن ثورة يناير يمكن أن تكون المساحة المشتركة التي يجب أن يجتمع عليها كل القوى السياسية المصرية، فثورة يناير كانت وما زالت رمزًا لكرامة المصريين وباعثة لحلمهم في التغيير”.
وفي المجمل قال الرافضون كلمتهم وألقوا بأول حجر في بركة السياسة الراكدة، لتبقى الأيام القادمة ومدى إمكانية التوصل إلى أرضية مشتركة لتوحيد الرؤى هي المحك الرئيسي لنجاح المعارضة في تدشين كيان قوي قادر على الاستفادة من النتائج الأخيرة التي كشفت هشاشة النظام وتراجع سطوته في إسكات الشارع الذي يتصاعد احتقانه يومًا تلو الآخر.